فتعاطى فعَـقر !/ كان مدار حديثي في مقالي السابق الذي حمل عنوان ( ولا تمسوها بسوء ) عن حالة الممانعة والمرابطة التي هي بمثابة سنة ربانيّة جارية يشهد لها قوله تعالى ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) ( البقرة 251) فناسب أن أثنّي بتسليط الضوء على مَن حادّ هذه السنّة الربانيّة فلم يجارِها بل شاقّها وناوأها . ولمّا كانت مقولة ( ولا تمسّوها بسوء ) تصرف أذهاننا إلى ناقة نبيّ الله صالح – عليه السلام - حيث قوله عز وجل على لسان نبيّه صالح ( هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسّوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ) ( الأعراف 73) فآثرت أن أتفيّأ ظلال هذه القصة في غضون حديثي عن مناوأة الخيار الربانيّ ، ذلك أن ناقة نبيّ الله صالح كانت بمثابة خيار ربانيّ ينطوي على آية بيّنة اهتدى بها من اهتدى ، وحاد عنها مَن حاد فغشيته الشقوة والردى ! ... أجل ناوأها أهلُ الشقوة والغواية ، مع أنها كانت للناس آية ، وأعْظِمْ بها من آية ، كانت واضحة كالشمس ! وتأمّل كيف أنّ هذه القصّة جاءت في سورة ( الشمس) ، قد خرجت للبشر من صميم الصخر ، فكانت خيارَ الله ِتعالى الذي يتوجّب امتثالُه ومناصرته والالتفاف حوله ... فرأى قومٌ بادئ ذي بدء أنّ هذا الخيار لن يتماشى مع معطيات الواقع وأحواله وملابساته ، فكانت نظرة قاصرة أن ينظر الناس إلى الخيار مجرّدا عن الركن الشديد الذي يأوي إليه ! فكيف إذا كان هذا الركن الشديد هو الله تعالى الفعّال لما يريد ؟! أتدرون ما هذا الخيار؟ إنها ناقة صالح ، لكنها لم تكن من صنيع نبيّ الله صالح – عليه السلام – إنما هي صنع الله تعالى ، وأنّى لخيارات من صناعة بشريّة قاصرة أن تزاحم أو تماثل خياراتٍ هي صنعة الله تعالى ؟! وإذا كان ذلك كذلك ! وأنها صنع الله تعالى ، فهي خيار ربانيّ لا يراعي حرماتِه وينحاز إليه بعد ذلك إلا كلّ فطن مؤمن صالح ، ولا يخرج على هذا الخيار ويناوئه إلا كلّ مغفّل مغرور عتلّ طالح ! كدأب ثمود قوم صالح – عليه السلام - ( كذبت ثمود بطغواها ) (الشمس 11) كذّبوا بهذ الخيار طغياناً هم يعلمونه من أنفسهم ، فقد غاظهم أن يروا الخيار الربانيّ يسير في الحياة ويشقّ طريقه فيها بانسيابٍ وانتظام ، لا يُلغي الآخر ، ولا يتنكّر لحقوقه ، ولا يزاحمه في حُظوظه ، ولا يبادئه الخصام ، وينضمّ لمناصرته كلّ يوم فئام من الناس تلو فئام ، وبالرغم من أنّ الانسان مفطور على الانسياق الجبلّي نحو الأمور النافعة ! فضلا عن موجبات ملكاته العقليّة الساطعة ، إلا أن القوم خرجوا على المسوّغات العقليّة والفطريّة على حدّ سواء ! ( إذ انبعث أشقاها ) (الشمس 12 ) فهناك قوى خفيّة تزعّمت معاداة هذا الخيار والتآمر عليه ، فطفقت تعبث وتحيك الدسائس من وراء ستار ، ثمّ تخرجه في قوالب يروّجها مأجورون أشرار ، فما انبعاث المجاهرين في مناوأة الخيار الربانيّ إلا عن إغراء منهم إياهم ! (أشقاها ) وهو إن لم يكن انبعاثه من تلقاء نفسه ابتداء إلا أن ذلك لم يكن ليمحو عنه الشقوة التي دمغته ، بل هو الأشقى ، ذلك أنه باشر الجريمة جريمة التصدّي والتآمر على الخيار الربانيّ ، وإن كانت هذه المباشرة عن ملأ منهم وإغراء ! وفي مقام آخر عبّر عنه القرآن الكريم بقوله ( فنادوا صاحبهم ) (القمر29): فمناداتهم إياه نداء الإغراء بالخيار ، وإنما نادوه لأنه مشتهر بينهم بالإقدام وقلّة المبالاة ، وهكذا لا يُغرَى بمناوأة الخيار الربانيّ وأهله إلا ضعفاء العقول سفهاء الأحلام ! رعاع بين الأنام ! وعبّر السياق القرآنيّ عنه بلفظة ( صاحبهم ) للإشارة إلى أنهم راضون بفعله إذ هم مصاحبون له وممالئون ! وما كان من أهل الفطنة والنصح إلا أن بادروا بتذكير قومهم بضرورة احتضان هذا الخيار الربّانيّ ومراعاة حرماته ، فصدعوا بين ظهراني قومهم بقولم : ( ناقة الله وسقياها ) (الشمس 13): هي خيار الله تعالى الذي ضرب عليه كلاءته وحمايته ، فبالتالي ينبغي أن يكون له في الواقع نوبته ، وليحذر المناوئ أن يعترض صولته، أو يعرقل جولته ، محاباة منه لخيارات أخرى معاكسة ؛ ذلك أن لفظة ( سقياها ) تشي بأنه ثمّ خيارات أخرى مضادة ، لها نوبتها في الحياة ، يؤكد هذا المفهوم قوله تعالى ( ونّبئهم أنّ الماء قسمة بينهم كلّ شرب محتضر) (القمر 28) وقوله : ( لها شِرْبٌ ولكم شِرْبُ يومٍ معلوم ) (الشعراء155) فثمّ تناوب للخيارات ، وكلّ نوبة منوط بها عظة وعبرة ؛ فهي نوبات منخرطة في سلك سنّة ربانيّة جاريّة مفادها : أنه بضدّها تتبيّن الأشياء ، ويتمايز خبيثها من طيّبها ، ليرى الناس بأمّ أعينهم أحوال الخيارات المتضادّات ومآلاتها ؛ خيار الظلمة وخيار النور ، ثمّ بعد ذلك ( ولله عاقبة الأمور ) (الحج41) ، ( فأمّا الزبد فيذهب جفاء وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) (الرعد17)هذا من جهة . ومن جهة أخرى : فقوله ( ناقة الله وسقياها ) (الشمس13)فيه تحذير للقوم من مطاردة هذا الخيار وأهله ومحاصرتهم والتضييق عليهم ، وبالتالي لزوم الانكفاف عن محاولات حِرمان هذا الخيار وأهله من أن يأخذوا في واقع الحياة نوبتهم وصولتهم! ( إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ) ( القمر 27) فالخيارات الربانيّة تعلو عن أقصى ما يعرفه البصراء العقلاء من الغايات ، وتتجاوز إلى حدّ تعجز العقول عن منالِه ، وتتضاءل نوافذ الأفهام عن مضاهاة مثالِه ، خيارات يلتف حولها من شمَخت أنوفهم ، وتعالت في مراتب العزّ هممهم ونفوسهم ! فلم يعكّر صفوَ عقولهم كدَرُ شبهة ، ولم يلوّث نقاءَ فطرهم غرَرُ شهوة ! في الوقت نفسه يفتتن بها مَن كانوا على النقيض مِن ذلك ، فانزلقت بهم شهواتهم إلى سوء المزالق ! ( فارتقبهم واصطبر) (القمر27): هي وصيّة المولى تبارك وتعالى لمناصري خياره ،( فارتقبهم ) والارتقاب : الانتظار ، ( واصطبر ) من الاصطبار وهو: الصبر القويّ الذي لا يعتريه ملل ولا ضجر ! فلا ملل ولا ضجر ، ولا تذمّر ولا تسخّط ! مهما ادلهمّت الخطوب ، واشتدت الكروب ، وتفاقمت أعباء الواقع وضغوطاته الثقيلة ! وفي قوله تعالى ( فارتقبهم ) إيحاء بأنهم واصلون بسوء أعمالهم وصدّهم وصدودهم عن خيار ربّهم إلى الدّاهية ، ومنجرفون – لا محالة – إلى الهاوية ! كما أنه في قوله تعالى ( واصطبر ) إيماء بأنّ أنصار هذا الخيار سيمسّهم أذى قبل انفصال النزاع ! ويصطفي الله تعالى لمناصرة خياره في كل زمان وأوان فئاماً عالِي المراتب ، رفيعي المناقب ، عظيمي المطالب ! أهلَ مَلاحةٍ لا أهلَ قباحة ! لا يروج عليهم باطل ، ولا يقدر على مدافعتهم مطاوِل ! فمَن أبى بعد ذلك إلا أن يعادي هذا الخيار وأهله يكون قد سَفلَ عن أدنى الإنسان ، والتحق بما لا يَعقل من الحيوان ! ( فتعاطى فعقر ) (القمر 29): صيغة تفاعل تقتضي تعدّد الفاعل ؛ إذ شبّه تخوّف القوم من قتلها لِما أنذرهم به رسولهم من الوعيد وتردّدهم في الإقدام على قتلها شبهه بالمعاطاة ؛ فكلّ واحد يُحجم عن مباشرة ذلك ويشير بغيره كأنه يعطي ما بيده إلى يد غيره حتى باء بها أشقاهم !! وذا ديدن الفعل الشنيع الموجّه صوب الأخيار ، يقدّم كلّ واحد من الأشرار فيه صاحبَه ويبرّئ نفسَه منه ، وإن كانوا من قبل ذلك ؛ من قبل أن يعتريهم التردّد لمن المحرّضين ، وكذا المناوئون لخيار ربّ العالمين يُرجع بعضُهم إلى بعض اقترافَ الجريمةِ لعلمهم في قرارة نفوسهم أنهم أهل تآمر فيظلّون يتوجّسون خيفة من عاقبة صنعهم ، ووبال صنيعهم !! ومن زاوية تفسيريّة أخرى فإن قوله تعالى ( فتعاطى ) يوحي بجُعالة – أُجرة ورشوة وعِوَض - رُصِدت لمن يقوم بهذه الفعلة الشنعاء ! وهذه حال ودأب الذين يتولّون كِبْرَ مشاقّة الخيارات الربانيّة ومضادتها ، فهم مأجورون يُغريهم الحُطام الدنيويّ لاعتراض الخيار الربانيّ ! وفي هذا السياق : كَمْ مِنْ رَجُلِ سَوْءٍ تعاطى فعقر قضيّة إيمانيّة ! وكم مِنْ مُعتدٍ تعاطى فعقر ثوابتَ وطنيّة ! وكم مِنْ أثيمٍ تعاطى فعقر مُسَـلّماتٍ بَدَهيّة ، وكم مِنْ خؤونٍ تعاطى فجرّ على أبناء شعبه بليّة ! وكم مِنْ فتّانٍ تعاطى فأفشل الجهود الوحدويّة ! وكم مِنْ مُغرِضٍ تعاطى فلوّث معالمَ الهويّة ! كم مِنْ حاكم ٍ تعاطى فرهن الوطن لأيدٍ أجنبيّة ! وكم مِنْ مَشّاء بنميم تعاطى فأفسد للودّ قضيّة ! وكم مِنْ عُتلّ تعاطى فخان لوطنه وشعبه قضيّة ! وكم مِنْ زنيم تعاطى فعقر قِيَمَاً خُلُقيّة ! وكم مِن مُريبٍ تعاطى فغيّر ملّته ! وكم من رخيصٍ تعاطى فباع ذمّته ! وكم مِن أفّاكٍ تعاطى فخان أمّته ! وكم مِن أجيرٍ تعاطى فرَهن قلمَه وكلمته ! وكم مٍن جبانٍ تعاطى فبدّل موقفه ووجهته ! وكم من طالب وجاهة وسلطة تعاطى فحرف بوصلته ! وكم وكم !! والقائمة تطول .... ولكن لم ولن يفلت أحدٌ تعاطى فعقر لن يفلت من قبضة العدالة الربّانيّة ! ... وهل دارت دائرة السّوء في قصّة نبي ّالله صالح – عليه السلام - على المتعاطي فقط ؟ كلاّ فإنها أحاطت بكلّ مَن كان له ضلع من طرْف خفيّ أو جليّ في التحريض على حصارهذا الخيار ومطاردة أنصاره ! فكانت الحصيلة : (فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسوّاها ) (الشمس 14) نسب العقر لواحد لا لجماعة ، لأنه قال : ( فتعاطى فعقر ) بالإفراد مع أنه أسند عقر الناقة في آيات أخرى إلى ثمود كلهم كقوله في سورة الأعراف نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربّهم ) (الأعراف77)، وقوله تعالى في سورة هود: (فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة ايام ذلك وعد غير مكذوب ) ( هود65) وقوله في سورة الشعراء ( فغقروها فأصبحوا نادمين ) (الشعراء157) ، وقوله في سورة الشمس( فكذّبوه فعقروها ) (الشمس 14) ليدل ذلك كلّه على أن ثمود اتفقوا كلّهم على عقر الناقة ، فنادوا واحدا منهم لينفذ ما اتفقوا عليه ، أصالة عن نفسه ونيابة عن غيره ، ومعلوم أن المتمالئين على العقر كلهم عاقرون ، وصحّت نسبة العقر إلى المُنفذ المباشر للعقر ، وصحّت نسبته أيضا إلى الجميع ، لأنهم متمالئون كما دلّ عليه ترتيب تعاطي العقر بالفاء في قوله ( فتعاطى فعقر ) : على ندائهم صاحبهم لينوب عنهم في مباشرة العقر في قوله تعالى ( فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر ) : أي نادوه ليعقرها . إذن قد اغتر القوم بما هم فيه من حال ، فاجترأوا على القيام بما قاموا به غير آبهين بوبال المآل ، فلقد كان تبدّل الأحوال عند هؤلاء من المحال ... وذا محض غفلة منهم وضلال .... فهم يجادلون في خيارات الله وهو شديد المِحال ! فكانت العاقبة والمآل ( إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر )(القمر31) : فكلّ من يستهين بالخيار الربانيّ وله يُخالف ، وعلى قمعه والتضييق عليه يستنصر ويُحالف ، فحتماً ستنزل بساحته المخاوف ، ويقيناً ستدهمه القوارع وتحيط به الصوادع ، وتلفّه الصوارع ... ولن ينفعه يومها ما كان يماري فيه ويُنازع !!! فبذا جرت السنن الربانيّة ، ومضت النّواميس الإلهية ، ولا ينفع من قدره حذر ، ولا يدفع مرادَه كيدٌ ولا حِيل ، وإن كثر العَدَد ، وجلّ المَدَد !!!( والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون ) (يوسف21) وأخيراً : تأمّل ثنايا قوله : (فكانوا كهشيم المحتظر) (القمر31)إذ تكمن فيه عبرة شاخصة ؛ فالهشيم ما يبس وجفّ من الكلأ ومن الشجر، وهو مشتق من الهَشم وهو الكسْر لأنّ اليابس من ذلك يصير سريع الانكسار ، وقوله ( المحتظِر) الذي يعمل الحظيرة ويَبْـنيها وذلك بأن يجمع الهشيم ويلقيه على الأرض ليرصفه بعد ذلك سياجاً لحظيرته ! قلت : وفي مصارع هؤلاء لمناوأتهم لخيار ربهم سياج فكريّ لذوي الألباب من أن يتورّطوا في شيء من مناوأة الخيار الربانيّ ، وفيها حظرٌ لأنفسهم من التردّي في هكذا قبائح وفضائح! ومَنخولُ القولِ بعد ذلك كلّه : قد غدت مناصرة الخيار الربانيّ من أمّهات الأطايب ، في حين مناوأته من أعجب العجائب ... فمناصرته باعث النصروالظفروالعزة والرّحمات ، ومناوأته باعث الشقوة والنقمة والخيبة والخذلان والويلات ... فهل مِنْ مُدّكر؟!