التمثال الإغريقي
قصة قصيرة
ترجمها عن الإنكليزية
نزار ب. الزين
إسمها ساره ، وهي مديرة مشروع تسويقي في ( شروق الشمس Sunrise INC ) ؛ في مكتبها أخذت تنسق الأوراق و شرائح العرض التي تحتاجها لتعرّف بآخر مشاريعها لعملاء الشركة الجدد
ملامح وجهها و حركاتها الأنيقة أثناء عملها تعكس تصورا واضحا لشخصيّتها القويّة الجادّة ، أما عيناها البنّيّتان فتؤكدان سماتها الرقيقة و الحساسة .
بعد أن أنهت ترتيب أوراقها جلست فوق كرسي مكتبها و أخذت تحملق بتمثال إغريقي صغير قابع في مواجهتها ؛ إنه لعاشقين متعانقين
يذكرها كلما رنت إليه ، بذلك الشعور الغريب الذي انتابها عندما شاهدته أول مرة خلال زيارتها لليونان منذ عشر سنوات .
كل تلك السنون لم تنسها عيني ذلك البائع الزرقاوين ، عندما نظر إليها قائلا : " إنه التميمة التي ستذكرك برفيق روحك ؛ عزيزتي إنه تمثال يعبر عن لقاء روحين " .
في ذلك الوقت لم تتمكن من فهم الرعشة التي انتشرت في جسدها كله ، ما جعلها فضولية للتعرف على أسطورة لقاء الأرواح الإغريقية .
و تعلمت بعدئذ من خلال بحثها أن الأسطورة تدور حول علاقة بين حبيبين إشتركا معا في حياة سابقة .
و عندما تقابلا ثانية في حياة أخرى ، تعرف كل منهما مباشرة على الآخر فنشأت بينهما علاقة من نوع خاص .
هذا النوع من الحياة التي عاشاها سابقا حيث كان يجمعهما ذلك الإرتباط العميق ، تكرر بعد أجيال بشكل لقاء روحي ، منحهما الطاقة اللازمة ليفهما بعضهما بعضا كما لايستطيع أحد آخر أن يفعل . أما الجزء المسلي من هذه العلاقة فهو أن روحيهما كانتا تتلاقيان عبر الأثير ؛ و أن كلا منهما كان يستطيع قراءة أفكار الآخر ، " ترى هل ذلك ممكن ؟ " تساءلت ساره متعجبة .
و لا بد من التنويه إلى أن ساره متزوجة منذ ثماني سنوات و أنجبت إبنتين رائعتين ، و هي تتمتع بزواج سعيد أيضا .
*****
- صباح الخير ساره
رفعت رأسها نحو باب الغرفة لترى السيد ( غارفيلد Garfield ) مدير الشركة العام ، يبتسم و هو ينظر إليها ، فردت محيية : " صباح الخير ( دان Dan ) . "
دان رجل طويل القامة أنيق الهندام في أواخر الأربعينيات ، لطيف ، ذكي ، جاد ، ذو عينين زرقاوين مدهشتين تنمان بشكل مباشر عن ذكائه و شخصيته المرهفة .
و هو متزوج من زوجة يحبها إسمها ( ديان Diane ) منذ عشر سنوات و لديهما إبنة حلوة و يتمتعان بحياة زوجية ناجحة و مستقرة .
ثم دار بين ساره و دان الحوار التالي :
- هل أنت مستعدة للعمل العظيم الذي ستقومين به وشيكا؟
- لقد أعددت كل ما أحتاجه .
- و ماذا عن التجهيزات الإيضاحية التي طلبت منك اصطحابها إلى إجتماعنا مع عملائنا الجدد ؟ هل قمت بإعدادها ؟
- أجل ، أعددتها .
- و ماذا عن ......
هنا قاطعته قبل أن يكمل سؤاله الجديد قائلة :
- أعلم ماذا تريد ، نعم إنني مستعدة للإجابة على حول أسئلتهم عن حصتهم في السوق اليوم ، و كيف أن تلك الحصة سترتفع بفضل مشروعنا خلال السنوات القليلة القادمة ، و كيف أن أسعارهم ستزيد و كذلك إيراداتهم كما و سيزداد عدد عملائهم أيضا؛ و أن ذلك متوقع خلال سنتين .
عندئذ غمر قلب ( دان ) إحساس عميق بالمتعة بينما كان يلاحظ مدى سعادتها و هي تشرح له كل ذلك . ضحك ثم قال لها " دعيني أفكر لعلني أجد مسألة ما نسيتيها " فأجابته و هي تضحك بدورها : " لن تعثر على شيء بالتأكيد ، لا تنس أنك دعيتني ذات مرة ، بالسيدة الكاملة " .
مرت عليهما لحظة صمت بينما كان ينظر أحدهما إلى عيني الآخر شعرا خلالها بأن الطمأنينة و السعادة قد غمرت روحيهما ، وأن عواطف غامضة و مدهشة تفوق كل تفكير أو شعور كنوع من التوحد جعل الزمان و المكان بلا معنى ، كل ذلك أتى دفعة واحدة .
إنها نفس العواطف التي شعرا بها منذ ست سنوات عند أول لقاء لهما في الشركة ، و منذئذ لم تتغير .
أبعدت ( ساره ) عينيها عن عينيه ، منهية ذلك الصمت ، ألقت نظرة نحو ساعتها ثم قالت له :" إنها الحادية عشر ".
و في طريقهما إلى قاعة الإجتماعات ، أخذ ( دان ) يشرح لساره أهمية هؤلاء العملاء بالنسبة إليه و إلى الشركة ، و أنه يأمل بعد تقديمها المشروع أن يوقعوا مع الشركة عقدا طويل المدى ، ما من شأنه إضافة جيدة إلى قائمة عملاء الشركة .
عندما بلغا قاعة الإجتماعات ، فتح ( دان ) الباب لتتقدمه ساره ؛ و حيث كانت مجموعة العملاء بانتظارهم .
كانوا أربعة جالسين حول طاولة الإجتماعات المستديرة ، بادرهم ( دان ) بالتحية ثم بدأ و معه ساره في مصافحتهم . ثم ما لبثت ساره أن ابتدأت تشرح خطة المشروع بجميع تفصيلاتها .
كانت عينا( دان ) مركزة نحو ساره ، و هي تتحرك بجوار الشاشة أثناء شرحها للمشروع بإسلوبها الجاد ، مما جعله يتذكر المرة الأولى التي إلتقى بها ، و كيف أنه أعجب بألمعيتها و بعينيها اللطيفتين و كيف أنهما ملأتا روحه بالطمأنينة و السرور .
منذئذ ، شعر بأن ثمت أمرا بالغ الخصوصية يجذبه إليها ، شيء جعله يشعر أنه يعرفها منذ زمن طويل .
و كأن علاقة عميقة من الحب و الإلفة قد جمعتهما عبر العصور
كلما نظر إلى عينيها إنتابته تلك العواطف العميقة؛ ثم استمر ذلك الشعور بكل قوته مع الأيام و من خلال عملهما معا و كأنما تشحنه كهربية لا يمكن للكلمات أن تصفها .
إن رجلا يحترم زوجته أو يحترم زواجه الناجح ، لا يمكن له أن ينمي عاطفة ما مع إمرأة أخرى .
هذه القيم العالية بدأت تؤلمه لأنه يكبتها بقسوة ؛ كان يعلم دوما أنه رجل حساس للغاية و أنه عاطفي جدا ، إلا أنه يعلم أيضا أنه لن يكون ذلك الرجل الذي يفتح قلبه لحب آخر ، خاصة بعد أن أحب و تزوج (ديان) ؛ و هو يعلم أيضا أنه جرب هذا النوع من الحب الذي يجمعه بساره ، و الذي لا يمكن أن يوصله إلى هدف ممكن ، و هو لا يعتقد أن ذلك الحب هو من واقع الحياة .و هو يؤمن كذلك أن هذا النوع من الحب موجود فقط في الشعر و الخيال ؛ هذا الشعور بالذنب تجاه دايان شتت أفكاره و عمله معا .
بعد سنتين من تعارفهما ، لاحظ أن عواطفه الجياشة تجاه ساره بدأت تخبو ، إلا أن علاقتهما أخذت تزداد عمقا .
كما لاحظ أنه أصبح يفهم ساره كما لا يفهمها أحد آخر ، و أن مساعدته لساره في أي مجال سواء في العمل أو في شؤونها الشخصية يغمره بالسعادة . و هو يعلم كذلك أن ساره تدرك بسرعة أية متاعب يتعرض لها دون حاجة للشرح ، فهي تحس بها و تشعر بالسعادة عندما تساعده في التغلب عليها
إن صداقتهما تنمو باضطراد بقوة و عمق ، و هو لم يخبرها قط حول تأثره بجاذبيتها أول مرة ، و لم يخطط من أجل ذلك . و هو يتمتع الآن بعلاقته هذه بحيث لن يفرط بها أبدا لأي سبب كان .
بالإضافة إلى ذلك, فإن بيئتهما المهنيّة و أوضاعهما الزّوجيّة لن تسمح له أن يفعل ذلك . .
كانت كل تلك الخواطر تدور في رأس ( دان) ، عندما شدته كلمات ساره الأخيرة : " إذا بدأنا عملنا في تسويق المشروع مع بداية عام 2004 فإن بداية أرباحكم ستتصاعد بعدئذ ؛ و ختاما إذا كان لديكم أي سؤال حول المشروع سأكون سعيدة بالإجابة عليها "
ألقى دان نظرة نحو تعبيرات وجوه عملائه بعد شرح ساره المستفيض ، فبدا و كأنهم يشعرون بالدهشة و الإشباع ، و همس لذاته : " كالعادة فإنها تدهش عملائي ."
ثم أجاب كل من دان و ساره عن جميع الأسئلة التي طرحها العملاء حول المشروع حيث وافق العملاء عليه و وقعوا العقد اللازم .
كانت ساره قد جلست و أخذت تصغي إلى دان و هو يناقش العملاء حول التفاصيل ؛ فبعد كل هذه السنين استمرت غير قادرة على تفسير هذا الشعور المريح الذي ينتابها عندما تسمع صوته .
*****
إنسحبا من قاعة الإجتماعات بينما غادر العملاء مقر الشركة ، و بدأ دان يشرح لساره ما يحتاجه المشروع من تعديلات ليتطابق مع رغبات العملاء ، أما هي فكانت تصغي لتعليماته بعناية تامة ، مسجلة ملاحظاته و مستفسرة عن بعض النقاط . و عادت ساره إلى مكتبها و بدأت تعد للإجتماع المقبل الذي سيبدأ بعد ساعة واحدة .
و بينما كانت منهمكة في عملها تذكرت مشاعرها التي عكسها صوت دان بينما كانت تصغي إليه ، فتوقفت عن العمل للحظة ، و ألقت نظرة عبرة نافذة مكتبها و أخذت تفكر مشدوهة بهذ النوع من الجاذبية التي تشدها إلى دان .
هي تعلم أنها منجذبة نحوه أو أن لديها بعض المشاعر الإيجابية التي تدفعها لمساعدته و دعم مواقفه من أجل تحقيق أهدافه و طموحاته و إنجازاته على كافة المستويات . إلا أنها لا تعرف لماذا ؟ و لكنها تعرف أن تلك العواطف الخاصة لم تبن تدريجيا . في الواقع عندما قابلته فإن جميع تلك العواطف القوية تفجرت مرة واحدة ، كانت محفوظة في داخلها طوال قرون و تنتظر الفرصة لتعبر عن ذاتها.
ألقت نظرة نحو التمثال الإغريقي القابع قبالتها فأصابتها الدهشة من جديد فتساءلت : " ترى هل هذا أمر ممكن ، هل يمكن لي أن أصدق تلك الأسطورة في القرن الواحد و العشرين ؟ "
هنا انتبهت إلى دان يقف بجوار باب غرفتها ثم تقدم نحو مكتبها و استند عليه و ما لبث أن بادرها بقوله : " لقد نسيت أن أخبرك أن لقاء مدراء الأقسام سيتم بعد ساعة و أود أن تعدي لمناقشة جميع الأمور المالية التي يتطلبها عمل تلك الأقسام ، و لكن ما رأيك أن نتناول طعام الغداء أولا ؟ أنا أعلم أنك دوما تنسين ذلك عندما تكونين مشغولة ! "
بينما كانت ساره تفكر بالأمر ، كان دان ينظر في عينيها ثم غير لهجته إلى رجاء : " هل تحبين سيدتي أن ترافقيني إلى الغداء ؟ " فضحكت ساره و أجابته : " بالتأكيد " ثم حملت حقيبة يدها و ألقت نظرة خاطفة نحو التمثال الإغريقي ، و ابتسمت و هي تقول لنفسها مستهجنة : " كيف سمحت للشك أن يراودني بأن تلك الأسطورة لا وجود لها ؟ "
------------------
* نزار بهاء الدين الزين
سوري مغترب
إتحاد كتاب الأنترنيت العرب
عضو الجمعية الدولية للمترجمين و اللغويين العرب ArabWata
الموقع : www.FreeArabi.com