أعلى مراحل الاستعباط – فهمي هويدي
صحيفة الدستور المصريه السبت 24 ذو القعدة 1429 – 22 نوفمبر 2008
أعلى مراحل الاستعباط – فهمي هويدي
http://fahmyhoweidy.blogspot.com/200...g-post_23.html
http://fahmyhoweidy.jeeran.com/archi...11/732958.html
مساء الأربعاء الماضي (19 نوفمبر الجاري) أذاع التلفزيون المصري في نشرة أخبار القناة الأولى خبرا عن تنديد الأمم المتحدة بتدهور الأوضاع الإنسانية في غزة بسبب الحصار، مع تقرير حي تحدّث فيه مراسل التلفزيون عن مظاهر الشلل ونتائج انقطاع التيار الكهربائي ونفاد الوقود من القطاع. ولإثراء الموضوع، فإن مذيعة النشرة أجرت اتصالا هاتفيا مرتبا مع خبيرة بالموضوع مقيمة في لندن (اسمها دوناتيلا ردفيرا).
سألتها عن رأيها في الحصار على غزة، فقالت السيدة إنه جريمة ضد الإنسانية تنتهك مبادئ القانون الدولي الإنساني، لأن الحصار يوقع عقوبة جماعية على مليون ونصف مليون فلسطيني، لا ذنب لهم ولا علاقة لأغلبيتهم الساحقة بالاسباب التي أدت الى فرض الحصار، سألتها المذيعة عن كيفية ممارسة ضغط على إسرائيل من قبل الأمم المتحدة لكي تسمح بفتح المعابر وتزويد القطاع باحتياجات سكانه من الأغذية والأدوية وغير ذلك من مستلزمات الحياة الإنسانية، فردت السيدة ردفيرا بأن المشكلة تكمن في غياب الارادة السياسية لدى الدول المعنية بالموضوع. ذلك أن تلك الدول لم تعبّر عن درجة كافية من الحماس لرفع الحصار وفتح المعابر، وأشارت إلى مصر ودورها في إغلاق معبر رفح، ولكن المذيعة سارعت الى القول إن مصر فتحت المعبر لمرور بضع عشرات من المرضى (لحسن حظها، فإن ذلك حدث فعلا صباح يوم الأربعاء)، عند هذا الحد انتهى الخبر وانتقلت المذيعة إلى أخبار أخرى.
ما يثير الانتباه في المتابعة المصرية لما يجري في غزة، أن إعلامنا يمر بالحدث مرورا عاديا، وكأن الكارثة الحاصلة هناك واقعة في أميركا اللاتينية أو أفريقيا جنوب الصحراء، ولا يمكن أن يُفسَّر ذلك إلا بأنه من قبيل الاستعباط المتعمَّد. لأنني لا أتخيل أن يصل بنا العبط إلى الحد الذي يتحدث فيه الإعلاميون عن غزة دون أن يعلموا أنها على مرمى البصر، ودون أن يدركوا أن الحصار المفروض على القطاع ليس إسرائيليا فقط، ولكنه إسرائيلي ومصري أيضا.
في الوقت ذاته، لا نستطيع أن نتجاهل أن ثمة مباركة وتشجيعا لاستمرار الحصار وإحكامه من جانب قيادة السلطة الفلسطينية في رام الله، التي اعتبرت أن معركتها الحقيقية لم تعد تحرير فلسطين، ولكن تحرير قطاع غزة من سلطة «حماس». بل إنها ذهبت إلى اعتبار «حماس» هي العدو الذي تصر على مقاطعته وترفض الحوار معه، في حين أن الإسرائيليين صاروا في نظرها «أصدقاء» يستمر الوصال معهم طوال الوقت، والاجتماع بهم مُرحَّب به في كل وقت. إذا أردنا أن نذهب إلى أبعد من المصارحة، فلابد أن نقرر أن السلطة الفلسطينية في رام الله لا تقف فقط موقف المبارك والمشجع، ولكنها تقوم أيضا بدور المشارك والمحرِّض. وليس سرا أن سلطة النقد في رام الله، عمدت خلال الشهر الأخير إلى وقف كل التحويلات المالية التي يقوم بها التجار في غزة لشراء مستلزمات المستشفيات بالقطاع،
وفي الوقت الراهن فإن لجنة الإغاثة الإنسانية التابعة لاتحاد الأطباء العرب تواجه مشكلة في توصيل الأضاحي إلى المحاصرين بمناسبة العيد، خصوصا بعدما أفتى د.علي جمعة مفتي مصر بأنه بسبب ظروف الحصار، فإن ذبح الأضاحي في غزة صار أولى منه في أي مكان آخر، وبمقتضى هذه الفتوى، فإن لجنة الإغاثة التي قررت فتح الأبواب لتلقي قيمة الأضاحي في مصر، ثم إتمام عملية الذبح في القطاع، أصبحت تواجه مشكلة في ترتيب المعاملات المالية مع التجار هناك، إضافة إلى مشكلة توصيل لحوم الأضاحي إلى مستحقيها، بعد إرسالها من أستراليا ونيوزيلندا والهند وهي البلاد التي تبين أن أسعار الأضاحي فيها أرخص من غيرها.
إننا لا نستطيع أن نستمر طويلا في ممارسة الاستعباط، فضلا عن أن ذلك السلوك لم يعد ينطلي على كثيرين ممن أصبحوا على وعي بأن كارثة غزة الحقيقية ليس مصدرها الاحتلال الإسرائيلي وحده، ولكنها تكمن أيضا في الضلوع المصري، وتآمر القيادة الفلسطينية في رام الله. وما لم يحل هذان الإشكالان فإن مطالبة المجتمع الدولي بالتدخُّل والضغط على إسرائيل لرفع حصارها تصبح أعلى مراحل الاستعباط.