تجدُّدُ موسيقا الشِّعْرِ العربيِّ الحديث
--------------------------------------------------------------------------------
تجدُّدُ موسيقا الشِّعْرِ العربيِّ الحديث
بين التفعيلة والإيقاع
"ولم يَقصرِ اللهُ العلمَ ، والشعرَ، والبلاغةَ على زمنٍ دون زمنٍ،
ولا خصَّ به قوماً دون قومٍ.
بل جعل ذلك مشتركًا مقسومًا بين عباده في كل دهْرٍ،
وجعل كل قديم حديثاً في عصره ".
(ابن قتيبة: الشعر والشعراء)
تمهيد:
في بحثي هذا عن تجدد موسيقى الشعرالعربي الحديث أهدف إلى أمرين:
أولهما : محاولة الوقوف على أثر هذه الموسيقا في تطوير الشعر، وتجدد أشكاله وتعدد صوره. ، إيجابا(بتحققها) ، كما في :الموشحات والمخمسات والرباعيات ، والمواويل، والمزدوجات ،وصولا إلى الشعر الحر(التفعيلة)، و سلبا (بغيابها) كما في قصيدة النثر(الإيقاع).
والثاني : الكشف عن فاعلية هذه الموسيقا في بناء القصيدة ، وتشكيلها تشكيلا فنيا خاصا. بما يجعل من الموسيقا مدخلا للولوج إلى فهم البنية والدلالة.
ولهذا حاولت ألا أكتفي برصد صور التجديد وظواهره ، بل كنت أعنى بالكشف عن أسباب لجوء الشاعر إلى إيثار صورة ما للتعبير عن تجربته ، كما رأيت فيما أسميته ظاهرة الالتفات العروضي . وهو أن يبدأ الشاعر بنمط من أنماط الشعر أو بحر من البحور ، ثم يأخذ في غيره لدلالة يقصدها.
ووصف شعرٍما بأنه حديث وصف زمني لا يوحي بحكم قيمة فرب حديث أفضل من قديم ورب حديث في وقته يوصف بعد ذلك بالانحطاط ؛ فالشعر الذي كتب إبان عصور الانحطاط الأدبية كان في وقته حديثا !
لهذا صدرت البحث بكلمة ابن قتيبة المنصفة :
"ولم يَقصرِ اللهُ العلمَ ، والشعرَ، والبلاغةَ على زمنٍ دون زمن، ولا خصَّ بها قوماً دون قومٍ. بل جعل ذلك مشترَكاً مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديمٍ حديثاً في عصره ". (ابن قتيبة: الشعر والشعراء)
أما المراد بالحديث هنا وصفا للشعر فللدلالة على محاولات التجديد في الموسيقا الشعرية قبيل النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي حيث بدأ التجديد في القصيدة الحديثة يتجاوز المعاني والصور والأفكار إلى تجارب فنية تتصل بالتشيكل الموسيقي ، فبدأت محاولات الشعر المرسل و الشعر المنطلق والشعر الحر والشعر المنثور ، وصولا إلى قصيدة النثر أو قصيدة الإيقاع .
أما أهم اتجاهات التجديد ومدارسه في عصرنا الحديث فهي: مدرسة الإحياء، وجماعة الديوان، وجماعة أبولو ومدرسة المهجر، ثم جماعة مجلة شعر.
ثم عرفت موسيقا الشعر وبينت أهميتها من حيث هي عنصر واحد من عناصر بناء الشعريتضافر مع سائر العناصر في بناء النص الشعري وتشكيله.
وهي عنصر مهم كاشف عن جانب من جوانب أسرار البناء الفني .
وقد استعملت مصطلحات الموسيقا والوزن، والإيقاع وقد وصلت إلى معادلة يمكن تصويرها على النحو التالي:
الموسيقا الشعرية = الوزن + الإيقاع
فالوزن وحده يعني النظم ، وهو إذا خلا من الإيقاع يقع في التنافر، والإيقاع وحده لا يحقق الموسيقا الشعرية بل هو عنصر من عناصرها ، يحقق الانسجام الذي يكون في الشعر كما يكون في النثر. هو خصيصة من خصائص الكلمة الفصيحة في النثر والشعر جميعا، كما يقول ابن أبي الإصبع : " وهو أن يأتي الكلام متحدرا كتحدر الماء المنسجم، سهولة سبك وعذوبة ألفاظ، حتى يكون للجملة من المنثور والبيت من الموزون وقع في النفوس وتأثير في القلوب ما ليس لغيره"(تحرير التحبير : 480)
أما مناقشتي لبدائل التفعيلة في تصوير الوزن فقد كانت في إطار علم العوض، أعني في إطار تصوير أوزان القصيدة العربية الأصيلة، ولم تكن على مستوى الإبداع ، ولهذا صرحت بأن حواري في هذا البحث لم يكن مع المبدعين فللمبدع ما كان مبدعا أن يختار ما يناسب تجاربه ورؤاه ، ولكن كان نقاشي مع علماء الموسيقا الشعرية من جهة ، ومع نقاد قصيدة النثر المنافحين عنها من جهة أخرى.
أما عن ترجيحي لاتخاذ التفعيلة أساسا لتصوير الوزن العروضي للقصيدة العربية فمبني على إدراك اتساقها مع طبيعة اللغة العربية ذاتها بصفتها لغة اشتقاقية. ثم لدقتها وموضوعيتها في هذا التصوير ، فلا يختلف اثنان في التعبير عن صورة الوزن إذا هما لجأا إلى التفعيلة بينما إذا لجأ نفر إلى اتخاذ غيرها كالنبر أو المقاطع وجدت بينهم اختلافا كثيرا.
وليس ترجيحي للتفعيلة نفيا لاستعمال غيرها من الوسائل الصوتية معها ، بل أرى أهمية الاستئناس بتلك الوسائل على ألا تكون بديلا للتفعيلة بل مساعدا لها، للوقوف على أسرار موسيقا الشعر.
وليس نقدي لبعض مقولات نقاد هذه القصيدة الجديدة رفضا لها بل هو نقاش معهم يهدف إلى محاولة تحرير المفاهيم النظرية حولها، ومنها مفهوم مبدأ التعويض. الذي احتل مكانة كبيرة لديهم.
وقد رأيت أن مفهوم التعويض لدى نقاد قصيدة النثر (الإيقاع)
وقد أفرزت هذه المدارس أنماطا عدة بقي منها في المشهد الشعري ثلاثة أنماط ما يزال لها مبدعوها ونقادها والمتذوقون لها وربما وصل الإعجاب بأحدها إلى درجة التعصب ورفض ما عداها، وهي:
أولا: الشعر الأصيل: وهو المحافظ على الشكل الموسيقي للقصيدة العربية القديمة مع التجديد في إطارها من حيث ابتكارصور جديدة ، والتنويع في نظام التقفية .
ويطلق عليه كثيرون تسميات غير منهجية مثل:
• الشعر التقليدي: وهي تسمية توحي الانتقاص إذ تنسبه إلى التقليد ، وسوف ترى أن كل نمط يبدأ جديدا وينتهي إلى التقليد في الشكل. فمن الظلم ان يسمى تقليديا .
• الشعر الخليلي: وهي أيضا تسمية خاطئة ، لأن هذا الشعر موجود من قبل الخليل كما عبر الشاعر:
قد كان شعر الورى صحيحا من قبل أن يخلق الخليل
ومن المعروف أن العلماء زادوا على الخليل بحرا مشهورا هو المتدارك ، كما زادوا صورا عروضية مبتكرة عما قرروا الخليل كل هذا في إطار هذا الشعر. فعلم العروض من أكثر العلوم قابلية للتجديد والتطوير منذ نشأته.
• الشعر العمودي أو (العامودي) : أطلقوا هذا الاسم ظانين أن العمود مرتبط بالشكل العروضي وهو خطأ؛ لأن عمود الشعر مرتبط بالمعنى واللفظ والتحام البناء في الأساس .
• شعر الشطرين : وهي كذلك تسمية غير دقيقة لأن من هذا الشعر شعرا يُؤلف على شطر واحد كالشعر الجاري على المشطور والمنهوك من البحور.
• شعر البيت: وأرى أنها تسمية مقبولة من حيث الوزن ؛ لأنه من الممكن النظر إلى البيت بصفته وحدة موسيقية تمثل معظم الخصائص الموسيقية للقصيدة، أما إذا كان المراد بها أن البيت وحدة القصيدة بعامة فهي مرفوضة ، فالقصيدة العربية القديمة وحدة واحدة كما يوضح عبد القاهر قائلا: "ولكن البيت إذا قطع عن القطعة كان كالكعاب تفرد عن الأتراب، فيظهر فيها ذل الاغتراب". (أسرار البلاغة : 206)
فبان من هذا وغيره من نصوص التراث خطأ أن يكون البيت وحدة القصيدة.
على أن ليس في تسميته بالأصيل انتقاص لغيره من الأنواع المبتكرة، فهذه الأشكال إنما هي فروع عنه، دون أن يلغي احدهما الآخر.
ثانيا: الشعر الحر:
وقد شاع هذا المصطلح رغم عدم دقته ، بل برغم ظلمه له ولأصحابه حتى اتهمه معادوه بأنه متحرر من الوزن والقافية ، وسموه أيضا بأنه شعر سائب، مما جعل شاعرا منهم كصلاح عبد الصبورأن يقسم لهم : "موزون والله العظيم".
ولكن أدرك الدرس العروضي والنقدي خطأ هذا المصطلح في التعبير عن المراد به، فذهب إلى تسميته بشعر التفعيلة.
وقد بان من البحث أن شعر التفعيلة وفق توفيقا واضحا في تفجير الطاقات الموسيقية التراثية في القصيدة مدركين قيمة التفعيلة والقافية في تشكيل القصيدة تشكيلا موسيقيا موحيا .
ثالثا: قصيدة النثر: وقد وقف كثير من الرافضين لها عند التناقض الظاهر في المصطلح وقد دعوت هنا إلى تجاوز الجدل حول هذا الأمر لأنه من الممكن النظر إليه على أنه تقييد للقصيدة بأنها نثر ، كما في مصطلح (اسم الفعل) لدى النحاة لقسم من أقسام الكلم في العربية ، وهو ليس متناقضا.
وحتى لو سلمنا بعدم دقة المصطلح فقد كان مصطلح الشعر الحر غير دقيق وبالرغم من هذا نجح هذا اللون من الشعر نجاحا كبيرا .
على أن من الدارسين من حاول إيجاد مصطلحات بديلة ، أرى أقربها إلى الاشتقاق والدلالة مصطلح (النثيرة) ويجمع على نثائر؛ فهو أفضل من تسميات مقترحة مثل: النسيقة، والعصيدة ، وكلها بعيدة عن الدلالة على هذا النمط ، ولا سيما مصطلح : النثعيرة التي يأبها الاشتقاق . ويمجها الذوق.
ومن التسميات تسمية الشاعرعز الدين المناصرة لها بأنها القصيدة الخنثى . وأنا أرفض مثل هذه التسميات لأنها غير موضوعية.
وقد استعملت في البحث مصطلح (قصيدة الإيقاع ) في مقابل (قصيدة التفعيلة) على فرض أن هذه القصيدة قد تخلت عن التفعيلة ولجأت إلى الإيقاع، وقد ناقشت هذا الفرض.
والإيقاع يختلف عن الموسيقا فهو جزء من كل ، وليس تحقق الإيقاع في قصيدة النثر تعويضا عن الموسيقا الغائبة فقد أكد كثير من الباحثين أن الإيقاع يكون في النثر كما يكون في الشعر.
وقد حاول نقاد هذه القصيدة البحث عن أسباب هذا الإيقاع ورصدها، والتقنين له من خلال طرح التساؤل:
لقد وفق الخليل في رصد موسيقا الشعر العربي ، ونجح ابن سناء الملك في كشف القوانين الموسيقية للموشحات ، واهتدت نازك الملائكة فلماذا لا يأتي مكتشف لإيقاعات قصيدة النثر فيعمل لها ما عمله الخليل وابن سناء ونازك.
وأرى أن مهمة هذا المكتشف المنتظر صعبة إن لم تكن مستحيلة؛ لأن الذي ساعد هؤلاء السابقين أنهم تعاملوا مع أشكال لها موسيقاها رغم تنوعها. أما قصيدة النثر فما تزال تبحث عن إيقاعها المرتجى . ومن يدري ربما وصلت إليه يوما فلا تضطر نقادها إلى تكلف القول في بدائل غير مجدية.
لم يكن نقاشي هنا مع شعراء قصيدة النثر؛ لأن للمبدع - ما كان مبدعا - أن يختار النمط الذي يناسب تجربته ورؤياه ، وإنما كان حواري مع نفر من نقاد هذه القصيدة يفتعلون خصومة بينها وبين الأنماط الأخرى ، كما لاحظت في خطاب الناقد الكبير صلاح فضل الذي يتحدث عنها بلغة ثورية حربية، مع ان هذه الخصومة ليست حاضرة في أذهان كثيرين من مبدعي قصيدة النثر، مثل نزيه أبو عفش الذي يبدع أيضا في قصيدة التفعيلة ، ومثل الشاعر عماد الغزالي الذي عاد إلى النبع في ديوانه "لا تجرح الأبيض"
وبعد فأرجو أن تكون كلمتي تلك التي أثارتها شجون موسيقا الشعر وتجددها وتجلياتها حضورا وغيابا ، وأن تكون دعوة لنبذ التعصب، ومحاولة التعايش الإيجابي بين الأنماط الثلاثة ولنذكر أن شعر التفعيلة لم يلغ الشعر الأصيل بل تعايشا معا تعايشا أفاد كليهما. وما زالا حاضرين في المشهد الشعري ولن يضيرهما أن تنجح قصيدة النثر في اتخاذ مكان لها في المشهد الشعري معهما، بل لا ضير للثلاثة في أن يصدر شكل رابع جديد ؛ لأننا لا بد أن ندرك أن قصيدة النثر ليست نهاية التاريخ الأدبي. [/right]
أسئلة موسيقا الشعر:
--------------------------------------------------------------------------------
[right]
تمثل أسئلة الموسيقا الشعرية مدخلا أساسيا لدراسة جانب مهم من جوانب التجديد في بناء الشعر وتشكيله، أما أهم هذه الأسئلة ، فهي:
لماذا الموسيقا؟
ما الموسيقا؟
كيف سارت ؟
إلى أين تتجه؟
ولما كان التراث العروضي مرجعا مهما لرواد التجديد الشعري ، إيجابا كما سترى لدى شعراء التفعيلة ، وسلبا لدى رواد قصيدة النثر ، أردت أن أجلِّي صورة هذا التراث حتى يكون الحوار معه والاختلاف حوله على بصيرة . من غير تعصب له ، ولا ضده.
وقد حاولت أن أقدم أجوبة ليست – بطبيعة الحال – فاصلة ؛ لإدراكي أن الكلمة الأخيرة في العلوم الإنسانية - وعلم الشعر منها- لمَّا تُقلْ.
وحسبي أن تمثل المحاولة اجتهادًا يثري الحوار، ويتقدم به خطوة في قضية شاغلة للدرسين النقدي والعروضي، كما هي شاغلة للمثقف العربي بعامة الذي يرى الشعر على تعدد تجلياته، وتنوع تشكيلاته جزءا حيًّا من نسيج ثقافته. تذوقا له ، وتأثرا به.
لماذا الموسيقا؟
للموسيقا وقْعٌ جليٌّ في قضية التجديد الشعري ، فقد كانت، وما تزال ، محور هذا التجديد، في مراحل عديدة في تاريخ الأدب العربي وحاضره، وكانت أسئلة الموسيقا أبوابا للولوج إلى أشكال جديدة ، إيجابا(بتحققها) : كالموشحات والمخمسات والرباعيات ، والمواويل، والمزدوجات ،وصولا إلى الشعر الحر(التفعيلة)، و سلبا (بغيابها) كما في قصيدة النثر(الإيقاع).
كما كانت أسئلتها أسبابا للخلاف ، الذي يصل في أحايينَ كثيرةٍ إلى درجة الصراع.
يقول الدكتور علي عشري زايد(1) :"كان أول ما لفت أنظار المتابعين لحركة التطور في القصيدة العربية المعاصرة من مظاهر التجديد في بنية هذه القصيدة – وأبرز ما لفتهم – هو شكلها الموسيقي ، حتى لقد نسبت حركة التجديد كلها إليه في البداية ".
والموسيقا عنصر من عناصر الشعر مهم ، لكنه ليس العنصر الوحيد ؛ لأن الشعر في الأساس :" صياغة وضرب من النسج وجنس من التصوير".(2)
حتى العلماء الذين بالغوا في أهمية عنصر الوزن كابن رشيق القائل :
"الوزن أعظم أركان حد الشعر، وأولاها به خصوصية". (3)
لا يرى له فضلا إذا لم تتحقق شروط الشعر الأخرى، فيقول:
"إنما سمي الشاعر شاعرا؛ لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره. فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه أو استظراف لفظ وابتداعه ، أو زيادة قيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر؛ كان اسم الشاعر عليه مجازا لا حقيقة ولم يكن له إلا فضل الوزن ، وليس بفضل عندي مع التقصير".(4)
فانظر كيف فقد الوزن فضله حين قصر الشاعر في عناصر الشعر الجوهرية.
ولهذا لم يجعل القرطاجني الوزن من عناصر الشعر الضرورية ، بل جعله من العناصر الأكيدة المستحبة ، وقدم عليه تخاييل الأسلوب، فقال :
"والتخاييل الضرورية هي تخاييل المعاني من جهة الألفاظ، و الأكيدة والمستحبة تخاييل اللفظ في نفسه وتخاييل الأسلوب وتخاييل الأوزان والنظم، وآكد ذلك تخييل الأسلوب ".(5)
أما القافية فقد رأى بعض العلماء كالسكاكي أنها لا تلزم الشعر لكونه شعرا بل لأمر عارض .. وإلا :
"فليس للتقفية معنى غير انتهاء الموزون ، وأنه أمر لا بدَّ منه ، جارٍ من الموزون مجرى كونه مسموعا ..فحقه ترك التعرض ".(6)
بهذا ترى أن العلماء العرب لم يبالغوا في عنصري الوزن والقافية في بناء الشعر بالصورة التي يشيعها بعض الدارسين ، مع إدراكهم لقيمتهما وتأثيرهما.
ويقول الدكتور مندور:"نستطيع أن ننتهي إلى أن الموسيقا الشعرية تعتبر أحد المقاييس الأساسية التي تميز فن الشعر عن فن النثر ، مع اعترافنا بأنها ليست المقياس الوحيد بل يجب أن نجمع إليه مقاييس أخرى..فإذا اجتمعت للشعر الموسيقى والمضمون الشعري وأسلوب التعبير اللغوي الشعري الطابع ، استطعنا ارتكازا على هذه العناصر أن نميز بين الشعر والنثر".(7)
الموسيقا ، والعروض :
وموسيقا الشعر - بداهة - أسبق من علم العروض ، وقد عبر عن هذا صلاح الدين الصفدي قائلا:
"إن العروض كان في الوجود بالقوَّة إلى أن أظهره الخليل بن أحمد، كما قال القائل:
قد كان شعر الوَرَى صحيحاً من قبل أن يُخْلَقَ الخليلُ
فالعروض ما زال موجوداً، أخرجه الخليل إلى الوجود أم لا. ولليونان شعرٌ أيضاً، ويسمُّون تقطيعه الأيدي والأرجل. وقال الرئيس ابن سينا: واضع النحو والعروض في العربيَّة يشبه واضع المنطق والموسيقى في اليونانيَّة". (8)
ولهذا لم يكتف علماء البلاغة بهذا الحد بل قسموا الشعر خمسة أقسام، منها:
• مرقص : كقول أبي جعفر طلحة وزير سلطان الأندلس:
والشمس لا تشرب خمر الندى في الروض إلا من كؤوس الشقيق
• ومطرب : كقول زهير:
تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله
• ومتروك : وهوما كان كلا على السمع والطبع كقول الشاعر:
تقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا قلاقل هم كلهن قلاقل". (9)
ولعلك لاحظت أن التقسيم لا يراعي الوزن العروضي، فإنها كلها بما فيها المتروك مشتركة في هذا الحد الذي يقام به الوزن ، بل يراعي إليه أدوات إبداعية أخرى كالتناسب والانسجام بين الحروف والكلمات ، والتصوير، والذوق الفني.
فدل ذلك على أن الوزنَ ليس الموسيقا بل هو الحد الأدنى منها.
ثم إن تحقيق عنصر الوزن لا يشفع للشعر حين يفتقد العناصر الفنية الأخرى، يقول القرطاجني : وأردأ الشعرما كان قبيح المحاكاة والهيئة ، واضح الكذب خليا من الغرابة ، وما أجدر ما كان بهذه الصفة ألا يسمى شعرا وإن كان موزونا مقفى". (10)
وعندما تحدث العلماء عن عمود الشعر العربي جعلوا الوزن في المرتبة الأخيرة بعد تحقق شروط الشعر الأساسية ، كما يتجلى في تعريف المرزوقي :
"هو شرف المعنى وصحتة ، وجزالة اللفظ واستقامته،والإصابة في الوصف (وهو التصوير) ، والتحام أجزاء النظم والتئامها ، على تخير من لذيذ الوزن ".
قال:" وإنما قلنا على تخير من لذيذ الوزن لأن لذيذه يطرب الطبع لإيقاعه ويمازجه بصفائه ، كما يطرب الفهم لصواب تركيبه واعتدال نظومه ولذلك قال حسان:
تَغَنَّ في كُلِّ شِعرٍ أَنتَ قائِلُهُ إِنَّ الغِناءَ لِهَذا الشِعرِ مِضمارُ
وأما القافية فيجب أن تكون كالموعود به المنتظر يتشوقها المعنى بحقه واللفظ بقسطه وإلا كانت قلقة في مقرها مجتلبة"..(11)
وبهذا تكتشف خطأ من ظن أن عمود الشعر يعني الوزن فقط. فالوزن كما رأيت شرط واحد من شروط كثيرة يتحقق بها عمود الشعر العربي .
ولهذا أرى أن يكفَّ دعاة القطيعة مع التراث ، عن اختزال التراث الشعري العربي في هذا تعريف للشعر بأنه (كلام موزون مقفى دال معنى) فحسب، بالرغم من أنه تعريف غير مسلم به لدى العلماء العرب أنفسهم، وحتى الذين تبنوه إنما كان ذلك على مستوى التعليم والتقعيد ، حتى يشمل جيد الشعر وورديئه ،
العروض والإيقاع:
وقد ربط العلماء العروضَ بالموسيقا ربطا واضحا ، يقول السيوطي:
"إن أهل العروض مجمعون على أنه لا فرق بين صناعة العروض وصناعة الإيقاع إلا أن صناعة الإيقاع تقسيم الزمان بالنغم وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة"(12)
كما ربط ابن طباطبا بين الوزن والإيقاع فقال :" وللشعر الموزون إيقاع يَطرَبُ الفهمُ لصوابه ، ويرد عليه من حسن تركيبه واعتدال أجزائه. فإذا اجتمع للفهم مع صحة وزن الشعر صحة المعنى وعذوبة اللفظ فصفا مسموعه ، ومعقوله من الكدر تم قبوله له، واشتماله عليه، وإن نقص جزء من أجزائه التي يعمل بها، وهي: اعتدال الوزن، وصواب المعنى، وحسن الألفاظ، كان إنكار الفهم إياه على قدر نقصان أجزائه. ومثال ذلك الغناء المطرب الذي يتضاعف له طرب مستعمه، المتفهم لمعناه".(13)
ويرد الدكتور سعد مصلوح على من يزعم أن الوزن العروضي خال من الإيقاع فيقول:"البحر نوع من الإيقاع لا مشاحة في ذلك ..فهو بنية إيقاعية على كل حال".
ثم يصور العلاقة بين الوزن والإيقاع، قائلا:""إن الوزن نوع والإيقاع جنس فكل وزن إيقاع ولا عكس".(14)
وبدا ذلك لعلمائنا حين عرفوا علم العروض بأنه:
" علم يُبحث فيه عن أحوال الأوزان المعتبرة للشعر العارضة للألفاظ والتراكيب العربية ، وموضوعه الألفاظ العربية من حيث إنها معروض للإيقاعات المعتبرة في البحور الستة عشر عند العرب ..؛ فعلى الأول يكون علم العروض من فروع الموسيقا، وعلى الثاني من فروع علم الشعر على مذهب المتأخرين ، وغايته الاحتراز عن الخطأ في إيراد الكلام على الإيقاعات المعتبرة".
كما يتضح الربط في محور التعامل مع الشعر من حيث كونُه أصواتا فإذا كان علم الموسيقا(15) :"موضوعه الصوت من جهة تأثيره في النفس باعتبار نظامه في طبقته وزمانه".
فإن علم العروض موضوعه أصداء الحروف – وفق تعريف الزمخشري -:
"وكيفية تقطيع الأبيات أن تَتَّبع اللفظ، وما يؤدّيه اللسان، من أصداء الحروف، وتُنكّبَ عن اصطلاحات الخطّ جانباً " . (16)
إن موسيقى الشعر تتعلق بالوزن والإيقاع معا ، فهي حصيلة التناسب بينهما ، وقد التفت إلى هذا المعنى تعريف الموسوعة العربية العالمية لموسيقا الشعر بأنها:
"تَعْنِي مراعاة التناسب في أبيات القصيدة بين الإيقاع والوزن، بحيث تتساوى الأبيات في عدد المتحركات والسواكن المتوالية، مساواة تحقق في القصيدة ما عرف بوحدة النغم ، وهذه الموسيقى اتخذت معايير متعددة . منها ما يتصل بعروض الشعر وميزانه، ومنها ما يتصل بقافيته ورويه ، وهذا يحقق إيقاع الشعر وموسيقاه".(17)
وقد وفق هذا التعريف لموسيقا الشعر في الربط بين الوزن والإيقاع، ولكنه أخطأ في مسألة تساوي الأبيات في الحركات والسكنات؛ لأن في هذا إهدارا لقيمة العلل والزحافات في تنويع الوزن.
العروض، وتجدد موسيقا الشعر:
رأى علماؤنا أوزان الشعر متجددةً متطورةً ، يقول الزمخشري :
" أُقدّمُ - بين يدي الخوض فيما أنا بصدده- مقدّمةً. وهي أنَّ بناء الشعر العربي على الوزن المُخترعِ، الخارج عن بحور شعر العرب، لا يَقدحُ في كونه شعراً عندَ بعضهم. وبعضُهم أبى ذلك، وزعم أنه لا يكون شعراً حتى يُحامَى فيه وزن من أوزانهم".(18)
فالباب مفتوح إذن لاختراع أوزان جديدة، خارجة عن البحور الشعرية المعروفة.في رأي فريق من علماء العروض، على رأسهم الخليل بن أحمد.
أما أصحاب المذهب الثاني فعبر عنهم السكاكي قائلا :
"ومذهب الإمام أبي إسحاق الزجاج في الشعر هو : أن لا بد من أن يكون الوزن من الأوزان التي عليها أشعار العرب وإلا فلا يكون شعرا".
ويتعقبه السكاكي قائلا: ولا أدري أحدا تبعه في مذهبه هذا". (19)
فدل ذلك على كثرة أنصار المذهب الأول الذي يفتح باب التجديد في الأوزان، بل والزيادة عليها باختراع أوزان جديدة.
وينتصر الزمخشري للمذهب الأول فيقول:
"والذي ينصر المذهب الأول (وهو مذهب الخليل نفسه كما في حاشية الكتاب) هو أن حَدَّ الشعر لفظٌ، موزونٌ، مقفّى، يدلّ على معنى.(20) فاللفظ وحده هو الذي يقع فيه الاختلاف بين العرب والعجم. فإنَّ العربيّ يأتي به عربيّاً، والعجميّ يأتي به عجميّاً. وأما الثلاثة الأُخر فالأمر فيها على التَّساوي بين الأمم قاطبة؛ ألا ترى أنا لو علمنا قصيدة على قافية، لم يُقَفّ بِها أحدٌ من شعراء العرب، ساغ ذلك مساغاً لا مجالَ فيه للإِنكار.
فالذي يميز الشعر العربي عن غيره عنصر واحد من عناصره ألا وهو اللفظ أما العناصر الأخرى( المعنى والوزن والقافية) فمشتركة في الجوهر.
لهذا " فليس غرض العروضي من هذا المذهب أن يحصر الأوزان التي إذا بُني الشعر على غيرها لم يكن شعراً عربيّاً، وأنَّ ما يرجع إلى حديث الوزن مقصور على هذه البحور الستةَ عشرَ لا يتجاوزها. إنما الغرض حصر الأوزان التي قالت العرب عليها أشعارهَا. فليس تجاوز مقولاتها بمحظور في القياس، على ما ذكرت".( 21)
التفعيلة وحدة قياس الوزن :
اختار علماء العروض التفعيلة وحدة لقياس الوزن، وقد نجحت التفعيلة في ضبط موسيقا الشعر العربي وتصويره عبر مسيرته إبداعا وتعليما ، وقد تبناها أيضا رواد قصيدة التفعيلة في تصوير تجربتهم كنازك وعبد الصبور،
يقول الدكتور محمد مندور(22 ):
" أما الموسيقى فتختلف طبيعتها من لغة إلى لغة ، ومن شعر لغة إلى شعر لغة أخرى ، فالشعر اليوناني واللاتيني القديم ، كانت موسيقاه تقوم على الكم اللغوي للمقاطع .... وأما شعرنا فمن المعروف أن أساسه الموسيقي الحركة والسكون. ومن الحركات والسكنات تتكون الفواصل المختلفة( أضف إلى ذلك الأسباب والأوتاد) وكل مجموعة من الفواصل تكون تفعيلة تقابل ما يسمى بالقدَم عند الغربيين. وأوزان الشعر تتكون من مجموعات من التفاعيل المتساوية أو المتجاوبة مع اختلافات بسيطة تسمى بالزحافات والعلل".
وهذه الزحافات وتلك العلل تجسد مرونة العروضيين في تصويرهم لاستعمالات الشعراء الحية لموسيقا الشعر ، حيث تفيد في كسر رتابة انتظام التفعيلة ، وتتيح للشعراء قدرا من التصرف مقبولا، يقول الأصمعي(23) :" الزحاف في الشعر كالرخصة في الفقه لا يقدم عليها إلا فقيه".
والعجيب أن يحسَبُها الأستاذ ميخائل نعيمة عيوبا يجب التخلص منها ، فيقول(24):
"حينئذ يا أخي تثمر قرائحنا فيكثر شعرنا وتقل زحافاتنا وعللنا".
ولكن بعض الباحثين تكلفوا إيجاد بدائل للتفعيلة ، منها:
1- نظام المقاطع : والمقطع (syllable) : وحدة صوتية تتكون من صائت واحد على الأقل بالإضافة إلى احتمال وجود صامت واحد أو أكثر قبل الصائت أو بعده ، أو قبله وبعده".(25)
ويذهب الدكتور أنيس إلى أن المقاطع "تفضل ما جرى عليه أهل العروض من تحليل البيت إلى تفاعيل لأن المقطع كوحدة صوتية يشترك في جميع اللغات".(26)
لكن علماء العروض لم يكن غرضهم تحليل جميع اللغات بل تحليل الشعر العربي فحسب ، كما أن العربية لغة اشتقاقية لا مقطعية.
2- نظام النبر:stress) ) وهو إعطاء النبرة المناسبة للمقطع والنبرة قوة التلفظ النسبية التي تعطي للصائت في كل مقطع من مقاطع الكلمة أو الجملة وتؤثر في درجة النبرة في طول الصائت وعلو الصوت".(27)
وقد حاول الباحثون عن بديل لنظام التفعيلة أن يقعدوا للنبر قواعد، كالدكتور إبراهيم أنيس والدكتور كمال أبو ديب .
ثم لم تسلم هذه القواعد من طعن:
أما قواعد الأول:"فيعيبها - كما يقول الدكتور سيد البحراوي(28) - عدم الدقة في صياغة بعض الأحكام ترتب عليه خلاف غير معلن بين التابعين".
وأما الثاني "فيحدد قاعدة غير منطقية لكي يسمح لنفسه بحرية وضع النبر على الكلمات التي تساعد تحليله" . كما يرى الدكتور البحراوي( 29)
فأنت ترى أن نظاما هذا شأنه غير منضبط ومفتقد للموضوعية بدليل أنك تجد من يتخذونه ينبرون في مواضع مغايرة النبر الآخرين فكيف يصلح بديلا لنظام التفعيلة التي لا يختلف فيها اثنان في تصوير بيت الشعر بها
ولهذا نقرر مع الدكتور مندور أن" تقسيمَ العربِ الشعرَ إلى تفاعيلَ كسبٌ ثابت لا سبيل إلى نقضه وهو جوهر الوزن".(30)
وقد كانت الموسيقا، وما تزال، جهة مهمة من جهات التجديد في الشعر فلم يقف الشعراء عند حدود العروض وهذا أبو العتاهية يصرح بأنه "أكبر من العروض".(31)
يقول الأصفهاني: "وله أوزان لا تدخل في العروض ، وله أوزان طريفة قالها مما لم يتقدمه الأوائل فيها".
ولم ينكر عليه ذلك بل أشاد العلماء بما ابتكر من أوزان .
وقد واصل المبدعون تجديداتهم الشعرية من حيث الأوزان والقوافي وقد برز ذلك التجديد في العصر الحديث فبرز ما سمي بمجمع البحور والشعر المرسل .
كما كثر التأليف على صور عروضية جديدة لم يرصدها علماء العروض ، وكان الفضل في هذا التجديد لظهور مدارس واتجاهات ادبية أهمها: مدرسة الإحياء ، وجماعة الديوان ، وجماعة أبولو ومدرسة المهجر ، حتى حمل راية التجديد في موسيقا الشعر أصحاب الشعر الحر أو ما سيستقر الدرس النقدي والعروضي على تسميته : (شعر التفعيلة)
الشعر الحر(شعر التفعيلة)
أحدثَ اختيارُ نازك الملائكة مصطلحَ الشعر الحرِّ التباسا؛ لأن هذا المصطلح((FREE
VERSE
إنما يعني :"الشعر الذي يتحرر تحررا مطلقا من أي ترتيب إيقاعي مطرد". (32)
أما نازك فقد عرفته بأنه :" شعر ذو شطر واحد ليس له طول ثابت وإنما يصح أن يتغير عدد التفعيلات من شطر إلى شطر ويكون هذا التغيير وفق قانون عروضي يتحكم فيه، وأساس الوزن في الشعر الحر أنه يقوم على وحدة التفعيلة والمعنى البسيط الواضح لهذا الحكم أن الحرية في تنويع عدد التفعيلات أو أطوال الأشطر تشترط بدءا أن تكون التفعيلات في الأسطر متشابهة تمام التشابه ، فينظم الشاعر من البحر ذي التفعيلة الواحدة المكررة أشطراً تجري على هذا النسق:
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن
... ويمضي على هذا النسق حرا في اختيار عدد التفعيلات في الشطر الواحد غير خارج على القانون العروضي لبحر الرمل جاريا على السنن الشعرية التي أطاعها الشاعر العربي منذ الجاهلية حتى يومنا هذا" . (33)
وينسب بعض الدارسين ريادته إلى الشاعرة العراقية نازك الملائكة بقصيدة الكوليرا سنة 1947م ، وينحاز فريق إلى نسبته لمواطنها بدر شاكر السياب، في ديوانه أزهار ذابلة والتحقيق أن كليهما مسبوق بعدد من الشعراء ، منهم الشاعرمحمود حسن إسماعيل في قصيدة "مأتم الطبيعة "(34) ( التي كتبها في جنازة أحمد شوقي أكتوبر ، سنة 1932م، ونشرتها مجلة "أبولو" عدد فبراير 1933م وقدمتها بعنوان (قصيدة من الشعر الحر)
أما الشاعر اليمني : علي أحمد باكثير ، ففد حدثنا عن تجربته في اكتشاف هذا النمط قائلا(35 ):" إننا إذا أردنا أن نوجد المسرحية الشعرية عندنا فإن الأصلح لذلك هو الشعر المرسل على الوضع الذي وصفناه من قبل وهو المستند على التفعيلة لا البيت كوحدة نغمية تتلاحق التفعيلات في الجملة المسرحية الواحدة متصلة مترابطة دون نظر إلى الحيز الذي تشغله، فقد تشغل ما كان يشغله بيت واحد أو أكثر أو أقل، شأنها في ذلك شأن الجملة النثرية".
موسيقا شعر التفعيلة :
عُني كثير من الباحثين بدراسة موسيقا الشعر الحر(التفعيلة) بدءا من نازك الملائكة، والدكتور إبراهيم أنيس في فصل بعنوان:" والدكتور عز الدين إسماعيل، والدكتور شعبان صلاح في كتابه القيم:"موسيقى الشعر بين الاتباع والابتداع، والدكتور السعيد عبد الله في كتابه:"التجديد في موسيقى الشعر العربي المعاصر – دار الفنون العلمية بالإسكندرية .
1- في الإطار:
أدرك رواد القصيدة والمعنيون بها من النقاد وعلماء العروض عناية هذا النوع من الشعر بالبحور العربية :
تقول نازك:" وينبغي ألا ننسى أن هذا الأسلوب الجديد ليس " خروجا" على طريقة الخليل، وإنما هو تعديل لها، يتطلبه تطور المعاني والأساليب خلال العصور التي تفصلنا عن الخليل. ومزية هذه الطريقة أنها تحرر الشاعر من عبودية الشطرين: فالبيت ذو التفاعيل الست الثابتة يضطر الشاعر إلى أن يختم الكلام عند التفعيلة السادسة، وإن كان المعنى الذي يريده قد انتهى عند التفعلية الرابعة، بينما يمكنه الأسلوب الجديد من الوقوف حيث يشاء.". (36 )
لكن التحرر من عبودية الشطرين قديم في التراث العروضي الخليلي، كما في صور المشطور والمنهوك من البحور؛ فمشطور الكامل مثلا شطر واحد عروضُه ضربُه، وكذلك المنهوك المكون من تفعيلتين.
الالتفات العروضي:
وقد يجمع الشاعر بين إطاري الشعر الأصيل وشعر التفعيلة كما صنع الشاعر الدكتور أحمد درويش:
"والكلماتُ المورقات مستعلن مستفعلان
تنساب عبر أغنية مستفعلن متفعلن
يرسلها الناي الرخيُّ ساعةً مستأنية: مستعلن مستفعلن متفعلن مستفعلن
يا عابر الدرب عرج عند مغنانا لا يعرف الليل والسمَّــــارُ أحـزانا
مرَّ الضُّحى عرقا تنساب دفـقته في الأرض خصبا وإرساء وبنيانا
تجاوبت في صداه الرحب أغنيةٌ وشى بها الفأسُ والعصفورُ دنيـانا
الليلُ طاب يا صحابْ مستفعلن متفعلان
والسَّمَرُ امْتدَّ فعانقَ السحَرْ مستعلن مستعلن متفعلن
وكاد أن يغيب عن سمائنا القمر متفعلن متفعلن متفعلن متفْ
من قبل أن يخيم الظلام في الدروب مستفعلن متفعلن متفعلن متفْعْ
ولا نرى طريقنا". (37 ) متفعلن متفعلن
فقد بدأ الشاعر بنمط التفعيلة :
ولكنه صاغ الأغنية بوزن آخر هو البسيط في صورة من صوره الملتزمة بعدد التفعيلات:
مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن
إحساسا منه بمدى مناسبة هذا الشكل للتعبير عن الغناء، وبعد أن تنتهي الأغنية، ويعود إلى السرد ، يلتفت مرة أخرى إلى نمط شعر التفعيلة لأنه رآه أكثر مناسبة للسرد.
وتجد ذلك كثيرا عند محمود حسن إسماعيل كما في القصائد : "مع الله" و"قصيدة الحب" و "قصيدة الحياة ، وقصيدة الأرض ". (38 )
أولا: البحور البسيطة
آثر الشعر الحر البحور البسيطة المكونة من تفعيلة واحدة متكررة ، كالوافر ، والكامل، والرجز، والرمل، والمتدارك ،و المتقارب ،
ومن أمثلة ذلك قصيدة محمود حسن إسماعيل(39) على بحر الكامل :
" أهواك يا وطني/ يا كل ما تروي به شفة الهوى فتني
وتصبه في الكأس أيامي / رحيق الخلد ، أشربه ويشربني".
ثانيا: البحور المركبة:
وربما لجأ شاعر التفعيلة إلى البحور المركبة بعد إعادة تشكيلها ، مثل: بحر الطويل، والبسيط، والسريع والخفيف،
ومن أمثلة ذلك قصيدة لأدونيس(40) على بحر البسيط :
هَدَمْتُ مملكتي متفعلن فعلن
هَدَمْتُ عرشي وساحاتي وأورقتي متفعلن فاعلن مستفعلن فعلن
ورحت أبحث محمولا على رئتي متفعلن فعلن مستفعلن فعلن
أعلِّم ُالبحرَ أمطاري وأمنحُهُ متفعلن فاعلن مستفعلن فعلن
ناري ومجمرتي مستفعلن فعلن
وأكتب الزمن الآتي على شفتي متفعلن فعلن مستفعلن فعلن
واليوم لي لغتي مستفعلن فعلن
فقد التزم أدونيس بتفعيلات بحر البسيط مع التنويع في عدد القوافي في السطر، ولاحظ أنه رغم هذا الاتزام بالوزن استطاع أن يعبر عن فكرته ، ولم تكن الموسيقا عائقا ، بل أضافت إلى الفكرة.
وترى نازك( 41) أن هذا لا يمت للشعر الحر وإنما هو نظام وزن يقوم على شطر ونصف لا يتعداهما .
وانا أرى أن هذا تحكم منها ، فإن لم تكن شعرا حرا ولا شعر بيت فماذا تكون؟
بحر جديد:
اكتشف الدكتور أحمد مستجير بحرا جديدا منبثقا من بحر الخبب سماه "بحر السبب"(42) يتيح فيه للشاعر تجاور سبعة متحركات كقول صلاح عبد الصبور:
حين أقارع أحدهم الحجة بالحجه". /5///5///////5/5///5/5/5
وقد أكثر عبد الصبور من هذا الصنيع لاسيما في مسرحه الشعري ، ولكنه كان يعد هذا من بحر الخبب(المتدارك) الذي رأى أنه صار في شعر التفعيلة (حمار الشعر) بديلا لبحر الرجز في القديم. يقول عبد الصبور :"شاع استعمال هذه التفعيلة (فعلن) في شعرنا الحديث . وفيها موسيقية راقصة ولكنها إن حركت آخر حروفها أحيانا ، وهذا ما لم يجزه الأقدمون أصبحت ذات إيقاع جاد .. وتحريك الحرف الأخير يمارسه جميع من يكتبن الشعر الحديث رغم تحريم الأقدمين له. وهذه المحاولة الأولى . ولا شك أن المسرح الشعري سيطور عروضه".(43)
وهذه ملاحظة صائبة تتطلب درسا خاصا لموسيقا الشعر المسرحي، وتطورها.
2- في التفعيلة (الزحاف والعلة):
نحا شعراء التفعيلة إلى تجاوز الزحاف والعلة التي قررها علماء العروض إلى صور جديدة، ومن أمثلة ذلك تفعيلة مستفعلن في بحر الرجز، ،"حيث تتحول إلى تفعيلة (مفاعيلن) الخاصة ببحر الهزج ، ومثاله، قول صلاح عبد الصبور(44):
الناس في بلادي جارحونَ كالصقورْ : مستفعلن مفاعيلن متفعلن متفعْ
وفي قصيدة نغمتان جديدتان (45) :
اكتب على جناح الريحِ عصْف بركان هدَرْ : مستفعلن مفاعيلن متفعلن مستفعلن
فقد جاءت التفعيلة الثانية (مفاعيلن) وقد شاع هذا الصنيع لدى شعراء التفعيلة وبعض الدارسين يخطئهم في هذا ، والبعض يجيزه كالدكتورعبد العزيز نبوي ، وقد حللها الدكتور مستجير تحليلا رياضيا في كتاب:"مدخل رياضي إلى عروض الشعر العربي" (46)
هذا عن الزحاف أما عن العلة فقد كانت التغييرات فيها أكثر ومن أمثلت ذلك ، قول الدكتور مستجير:
متى يفرق الشباب بين الوهم والحقيقه
فالتفعيلة الأخيرة : متفعلاتن
"لاحظ ترفيل التفعيلة الأخيرة ، ومعلوم أن مستفعلن لا يدخلها الترفيل في العروض القديم ، ودخوله هنا يعد تجديدا في تفعيلة الرجز".(47)
فليست العلة كما تزعم نازك مرضا يصيب التفعيلة، وإنما هي تصرف إبداعي فيها ، تقرَّاه علماء العروض من استعمالات حية للشعراء ، فلم يتهموهم بالخطأ، وإنما صوروا تغييراتهام فاجادوا التصوير.
يقول التبريزي:" والزحاف جائز كالأصل والكسر ممتنع . وربما كان الزحاف في الذوق أطيب من الأصل".(48)
وبهذا ترى أن رؤية العروضيين للزحاف والعلة أكثر رحابة من بعض المجددين.
3- في القافية:
حدثنا رواد قصيدة التفعيلة عن قيمة القافية حديثا وافيا عرفوا فيه قدرها، وأثرها في تحقيق الموسيقا الشعرية،تقول نازك(49) :"والحقيقة أن القافية ركن مهم في موسيقية الشعر الحر لأنها تحدث رنينا وتثير في النفس أنغاما وأصداء . وهي، فوق ذلك، فاصلة قوية واضحة بين الشطر والشطر (تعني في الشعر الحر(التفعيلة ولكن جرى الدرس على تسميته السطر)، والشعر الحر أحوج ما يكون إلى الفواصل خاصة بعد أن أغرقوه بالنثرية الباردة... مجيء القافية في آخر كل شطر ، سواء أكانت موحدة أم منوعة يتكرر إلى درجة مناسبة يعطي هذا الشعر الحر شعرية أعلى ويمكن الجمهور من تذوقه والاستجابة له".
ثم عابت على الناشئين نبذهم القافية "وهي لو يدرون سند شعرهم وحليته المتبقية".
ويقول عبد الصبور(50):" والقافية ، ليست جوهرا مقصودا لذاته في الشعر (وهذا قريب من كلام القرطاجني والسكاكي كما مر بك) . بل هي اجتهاد لخلق نوع من الموسيقى ، يتعاون مع الوزن في معاونة الانفعال الشعري على الوصول إلى الأذن ، ثم القلب . وفي النماذج الجيدة من شعرنا الحديث يتوافر هذا العنصر الموسيقي عن طريق الوزن والقافية المتراوحة .
وأرى أن أمل دنقل من أكثر شعراء التفعيلة توظيفا لطاقات القافية ، حتى إنه ليصل أحيانا إلى لزوم ما لايلزم كما في قصيدة:"لا تصالح(51)
أترى / حين أفقأ عينيك/ ثم أثبت جوهرتين مكانهما../
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى .
وكقوله: لكن خلفك عار العربْ
لا تصالحْ ، ولا تتوخ الهربْ
وفي المقابل تراه يترخص في القافية بارتكاب ما يعده العروض عيوبا، مثل سناد التأسيس ، ومن أمثلة ذلك مجيء الكلمات المقدسة – المكدسة – المنكسة) ثم يأتي ب(الملامسة – والمشاكسة – واليابسة ) في قصيدة البكاء بين يدي زرقاء اليمامة (52) ويجمع بينها كما في قوله:
أيتها العرافة المقدسة/ ماذا تفيد الكلمات البائسة؟
وكذلك صنع في قصيدة سفر الخروج:
فارفعوا الأسلحة / واتبعوني أنا ندم الغد والبارحة(53)
وقام بالصنيع نفسه الشاعر فاروق شوشة في قصيدة: "يقول الدم العربي"(54):حيث جمع القوافي:
(رائحة – أضرحة – مذبحة – البارحة – الجامحة) وفي قصيدة "الأسئلة" يجمع بين( المقصلة – الفاصلة- المرسلة – القاتلة)
وأرى هذا الصنيع مقبولا في شعر التفعيلة لأنه قائم على الترخص.
من ظواهر التشكيل الموسيقي في شعر التفعيلة
التفت المعنيون بدراسة موسيقا شعر التفعيلة إلى ظواهر عدة أكتفي هنا بالإشارة إلى ظاهرتين متعلقتين بالتشكيل الموسيقي للقصيدة، هما التدوير، والتضمين
ظاهرة التدوير:
من الظواهر الموسيقية الجلية في شعر التفعيلة ما أطلق عليه مصطلح التدوير.
والتدوير في شعر البيت : أن يشترك الشطران في كلمة واحدة يكون بعضها في الشطر الأول، والثاني في الشطر الثاني ، كقول إبي القاسم الشابي:
عذبة أنت كالطفولة كالأحــــــــــ (م) ــــــلام كالحن كالصباح الجديد
وقد أنكرت نازك الملائكة وقوع التدوير في الشعر الحر(التفعيلة) ؛ لأن التدوير يكون بين شطري البيت ، وهذا ممتنع في شعر التفعيلة .
ولكني أرى انه غير ممتنع إذا عددنا كل سطر شعريٍّ شطرا، فيكون التدوير بين سطور شعر التفعيلة كالتدوير بين شطري البيت في شعر البيت .
لكن نازك عادت واستخدمته افتراضا ، ثم أنكرت الظاهرة ذاتها بناء على شعر صنعته هي ، فقالت:" ولننظم مثالا من البحرالكامل تتوافر فيه (متفاعلن) بلا وقفة مع غلبة التدوير :
طلعت نجوم الليل تفرش ظلمة الأحراشِ
أحلاما طريات ورش العطر خد الليلل والدنيا
تلفع كل ما فيها بأستار الظلام المدلهم الباردَ
...
ثم تعلق قائلة:
"أليس هذا نظما سمجا ميتا لا يحتمل"(55) ؟
قلت: بلى كذلك ، ولكن ليس بسبب التدوير ولكن بسبب الصناعة الباردة.
إن رفض نازك التدوير استشهادا بهذا النموذج المصنوع افتئات على المستقبل ، فمن أدراها أن نماذج التضمين سوف يكون حكمها حكم شعرها المصنوع المفترض؟
قارن بين نموذجها هذا ونموذج آخر حي لأمل دنقل – على سبيل التمثيل- حيث يقول في قصيدة ضد من:
كان نقاب الأطباء أبيضَ/ لون المعاطف أبيضُ/ تاج الحكيمات أبيضُ ،أردية الراهباتِ،/ الملاءاتُ/ لون الأسرةِ، أربطة الشاش والقطنِ،/ قرص المنومِ، أنبوبة المصلِ، كوب اللبنْ
كل هذا أشاع بقلبي الوهنْ
فقد لجأ الشاعر إلى ما عرف بالتدوير ، وقد نجح في الربط بين هذه الأشياء جميعا حتى إننا نقرؤها متتابعة متلاحقة حتى نقف على القافية.
ظاهرة التضمين:
أما التضمين فمعناه :" ألا تكون القافية في بيت مستغنية عن البيت الذي يليه".
يقول الدكتور شكري عياد :"وهو أسلوب التضمين الذي تحدث عنه القدماء وعابوه ولكنه يفرض نفسه بما يشبه الحتمية الفنية"(56)
وفي قوله إن القدماء عابوه تعميم غير دقيق ، فإن من القدماء من أقروه ، ومنهم الخليل بن أحمد، يقول الشنتريني الأندلسي :"لم يذكر الخليلُ التضمينَ في العيوب ولا عده منها ؛لأن المعنى صحيح".(57)
وقال الأخفش : التضمين ليس بعيب قال ابن جني: هذا الذي رآه أبو الحسن من أن التضمين ليس بعيب مذهب تراه العرب وتستجيزه ".(58)
فالتضمين ليس عيبا عند رائدي علم العروض الخليل والأخفش ، بل هو مزية كما يفم من كلام ابن جني عالم الغة المعروف
التضمين في شعر التفعيلة:
يقول الدكتور سالم عباس:" والتضمين ينتشر في شعر الفايز على نحو واسع، وخاصة في المذكرات ، ومثاله:
وفؤادي الحرن الصغير/ صندوق آلام تحطم من زمان
لن تدخل الكلمات فيه عن لسانْ
رجل عجوز".(59)
وقف الشاعر عند القافية ( لسان) وهي مضاف، ثم أتى بالمضاف إليه في السطر التالي.
يتبين مما سبق ان شعر التفعيلة اعتمد عروض الخليل وأفاد من طاقاته وإمكاناته، وجدد في إطار الالتزام به في مستويات عدة من مستويات البناء والتشكيل .