ماري جبران... الصوت العذب

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيالطرب حالة تأخذ بالعقول وتذهب بالألباب، ليرقص القلب طرباً، وتتيه النفس نشوةً، وإن الأصل في الغناء والطرافة فيه أن يوصل المستمعين إلى هذه الحالة حالة (الطرب)، وهذه الحالة لا تتم إلا بوجود مطرب أصيل مبدع موهوب، إلا أن الموهبة لا تكفي (وحدها) أن تصل بصاحبها إلى عالم المجد ؛ إذ الموهبة تحتاج دوماً إلى من يصقلها ويشذبها ويخرجها للجمهور بحلة أنيقة تليق بمن يراها أو يسمعها...
ها هي المطربة المبدعة ماري جبران... كان صوتها عذباً جداً ؛ وكان غناؤها شدواً، وأداؤها تغريداً، كان صوتها جميلاً إلى حد أنه دفعها إلى أن تقفز فوراً من عالم المجهول إلى ذروة المجد والشهرة، ويبدو أنها نسيت أنها لم تتعلم التحليق، فلم تجد حولها من يرشدها إلى طريق الحفاظ على المجد كما حدث مع المطربين الآخرين، وإلا لكان من الممكن لها أن تتربع على عرش الغناء وحدها ؛ لكن هذا لم يحصل..
ولدت ماري جبران في لبنان عام 1905 أو 1907، ونزحت مع أبيها إلى دمشق هرباً من مجاعة الظلم التركي خلال الحرب العالمية الأولى، وكانت كنية أبيها جبور لكنها لقبت بكنية أمها جبران حتى لا يلتبس الأمر بينها وبين قريبتها ماري جبور التي كانت تعمل في مضمار الفن.
عندما سمع صوتها المطرب المصري سلامة حجازي، أعجب به واصطحبها للعمل معه في مصر، ثم تنقلت ماري جبران بين الأردن وفلسطين ومصر، ثم عادت إلى دمشق عام 1924 لتعمل مطربة في ملهى في منطقة القصاع اسمه (قصر البللور)، ثم رحلت إلى بيروت لتعمل في ملهى كوكب الشرق فترة، ثم عادت إلى دمشق لتعمل في ملهى بسمار، الذي كان موقعه مكان موقع مقهى الكمال حالياً..
ثم عادت ماري إلى مصر للتعرف هناك على كبار الملحنين من أمثال محمد القصبجي وزكريا أحمد وداود حسني، الذي لحن لها أغنيتها المشهورة ( أصل الغرام نظرة)، بعد ذلك اختلفت مع صاحب الصالة حول الأجر ؛ فعادت إلى دمشق لتعمل في ملهى العباسية، وكان موقعه مكان فندق سميراميس اليوم، وفي هذه الفترة نالت ماري جبران الشهرة الواسعة ودخلت منبر الطرب والغناء من أوسع أبوابه، ليصير اسمها على كل لسان، فلحن لها محمد محسن ورفيق شكري وغيرها...
لعلها أخطأت حين سلكت طريق الغناء في الملاهي العادية، لأنها بذلك لم تحافظ على مستواها الفني، ولعلَّ عذرها في ذلك أنها لم تجد من يشجعها على سلوك طريق الغناء في مناسبات عزيزة وضمن حفلات محدودة، فقد كان من الأفضل أن تطرب دون أن يرافق ذلك (السُّكرْ)، لأن الناس تقدر المطربة وهي صاحية لا مخمورة...
لم تُحسن ماري جبران استغلال موهبتها الإلهية المتمثلة بصوت ملائكي أصفى من الذهب، وحنجرة أغلى من الماس، ولم تعرف كيف توظفها لخدمة فنها ؛ لأنها وضعت نفسها في غير مكانها، أو لم يصقل ويوجه أحد موهبتها ؛ فبددتها كما بددت الأموال التي كانت تتدفق عليها بلا حساب ؛ فامتدت إليها يد الفقر والعَوَز، ثم أصيبت بالمرض الخبيث وأقامت في المشفى الفرنسي بالقصاع، وانفضَّ ألوف المعجبين والأصدقاء من حولها، ولم تعد تجد من يمد لها يد المساعدة، إلى أن رحلت في العام 1956، ولم يشارك في تشييعها سوى بضعة أشخاص، كانوا هم القلة القليلة الذين حفظوا في صدورهم بقية من الوفاء والود والتقدير لفنها الكبير...
لقد كان شدو صوت ماري جبران أحلى من تغريد الشحرور وغناء الكنار، ولكن ليس للجميع ؛ لدى من يتذوقون الفن الصحيح، والغناء الرفيع.
ولعله من المؤلم أن إذاعة دمشق لا تحتفظ إلا بعدد محدود جداً من أغانيها، والأكثر إيلاماً أنها لا تذيعها إلا نادراً... لذلك فإن هذه المطربة ستنسى، كما أن تراثها الفني الكبير سيأكله الغبار...