حلم النَّمُّولَة نُونَة !
"نونة" نملة صغيرة، و على غير عادة النمل فهي نملة حالمة تائهة في الأماني، فلطالما وجدتها أخواتها من الذر بجنب حبة بر أو ذرة سكر أو أي شيء آخر مما يجمعه النمل مؤونة لموسم القر أو زادا لفصل الحر، و لذا كانت أخواتها من الذر ينادينها بـ "النمولة الكسولة" !!! و كثيرا ما مثلت أمام الملكة فتوبخها أو تهددها بعقاب قاس، إلا أنها لم تكن لتكترث لما يقال لها ما دامت لا تضر أحدا، و هل الاستراحة بعد التعب جرم يعاقب عليه ؟ !
هكذا كانت توهم نفسها بمبررات لا مبرر فيها غير إقناع نفسها أنها نملة حرة تفعل ما تشاء كيف تشاء متى تشاء، و ليس لأحد عليها حسابا فكيف بالعقاب ؟ و نسيت أنها في مجتمع منظم لكل عضو فيه مهمة دقيقة و ضرورية لو ضيعها أو تهاون فيها لاختل النظام و لضاع الجميع !
و مع أنها قريبة عهد بوظيفتها كعاملة إلا أنها رأت لما خرجت من المسكن سعة الدنيا و تنوع الأحياء و اختلاف الأشياء فبدأت تستنكر حياتها، و هي نملة سؤولة و لحوحة في السؤال حتى الإزعاج و لفت انتباهها، و هي النبيهة، حشرات كالنمل تطير و رأت الفراشات فأعجبتها ألوانها و أشكالها فسألت بعض أخواتها : ما هذه الأزهار الطائرة ؟
فقيل لها: إنها الفراشات !
فتمنت لو أنها فراشة لتغيرت حياتها و لطارت و تجولت في ربوع الأرض الفسيحة بدلا من هذه الرتابة المميتة التي تحياها و البرنامج نفسه الذي تتبعه دائما : الاستيقاظ باكرا و الخروج للبحث عن القوت و العودة بأحمال ثقيلة قد لا تأكل منها و ربما ماتت في الطرق ذهابا و إيابا قد تدهسها قدم غافلة أو تلتهمها حشرة أكبر منها أو دابة من آكلات النمل... فلو كانت فراشة لكانت حياتها غير هذه و لتمتعت بالحرية حقيقة.
و هكذا راودها حلم كبير، و هي الصغيرة، و رأت نفسها فراشة جميلة خفيفة رشيقة، أجنحتها مزركشة بألوان ليست كالألوان تميزا عن باقي الفراشات، إنها الفراشة "فُرفر" بعدما كانت النملة "نونة" و هذا وحده يكفي لألا تكون كالفراشات !
و طارت مبتهجة بحريتها مزهوة بألوانها الزهرية، دارت حول نفسها مرات و مرات متأملة حالها ثم توجهت مع النسيم تطير معه حيث يسير، ثم أغراها الفضاء برحابته فارتفعت أعلى و أعلى و بدت لها الأرض تحتها بساطا كبيرا أخضر تتخلله نقوش كثيرة بألوان زاهية لا تعد و لا تحصى في نسيج عجيب، و احتارت أين تتجه و رمت بنظرها إلى الأفق فاتسع حلمها باتساعه...
و راحت تطير و تطير مبتعدة أقصى ما يمكنها الابتعاد عن مسكنها و أخواتها، ثم أعياها الطيران و أغرتها زهرة جميلة بالهبوط لعلها تستريح عليها أو ترتشف من رحيقها، غير أن "الزهرة" لم تكن زهرة بل فراشة أعياها تجوالها هي أيضا فحطت على الأرض ! و ما إن لمست "فرفر" الفراشةَ حتى انتفضت و طارت، و رغم التعب نادتها بطلتنا:
- هلمي إلي و لا تذهبي، أنا متعبة جدا و ليس لي طاقة للحاق بك، تعالي أرجوك !
عادت الفراشة المذعورة و حطّت بجنبها و سألتها:
- من أنت، يا أختي ؟
فأجابتها بصوت خافت و قد استرجعت بعض نَفَسها :
- أنا الفراشة "فرفر" و قبلا كنت النملة "نونة"، لقد سئمت حياتي النملية فتمنيت أن أصير فراشة و ها أنا ذي هنا معك بعيدة عن أرضي و مسكني و إخواني، وحيدة غريبة، ليس لي أحد أستأنس به و قد ضللت الطريق و لست أدري ماذا أفعل، فهلا صاحبتني و أرشدتني ؟
- ليتني أستطيع يا أخية ! ثم إنني لا أريد التغرير بك، لقد سئمت أنا كذلك حياتي الفراشية هذه و ليتني كنت نملة أو نحلة أعيش في جماعة تحميني و مسكن يؤويني، فما أجمل الحياة في مجتمع منظم يتآلف و يتعاون و يتآزر بدلا من حياة التشرد هذه التي أحياها اليوم و منذ ولدت ! كنت دودة تعيش بتوأدة، آكل من أوراق الشجر، حياتي هادئة، ثم تحولت إلى شرنقة ثم خرجت إلى الدنيا فراشة حرة كما ترين إلا أنني ضائعة ليس لي دار و لا لي جار، أطير يومي كله بلا وجهة و لا هدف، صحيحٌ أنا أحيا طليقة ليس لي رقيب و لا حسيب لكنني وحيدة شريدة طريدة و لست أدري كيف يكون مصيري و قد أعيتني حياتي هذه، ليتني كنت نملة في معسكر أو نحلة في قفير ! أحيا مع الجماعة أتقاسم مع أخواتي آمالها و أشاركها آلامها ! آآآآه ! ليتني كنت نملة أو نحلة !!!
هزت "نونة" رأسها في تأمل عميق، رغم العياء، و ندمت إذ تمنت أن تكون غير ما خلقت له و غشيها الحنين إلى الديار و الشوق إلى الإخوان فبكت بمرارة !
اقتربت الفراشة منها و ربتت بجناحها على جناحها و قالت :
- هوني عن نفسك يا أُخية، فلعل في غدك ما يسرك !
وما زالت معها تهدِّؤها و تسكن من روعها حتى نامت و لما فتحت عينيها بعد غفوة لم تدر كم دامت وجدت نفسها بجنب فُتاتة خبز بينما تواصل أخواتها من الذر أعمالها بحرص و بلا حس غير عابئة بها و لا بأحلامها !
البُليدة يوم الثلاثاء 6 شعبان 1430هـ الموافق 28 جويلية2009 م.
_______
ملاحظة : كتبت هذه القصة في التاريخ المثبت أعلاه و أنا في حالة نفسية مزرية و لذا أرجو من كل الإخوة أن يدلوني على كل خطإ يلاحظونه و لهم مني جزيل الشكر سلفا.