الموصل

يعود تاريخ الموصل إلى عام 1080 قبل الميلاد عندما اتخذ الآشوريون مدينة نينوى عاصمة لهم وحصنوها فأقاموا حولها القلاع، ومنها القلعة التي كانت في الجهة الغربية من دجلة تقابل مدينة نينوى، وتقع هذه القلعة فوق "تل قليعات" الذي يشرف على السهول الغربية المقابلة لمدينة نينوى، كما يشرف على السهول التي بين نينوى والموصل.
كانت هذه القلعة -الحصن- النواة لمدينة الموصل، فإن مناعة الموقع، وخصب السهول المجاورة لها، وقربها من دجلة، ووجود حامية في الحصن، ووقوعها على طريق رئيسية تصل بين طرفي الهلال الخصيب كل هذا شوق الناس على أن يسكنوا حول هذا الحصن المذكور، وأخذت البيوت تزداد على مر السنين.
وفي سنة 612 قبل الميلاد سقطت مدينة نينوى فدمرها الأعداء وقتلوا أهلها، ولم ينج من سكانها إلا القليل، ولا شك أن التخريب والقتل أصاب الحصن الغربي ومن حوله.
وبعد أن هدأت الأحوال واستتب الأمن في البلاد، تراجع بعض السكان الذين سلموا من سيوف الأعداء إلى نينوى، وأسسوا لهم حصنا على"تل توبة" في نينوى، كما أن قسما منهم رجعوا إلى الحصن الغربي فرمموه وسكنوا فيه. فصار قرب دجلة حصنان أحدهما" الحصن الشرقي" وهو الذي فوق "تل التوبة" يقابله في الجهة الغربية من دجلة " الحصن الغربي" الذي فوق "تل قليعات".
وفي القرن الرابع قبل الميلاد ازدادت العمارة حول الحصن الغربي وصار قرية لها شأن يذكر وقد كان يطلق عليها مسبلا Mespila وقد أصبح لها شأن بعد سقوط نينوى لموقعها المهم الذي يصل بين عدة أقطار، وهذا الموقع نفسه سبب للمدينة ويلات ومصائب عديدة، فقد كانت ساحة للحروب التي استعرت نيرانها بين المتنازعين على الحكم، فكانت الجيوش تكتسحه فتدمر ما به.
وفي عهد كسرى الأول أنوشروان 521 / 579 م كانت الحرب سجالا بين الروم والفرس فأغار الروم وخربوا الموصل، وفي عهد كسرى أبرويز بن هرمز 579 / 590 م اهتم بتعزيز موقع الموصل. فبنى فيها عدة دور وحصنه ا، وأتى ببعض الفرس وأسكنهم فيها فتوسعت المدينة وكانت من معاقل الفرس القوية التي تصد زحف الروم عنها.
وقد لاقت الموصل اهتماما كبيرا من أردشير وسميت باسمه "نيو أردشير " أي أردشير الجديدة وأما الكتبة الآراميون فكانوا يسمونها "حصن عبورايا" أي الحصن الغربي، أما العرب فقد كانوا يسمونها "خولان" كما كانوا يطلقون عليها الحصنين.
وقد تم الفتح الإسلامي للموصل في عام 16هـ / 637 م والقبائل التي اشتركت في الفتح هي (تغلب وأياد والنمر) بقيادة ربعى بن الأفكل العنزي. وقد كانت هذه القبائل منتشرة بين تكريت والموصل ، وقد سكن قسم من هذه القبائل الموصل بعد الفتح، والقسم الكبير منها استمر في الزحف على البلاد المجاورة وخاصة أذربيجان وأرمينيا.
وفي عام 17هـ / 638 م عين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عتبة بن فرقد السلمي واليا على الموصل وهو الذي بنى المسجد الجامع، وإلى جانبه دار الإمارة، وكان بها أحد الأجناد الستة التي جندها الفاروق وجعلها تابعة للكوفة.
وفي خلافة عثمان بن عفان كثرت هجرة القبائل العربية إليها خاصة بعد أن توطدت الأمور واستقرت الفتوحات، وأخذ العرب يقطنون البلاد المفتوحة ويتخذونها مقاما لهم. وأول من نزلها من القبائل هي الأزد وطى وكندة وعبد قيس. ونزل منها أربعة آلاف، وأمر عليهم الخليفة عثمان بن عفان "عرفجة بن هرثمة البارقي" وسعى البارقي في توسيع الموصل وتعميرها فاختط منازل العرب فيها، ووسع الجامع الذي كان قد بناه عتبة بن فرقد السلمي.
وفي عهد الخليفة علي ابن أبي طالب رضي الله عنه زادت الهجرة إلى الموصل، فهاجرت القبائل العربية من الكوفة و البصرة ، وهكذا توسعت الموصل واتخذها العرب دار إقامة لهم.
وانقضى عهد الراشدين، والموصل في توسع دائم حتى صارت من أمهات أمصار الجزيرة وبلغ خراجها في خلافة معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه أربعة ملايين درهم. واهتم الأمويون بالموصل كثيرا نظرا لأهميتها الحربية والتجارية فكانوا يولون عليها أقدر الولاة وأحزمهم، وكثيرا ما كانوا يولون عليها من ثبت عندهم حبه للإصلاح والعمران. وقد سكن الموصل من الخلفاء الأمويين هشام بن عبد الملك، وذلك قبل أن يولى الخلافة، فبنى له قصرا في ربطها الأسفل، وزرع النخيل والأثمار حوله، وبقي القصر إلى سقوط الدولة العباسية، فأقطعه أبو جعفر المنصور السحاج بن وائل الأزدي الذي ساعدهم على الأمويين.
وقد توالى على الموصل عدد من الولاة زادوا في خطتها، فقد أحاط سعيد بن عبد الملك الموصل بسور ورصف طرقها بالحجارة، وبنى بها مسجدا عرف بـ"مسجد عبيدة" نسبة إلى مؤذنه، كما بنى فيها سوق سعيد. ثم ولى عبد الملك أخاه محمد بن مروان الموصل، فجدد سور الموصل، وربما أكمل السور الذي بناه ابن أخيه سعيد، أو أنه وسعه في الأماكن التي توسعت إليها المدينة.
وفي عام 106-113هـ / 724 -731م تولى الموصل الحر بن يوسف الأموي الذي وجد نهر دجلة بعيدا عن المدينة، وأن السكان يلاقون عناء ومشقة في نقل الماء، فشق نهرا من قرب دير مار ميخائيل، وسيره محاذيا للتلال التي تطل على حاوي الكنيسة، وأجراه تحت المدينة في مجرى دجلة الحالي، بدأ بهذا العمل عام 108هـ / 726 م واستمر به العمل إلى عام 115هـ / 733 م فأتم فتحه الوليد ابن تليد العبسي وأراح الناس وعرف بـ"نهر الحر"، ورصفوا شارعا محاذيا لمجراه، وغرسوا على جانبيه الأشجار، فكان أهل المدينة يتنزهون به في الأمسيات، وبنى الحر قصره المعروف بالمنقوشة. وكان من القصور المشهورة، بناه عام 106هـ / 724 م، وهو قصر منقوش بالساج والرخام الأبيض المصقول والفصوص الملونة والفسافس. وكان من أجمل القصور في زمانه، وبقي القصر إلى القرن السابع الهجري.
ثم تولاها مروان بن محمد مرتين (إحداهما 102- 104هـ / 720 - 722م والثانية 126- 127هـ / 743 - 744م. وكان أول من عظم الموصل وألحقها بالأمصار العظام، وجعل لها ديوانا يرأسه، ونصب عليها جسرا، ونصب طرقاتها وبنى عليها سورا، وهدم المسجد الجامع ووسعه وبنى له منارة، وأحاطه بأسواق، فكانت أسواق الموصل الرئيسية حوله. وعلى هذا فقد صارت الموصل قاعدة بلاد الجزيرة بعد أن كانت مدينة تابعة للكوفة.
وفي العصر العباسي الأول نكبت الموصل على أثر ثورة أهلها على محمد بن صول سنة 133هـ / 750 م وفتك بها العباسيون فتكا ذريعا، حتى أن أسواقها بقيت معطلة عدة سنين، وكان هذا على يد يحيى بن محمد أخي السفاح.
وفي عام 133هـ / 750 م ولى المنصور عليها عمه إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس، ولما دخل البلد وجدها بحالة يرثى لها، فجمع الناس وخطبهم ووعدهم بحسن السيرة فيهم بأن يرد عليهم المظالم، ويعطيهم ديات من قتلهم يحيى، وكتب إلى المنصور يعلمه بسوء حال البلد وخراب ه. فكتب إليه المنصور أن أرفق بالناس وتألفهم. فأخذت المدينة تستعيد مركزها الاقتصادي حتى بلغت جبايتها في خلافة هارون الرشيد (24.000.000) درهم و(20.000) رطل عسل. مع العلم بأن المهدي كان قد خزل منها كورة دراباذ وكورة الصامغان. ومع أن المعتصم خزل منها أيضا كورة تكريت وكورة الطيرهان فإنه بلغ ما كان يجبى منها ومن أعمالها في خلافته ( 6.300.000 ) دينار كان هذا في الربع الأول من القرن الثالث الهجري.
وفي أواخر القرن الثالث للهجرة / التاسع الميلادي ملكها بنو حمدان فاهتموا بالزراعة كثيرا، فغرسوا فيها الأشجار، وكثرت الكروم وغرست الفواكه، وغرست النخيل والخضر، وكانوا يعنون بزراعة القطن والأرز والحبوب. وبلغ خراج الحنطة والشعير فيها خمسة ملايين درهم.
وخلف العقيليون الحمدانيين في حكم الموصل سنة 368- 486هـ / 979 - 1093م وخلال مدة حكمهم تنازعوا فيها على الحكم وسبب هذا تأخر المدينة عما كانت عليه. ثم انتزع السلاجقة منهم البلاد، وزادت الاضطرابات والحروب بين أمرائهم على الحكم ولاقت المدينة ويلات كثيرة ومصائب، فتأخرت فيها التجارة وقلت المزروعات وهجر قسم كبير من سكان الموصل مدينتهم، وهكذا تقلصت عما كانت عليه، حتى استولى الخراب على أكثر أحيائها.
وفي رمضان من عام 521هـ / 1127 م تسلم عماد الدين زنكي الموصل وبدأ بذلك العهد الأتابكي لحكم الموصل- ولما تسلم عماد الدين الموصل أقام بها يقرر أمرها ويصلح قواعدها وكانت الموصل هي المركز بالنسبة إليه فانطلق منها ليوسع دولته خاصة بعد أن وجد البلاد مقسمة بين الأمراء وكل واحد منهم قد استأثر بولايته لا يهمهم من أمر البلاد سوى جمع ما يقدر على جمعه من أي طريق كان، كما استفحل خطر الصليبيين واحتلوا أكثر البلاد السورية ووصلوا إلى أسوار حلب فحشد عماد الدين جيوشه وبدأ بأمراء الأطراف ثم سار إلى حلب فاستبشر به أهلها خاصة لما كانوا يقاسونه من النزاع بين الأمراء فضلا عما يصيبهم من مضايقة الصليبيين لهم حتى كانوا يقاسمونهم في بعض محاصيلهم، ثم توجه إلى حماة فاستولى عليها عام 524هـ / 1130 م، ثم التفت إلى ما جاوره من حصون النصارى فهاجمهم ودخل معهم في معارك كبيرة كان فيها مؤيدا من الله بالنصر العظيم عليهم فهابه النصارى، وأصبح أعظم قائد في الهلال الخصيب، وصار ملكه يمتد من شهرزور شرقا، إلى قرب سواحل سورية غ ربا ومن آمد وديار بكر وجبال الأكراد الهكارية والحميدية شمالا إلى الحديثة جنوبا.
وفي عهد العثمانيين كانت الموصل إحدى الولايات التابعة للخلافة العثمانية وقد تمكنت في حكمها المحلي والإقليمي الأسرة الجليلية 1136- 1249هـ / 1724 - 1834م التي تنتمي إلى مؤسسها عبد الجليل.
وبرز من هذه العائلة اسم الوزير الحاج حسين باشا الجليلي 1108-1171هـ / 1697 -1758م. بشكل مؤثر من خلال الخدمات العسكرية التي قدمها للدولة العثمانية ضد الفرس وخصوصا نادر شاه. وقاد هذا الوزير انتصار الموصل على نادر شاه ومنع بذلك امتداد إيران الأفشارية في السيطرة على المشرق العربي. وقد اكتسب هذا الوالي الجليلي لقب "بطل الحصار". فثبت من خلال عمله الاستراتيجي موقع أسرته المحلية سياسيا وإداريا في حكم ولاية الموصل لفترة تقترب من قرن كامل في التاريخ الحديث للمشرق العربي.
وكان من أبرز أبناء الأسرة الجليلية الوزير محمد أمين باشا الذي منح لقب "الغازي" نظرا لاشتراكه في الحرب العثمانية - الروسية عام 1184هـ / 1770 م كسردار للجيوش العثمانية، وقد أسر من قبل الروس، وفك أسره بعد حوالي خمس سنوات، فقابل السلطان عبد الحميد الأول 1180- 1203هـ / 1774 - 1789م الذي وكل إليه مهمة تعديل نظام بلاد الشرق والعراق وولاه العراق ولكنه توفي سنة 1181هـ / 1775 م، قبيل الشروع بمهمته الكبرى.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وقعت الموصل تحت الاحتلال البريطاني وظلت كذلك تحت الحكم البريطاني حتى نالت العراق الاستقلال، وهي الآن مدينة من أهم المدن العراقية التي تحظى بمكانة عالية.