قصة قصيرة
1- فانوس الإشارة
بقلم : قحطـان فؤاد الخطيب
juror.qahtan1@gmail.com
شاءت الأقدار أن تختطف يد المنون قرينة قروي لم يملك من حطام الدنيا سوى ابنته الوحيدة (ع) ، ذات السبعة عشر ربيعا ، ومجموعة تعد بالأصابع من الماشية ، وأثاث قروي متواضع يتناسب مع كوخه في أسفل سفح جبل شامخ ، أواسط ثمانينيات القرن الماضي .
وترك فراق الزوجة الأبدي أسً عميقاً لدى الريفي الأرمل ، مما جعله يسترسل في النوم الصباحي على غير عادته ، ضاربا أخماسا بأسداس ، ومهملا الحقل الذي يعتاش من مورده . وانتهت مراسيم العزاء ، وانقضت فترة ما تدعى بالأربعينية ، فإذا به متماد في تمرده على العمل ، رغم إلحاح ابنته على ضرورة ممارسته للحياة اليومية بصورة طبيعية ، معزية اياه بأن ما حصل قدر مكتوب ، أرادته السماء . بيد إنها كانت تتحسس كوامنه بذكاء ، وتتلمس مدى حاجته لنصفه الآخر ، مدركة ، بدهاء ، أن الحياة ترتكز على قطبين: إذ لا ليل دون نهار ، ولا شروق دون غروب . كان شديد الإصغاء لأفكارها الواقعية ، متوسما فيها كل خير ، محترما إياها كثيراً ، غادقا عليها جل حنانه ، معجبا بنضجها المبكر ، خصوصا عندما شنفت أسماعه في الآونة الأخيرة بضرورة زواجه . كانت تلح على هذا الموضوع . فما كان منه إلا أن قال:
-" كيف أتزوج ، يا مدللتي ، وصورة أمك ما برحت شاخصة في ذهني ، ناهيك عن أنني لا أطيق رؤية حواء سواها ! ؟ "
-" إنها سنة الله ورسوله . "
-" ومن هي سعيدة الحظ تتزوج كهلا في خريفه الذهبي الستيني ؟ إنني ، يا (ع) ، طاعن في السن ، ولا أتحمل ، كما أسلفت لك سابقا ، رؤية أية أنثى تروح وتغدو في صحن الكوخ بعد أمك . "
-" صحيح . . . . لكن إن لنفسك عليك حقا . "
-" إذن ، أنت متحمسة للفكرة ، أليس كذلك ؟ ! "
هز رأسه وسحب نفسا عميقا من غليونه التراثي ثم صمت برهة وراح مشدوها
يتساءل :
-" كيف ابدأ ؟ "
-" تبدأ كما يبدا كل المنكوبين أمثالك. اذهب ، على سبيل المثال ، إلى صديق عمرك ، (س) ، واسترشد بآرائه ، أو فاتح المختار أو الشيخ ( . . . . . ) . "
ثم ابتسمت وهي تكيل له المديح والتشجيع قائلة:
-" انك لازلت شابا ، طافحا بالحيوية والطموح ، يا أبتي . أنسيت ابن عمك ( . . . ) ، حين تزوج وأنجب وهو في العقد الثامن من عمره ؟ ما رأيك بزوج خالتي ( . . . . ) ، ألم يتزوج وهو مشارف على الثمانين ؟ و . . . . و . . . . .
-" إذن ، لأجرب حظي وأذهب إلى جاري (س) ، فربما يسعفني في حل معضلتي إن كان لها حل !"
وما أن أسدل الليل خيوطه حتى كان أبو (ع) يطرق باب جاره ، إلا انه لم يكن هناك ثمة جواب . فاقفل راجعا . بيد أن صوتا أنثويا رقيقا دار عنقه عنوة ، جاعلا إياه يعود صاغرا إلى الوراء ، كأنه وقع في مجال مغناطيسي لا فكاك منه . وهناك سأل عن السيد ( . . . . ) ، فأخبرته بلهجة ريفية مميزة بأنه يغتسل الآن . وإن شاء فلينتظر خارجا .
وفيما ذهبت لتبلغه بقدوم الضيف ، استرجع ذاكرته المشوشة . فإذا به طريدة جاذبيتها. والتفت يسارا ويمينا بشكل لا إرادي ، تتراقص في مخيلته أسئلة فجائية عمن تكون تلك الحسناء . وكم سيكون فردوسا لو شاطرته عشه ! و .... و ....
مضت لحظات أنسته مصيبته وبعثت الدفء في قلبه إلى أن خرج الصديق الجار (...) ، حيث رحب به كثيرا وألح عليه في الدخول . وبعد ترحيب تقليدي حار سأله عن مبتغاة ، لكن الأخير أطبق صامتا . فعاد وسأله ثانية عن مبتغاه فأجاب قائلا :
-" بصراحة ...... باختصار .... جئت أطلب العون منك ! أنت صديق العمر جئت أستشيرك في مسألة شخصية ولكن ، أرجو أن لا أكون مخطئا أن التي فتحت لي الباب هي كريمتك . وأنا … وأنا أريد القرب منك طالبا يدها . "
أجابه ، بعد تردد وتأمل ، وكأن لسان حاله يقول :
-" إلا إذا سمحت لي بالقرب منك وطلب يد ابنتك ، أيضا . فأنا أرمل مثلك ، وهما الوحيدتان لنا ."
لم يطل الرد كثيراً ، فإذا به يقول : " موافق . "
كان وقع الخبر على الشابة (ع) طبيعيا جدا ، رغم إجحافه لفارق السن . إذ تمنت من كل قلبها السعادة لأبيها المنكوب ، حتى ولو تم ذلك على حساب أنوثتها ومستقبلها ، فيما كان وقع الخبر على جارتها (د) أليما كالصاعقة . فهي مراهقة صلفة وعنيدة ، حباها الله سحراً فتاناً وجمالاً أخاذاً !
ولكن إذا خطط الآباء في الريف فعلى الأبناء الطاعة ليس غير .
دارت الايام ، وزفت العروسان الى بيت الزوجية ، كما تأقلمتا مع الجو الجديد رغم رتابته وروتينيته القاتلة :
استيقاظ مبكر ، إعداد للفطور ، ذهاب الزوجين الى الحقول ، العودة منها ، تناول العشاء ثم الرقود الى النوم....حياة ميكانيكية محضة لا تليق بأنسان العصر الحديث .
وفي إحدى الأمسيات الشتوية الحالكة الظلام ، وبينما كان ابو (ع) يغط في نوم عميق ، بعد عمل يوم مضن ، كانت تشاركه النوم في الحجرة المقابلة أمه المسنة ، ضعيفة البصر . وما أن انتصف الليل حتى أفاقت الزوجة المراهقة ، ومضت ، كعادتها ، بصمت نحو مجمع التبن الملاصق لغرفتها ، ورأسها مزدحم بالأفكار ، غير آبهة بالظلام الدامس ، والسكون الرهيب يلفها من جهاتها الأربع .
كانت وجهاً لوجه أمام نقطة التحول واتخاذ القرار المصيري ، على غير ما ألفت
سابقاً . تلفتت يميناً وشمالاً ، بحذر ويقظة ، وتطلعت الى السماء ، فإذا بها : .............. نجوم متألقة ، تعوم بغبطة ، مفترشة الفضاء ........ تشق عتمة السماء ، ونسيم عليل يداعب شعرها المنساب بدلع على جسدها .
مدت يدها بغرور لألتقاط علبة كبريت . والتقطت أناملها الناعمة عود ثقاب بتثاقل وارتباك وكأنها تعلم ما يخفيه لها قدرها هذا المساء . أشعلت الفانوس وأنسلت الى بواية البئر العتيق ، محركة يدها المرتجفة يميناً وشمالاً ، مؤذنة برفع الستار عن الفصل الأول من التراجيديا . ثم أقفلت راجعة نحو غرفة التبن تاركة الفانوس منيرا .
تسلم (دون جوان) ، الطرف الثاني ، الإشارة الفانوسية بان كل شيء على ما يرام . لقد أعياه السهر . وكأنه هو الآخر يحس أن ثمة مصيبة قد تقع اليوم . كان شاباً مفتول العضلات ، بدين البنية ، رياضياً بالفطرة . كان مشغول البال على مدار الساعة بسيدة كوخ جاره ، السيدة (........) . كان وسيماً ، ذا سحنة ملفتة النظر .............. .. تحرك من موقعه بصمت ورهبة في جنح الظلام . لم يتوقع ما يكدر صفوه في ذلك الليل ، الدامس الظلام .
وصل الى غرفة التبن . وهناك التقى الخائنان . وكلاهما كانا يتوجسان شيئاً ما . في البداية قرر الأعتذار والعودة الى كوخه . لكن الجارة شيمته على البقاء ، مخففة عنه ، ومشجعة إياه . رقد الأثنان صامتين كصنمين حجريين دون حراك .
وشاءت الصدف أن تفيق حماتها وتذهب الى دورة المياه . أطبق الصمت وساد
السكون . تناولت العجوز الفانوس ومضت الى مبتغاها . وما هي إلا لحظات حتى عادت هي الأخرى مضطربة نوعاً ما وكأن عقلها الباطن باح لها بأن ثمة خطر في انتظارها . دفعها الفضول الى فتح باب التبن دون سابق تخطيط وكأن قدرها ساقها إلى حتفها . لدهشتها ماذا رأت ، وهي ضعيفة البصر ؟ قالت لنفسها في بحر ثوان " انهم لصوص ليس غير ! " ولم تتمالك نفسها البتة فطفقت تصرخ بشكل لاشعوري " أبو ..... السراق في دارنا ...... النجدة . "
وهنا استجمع الجار القبيح قواه فسدد لها طعنة في صدرها ، دونما وازع أو رادع ، خرت على أثرها صريعة . وهنا دخل الزوج المخدوع ليستطلع الأمر . فماذا رأى ؟
زوجته المصون وراء ابن الجار الخائن ! أمه العجوز مضرجة بالدم ، لا حول لها ولا قوة . قبل أن ينبس بكلمة واحدة وجه له ابن الجار الغادر طعنة نالت من رقبته ، خر على أثرها على الأرض . وهنا حفزت الزوجة الخائنة عشيقها على الانقضاض عليه والتخلص منه نهائياً . فكان لها ما أرادت .
انتهى المشهد الدرامي بكل حيثياته . وماذا بعد ؟ ما العمل ؟ هنا أختلطت الأمور عليهما . قالت له : "تخلصنا منه وانتهى كل شيء . لنحتسي كأسينا " . وهنا حدث ما ليس في الحسبان . استرجع الشاب نفسه وأحس بالذنب العظيم . قاطعها قائلاً : " نعم انتهى كل شيء . ولكن ليمض كل واحد منا إلى سبيله . " أشعل سيكارة وسحب نفساً عميقاً جداً وتركها راجعاًً الى كوخه دون أي كلام .
أنبلج الصباح ، وأنتشر الخبر، وتاه رجال الشرطة مذهولين : كيف حصل ما حصل ؟ ومن الفاعل والمستفيد ؟ أظهر التحقيق الأولي براءة الزوجة مما حصل . بيد أن القاتل الفعلي مضى إلى رجال الشرطة وأخبرهم القصة من الألف الى الياء . وهذا لا يعفيه من العقاب !
اهتزت المنطقة لهول المصيبة . وتشتت أفكار الناس . وتعجبوا من أن ثمة سلوكاً منحرفاً انتقل إلى منطقتهم الآمنة كالفايروس القاتل . مارست الشرطة ورجال القضاء تحرياتهم الدقيقة واتخذوا القرارات الحاسمة . ومرت الشهور فإذا الحكم بالموت يطال المجرمين .
وساعة التنفيذ أقترب مأمور السجن من القروي المدان سائلاً أياه عما يطلب . فأجاب : " لاشيء سوى سيكارة واحدة نوع كريفن أي " . وجيء له بها ، واستنشق آخر نفس عميق ، ثم استدار نحو المأمور قائلاً :
" الموت بأنتظاري ، وأنــا لست خائفاً منه لأنني أقر بجريمتي ، وأستحق جزائي . ولكن ، بالله عليك ، أيها المأمور ، أين هي القروية البائسة (..................................) الآن ؟
أجابه المأمور على الفور : " أنها تنتظر ذات الحكم . وقد تكون صعدت أو هي في طريقها إلى الصعود إلى أعواد المشنقة الآن .
" أنبهر المجرم . وقبل أن يكمل سيجارته ، رماها على الأرض ، باصقاً عليها ، وهرول نحو المشنقة دون طلب من يرافقه ، صارخــــــــــــا بأعلى صوته :
" أنها السبب في كل شيء .................................................. . "
الموصل / حزيران 1982