غفوة في مقبرة ..

قصة قصيرة
بقلم ( محمد فتحي المقداد )*


ما هي إلا بضع دقائق من انطلاق الباص المتجه بنا إلى عمّان، حتى دخلنا في قرية الجديدة، قديماً كانت تسمّى ( رجم الغراب ) ولولا قراءتي لرواية ( أهل الخطوة ) للكاتبة رفقه دودين، لما كنت قد عرفت شيئاً عن التاريخ غير البعيد للمنطقة، الباص يسير بسرعة الريح، على مسافة بعيدة من القرية، على تخوم صحراء موحشة، تقوم مقبرة القرية محاطة بسورها الإسمنتي الحديث ومظلة للوقاية من عوامل الطقس صيفاً و شتاء.
حقيقة لا ادري ما الأمر الذي جعلني أستحضر الشاعر مالك بن الريب، عندما رثى نفسه، وتخيل حاله يقتل في معركة تخيلها، و هو الفارس الصنديد المعدود في فرسان العرب، يموت ولا لم يجد من يبكي عليه إلا فرسه ورمحه وأخته وباكية أخرى تُهيِّجُ البواكيا.
الموت حق و لا جدال في ذلك، أموات هذه المقبرة بؤساء حقيقة، فلاةٌ منفتحة على قساوة الطبيعة، ممتدة على امتداد البصر، فكما يقال :" فلا طير طائر، ولا وحش غاير"، وحده صفير الريح صوت بؤس المكان، ونباح الكلاب الضالة، أخيراً تأكدت أن مشاعري ترفض الموت في قفرة، لا ناس فيها ولا بشر، ولا ماء ولا شجر..
في المنتصف الأول من عقد تسعينيات القرن الماضي، سافرت إلى أبو ظبي بقصد العمل هناك، لتحسين أوضاعي المادية المتردية، قادتني الظروف للتعرف على الصديق ناصر المتميز بثقافته الواسعة الباهرة، ازدادت دهشتي به، عندما روى لي قصيدة مالك بن الريب كاملة، بطلاقة لسان متمكن من استظهارها، علقت بذهني، أتعبني البحث المضني عنها بسؤال أهل العلم في ذلك، وجميعهم أقرّوا بمعرفتها لكن المشكلة كانت في المرجع الذي يحتويها، بعد ثلاث سنوات وإذا أنا في معرض كتاب أبو ظبي، حيث أنه فرصة للاطلاع على الكتب الجديدة و القديمة، وشاقتني رواية عبدالرحمن منيف ( مدن الملح )، سوء حظي لا زمني في هذا المعرض، لأنني لم أجد طلبي، ولكني وجدت روايته الجديدة وقتها ( عروة الزمان الباهي)، و هي تحكي قصة مناضل جزائري، من أصدقاء الكاتب، توقفت عيناي وأنا أقلب صفحاتها من آخر الكتاب إلى بدايته، ولا أدري إن هذه العادة مرذولة في القراءة، انتبهت فيما بعد لنفسي كثيراً في هذه النقطة بالذات، القراءة المعكوسة لكل كتاب جديد تقع عليه يدي.
أعتقد أن الرواية كانت كنزاً كبيراً، خاصة و أنها المرة الأولى التي أقرأ فيها شيئاً من أدب ( منيف )، سَرَتْ الطمأنينة في نفسي، وأنا أقرأ القصيدة، وأزداد سروراً كلما عُدْتُ لها، ولو أنني أتمتع بشيء من التركيز لكنتُ حفظتها تلاوة، الأيام باعدتني عن صديقي ناصر، ولم ألتق به منذ تلك الأيام وجهاً لوجه، عجا عن لقاءات الفيس بوك.
من الطرافة شعورنا بالموت ونحن نمارس الحياة، إلا ذلك الصباح الذي توجهت فيه إلى العاصمة، خالجني الأمر أن قبري في هذه القفرة البائسة، رغم اخضرار الأرض بربيعها الموسمي، لكن الخوف استبد بقلبي و أحاسيسي، يا إلهي ..!! هجرتُ بلدي، لجأتُ إلى الكرك، أريد أن يكون قبري في بلدي، حبال مقبرة رجم الغراب أوثقتني، لم تمهلني لاجتيازها حتى أصل إلى ( اللّجون ) ونبع مائه الصافي الزلال، هو لا يبتعد سوى ثلاثة كيلو مترات، حيث الماء و الحياة، تضج في مزارع الخضروات، مجاميع الأغنام في هذه المنطقة الرعوية، حياة تتشبث في الأرض أملاً بالعيش، رغماً عن قساوة الطبيعة.
في المقبرة لا ماء و لا شجر، لا أنيس ولا مؤنس، صفير الريح أنشودة القفر الكئيبة قبور متجاورة بصمتها المطبق المرعب، استلمت قبري بعد جهد جهيد، افترشته بعد أن غادرني الصحب، وقْعُ أقدامهم يبتعد رويداً رويدا، يتلاشى كطوفان السراب في المدى، الموتُ كَمَداً في غربة وبُعَادٍ على الوطن، ودندنة أمي بأغنية حفظتها بلا إرادة مني، على كثرة ما رددتها أمامي و على مسمعي :
( يا يُمّه يللا على الغربة ... ما لي صديقن يسليني
حفروا قبري أهل النخوة ... وشيّعوا نعشي الغريبيني )
أمّاه .. يا أمّاه ، ها هي ورودي ذبلت وجفّ ماؤها، الحياة جفّت في عروقي، توقف نبض قلبي، ولا من يبكيني .. ولا من دموع تبلل ثرى قبري .. جلستُ مُبرِّماً بحالي واتخذت قراري بتقديم طلب نقل رفاتي إلى مقبرة قريتي، وها أنتظر من جديد بالموافقة, استفقت من غفوة أخذتني في مجاهل بعيدة قريبة، وإذا بالباص ينعطف نزولاً إلى وادي اللَّجون، الماء وضجيج الحياة.

عمّان \ الأردن
17 \ 4 \ 2015