التوقيعات
--------------------------------------------------------------------------------
التوقيع مصطلح حضاري:
بلغت الدولة الإسلامية أقصى اتساعها، وأينعت ثمار الخلافة، فضرب الدينار الإسلامي، وعرّبت دواوين العراق والشام، وكسيت الكعبة بالديباج، وازدهرت المصطلحات الحضاريّة وتطوّرت مع ازدياد الحاجة إلى استخدام مصطلحات إداريّة جديدة، اشتهر منها فن سمّي بالتوقيعات، نسبة إلى ما يوقّعه الخليفة أو عمّاله على الرقاع التي ترد حاضرة الخلافة، بطلب أو شكوى أو مظلمة .
وهي عبارات موجزة يكتبها أصحاب القرار في أسفل الرقاع المرفوعة إليهم بما يتضمن الرأي فيها، وتطوّر هذا الفن واشتهر، وألحق بفن الرسائل الديوانيّة .
وكان كتّاب الديوان حريصين على تدوين رسائلهم بأسلوب مختصر بليغ، قبل اعتمادها وختمها بخاتم الخلافة، حتى أن يحي بن خالد البرمكي قال لكتابه: إن استطعتم أن تكون كتبكم كالتوقيعات اختصاراً فافعلوا .
وازدادت الحاجة في العصر العباسي مع ازدياد أعباء الخليفة، إلى التوسّع في إنشاء الدواوين فأنشأوا: ديوان العزيز، وديوان بيت المال، وديوان النفقات، وديوان الخراج، وديوان الجيش، وديوان البريد، وديوان المستغلات (أملاك الدولة) أو ديوان الصوافي، وديوان الصدقات، وديوان المصادرة، وديوان المظالم، وديوان المواريث، وديوان الزمام (ديوان المحاسبات) أو ديوان الأزمة، وديوان الطراز (الأعلام والشارات)، وديوان الموالي، وديوان الأحشام (شؤون الموظفين)، وديوان الضياع، وديوان الموالي والغلمان، وديوان الجهبذة، وديوان الري ، وديواناً خاصّاً عرف بديوان التوقيع، إلى جانب ديوان الرسائل، وديوان الخاتم.
وكان يعهد بإدارة كل ديوان من الدواوين السابقة إلى رئيس ، أو صدر، أو ناظر، ويعمل تحت إدارته عدد من الكتاب والموظفين .
هؤلاء اشتهروا بفن التوقيع:
وذاع صيت عدد من الخلفاء والعمال والوزراء، اشتهروا بحسن التوقيع، ومنهم: معاوية بن أبي سفيان ، وعبد الملك بن مروان، ويزيد بن عبد الملك، وسليمان بن عبد الملك، ومروان بن محمد، والمنصور، والمأمون، والمعتصم، وسيف الدولة الحمداني، وجعفر بن يحي البرمكي، والحسن بن سهل، وزياد بن أبيه، وأبو مسلم الخراساني، والصاحب بن عباد، والمعتمد بن عباد صاحب إشبيلية ، والوزير المهلبي ، وصلاح الدين يوسف بن أيوب، ويعقوب المنصور ، أمير الموحدين، والمنصور بن أبي عامر .
التوقيعات أقل الفنون الأدبية النثرية شهرة:
وفي ظل حضارة الإسلام كتبت اللغات الإسلامية: التركية والفارسية والأوردية والسواحيلية بالأحرف العربية، ودخل القاموس العربي فيها، وجمعت ألفاظ اللغة العربيّة ودوّنت ورتّبت، ووضعت قواعد النحو والصرف، ومسائل البلاغة والبيان والنقد الأدبي، وبقيت العربية الفصحى لغة القرآن، هي اللغة المقدسة، واللسان المشترك عند جميع المسلمين، وجادت الآداب والفنون، وترعرع في رعاية خلفاء المسلمين وأمرائهم الشعر والنثر، فمنهم من أحسن قرض الشعر ونقده، ومنهم من أجاد تذوق البيان وسحره، وذاع من الشعر: المديح، والفخر، والرثاء، والاعتذار، والهجاء، والعتاب، والحكمة، و اشتهرت من فنون النثر: الكتابة الديوانيّة، والكتابة الاجتماعيّة، والكتابة السياسيّة، والكتابة الأدبيّة، والكتابة الإخوانيّة، والتوقيعات .
ولنتناول أدنى هذه الفنون التي حفظتها كتب الأدب العربي، والتاريخ، والسير، ولنستعرض هذا الكلام الحسن الذي عدل فيه البلغاء من أصحاب السيف والقلم عن التطويل والتكرار، إلى الإيجاز والاختصار، ما جاء بالكلمات، أو بالكلمة الواحدة، أو بالحرف، أو أتى بالآية من القرآن، أو بالبيت من الشعر، فنجده منثوراً في شذرات الذهب، ويتيمة الدهر، وبغية الوعاة، وسير أعلام النبلاء، وغيرها، ومجموعاً في كتاب مثل: (التوقيعات) للشيخ محي الدين بن عربي ، أو (رسالة في التوقيعات) لعبد القادر القادري، كما أفرد كمال الدين أبو بكر بن ناصر الدين السيوطي لهذا الفن كتاباً في صناعة التوقيع .
أقدم توقيع مدون:
ومن أقدم التوقيعات المدونة ما ورد في العهد القديم في ختام مرسوم (داريوس ) الملك الفارسي: (أنا داريوس، قد أمرت فليجر تنفيذ هذا المرسوم على الفور) .
توقيعات بالفطرة والاكتساب:
وكانت التوقيعات تدل على نباهة كاتبيها، وبلاغتهم، وبديع نظمهم، أو نثرهم، وتكتسب بمصاحبة العلماء، والاطلاع على فنون اللغة والأدب .
ذكر ابن العماد الحنبلي أن المقتفي بالله العباسي قد اختص بإمامة أبي منصور الجواليقي في الصلوات، وكان المقتفي يقرأ عليه شيئاً من الكتب، وانتفع به، وبان أثره في توقيعاته .
التوقيع بالوكالة:
وكثيراً ما كان الخلفاء يعهدون إلى كتابهم بكتابة التوقيع لانشغالهم بمهام الأمور في الدولة .
قال صاحب شذرات الذهب: كتب إبراهيم الصولي عن أمير المؤمنين إلى بعض البغاة الخارجين، يتهددهم ويتوعدهم: ( أما بعد فإن لأمير المؤمنين أناة، فإن لم تغن عقب بعدها وعيداً، فإن لم تغن، أغنت عزائمه والسلام ) .
قال ابن العماد الحنبلي : ( هذا الكلام مع وجازته في غاية الإبداع ) .
توقيعات سياسية:
وكانت التوقيعات الديوانية تستخدم في المراسلات السياسية بين الملوك الأعداء، وبين قمة السلطة والخارجين عليها .
كتب طاغية الروم إلى المعتصم العباسي يتهدده، فأمر بجوابه، فلما عرض عليه رماه، وقال للكاتب اكتب: ( أما بعد. فقد قرأت كتابك، وسمعت خطابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار) .
وكتب العزيز بالله أبو منصور العبيدي إلى صاحب الأندلس المرواني يهجوه، ويذم نسبه، فكتب إليه المرواني: ( عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لهجوناك، وأجبناك، والسلام ) فاشتد ذلك عليه وأفحمه
وذكر صاحب كتاب: ( أحكام صنعة الكلام ) في فصل التوقيع: التوقيع بالشعر فقال: ( كتب (أذفونش ) الطاغية عن أذن المعتمد بن عباد إلى أمير المسلمين أبي يعقوب تاشفين ـ رحمه الله ـ يتوعده ويتهدده، ويسأله الجواب على متضمن الكتاب، فيحكى أن أمير المسلمين لما قرأ الكتاب قال لكاتبه: اكتب، جاوبه بأني أكون الكتاب بنفسي، فحمل كلامه الكاتب على أن يوقّع على ظهر الكتاب بيت أبي الطيب المتنبي :
ولا كتب إلا المشرفية والقنا ولا رسل إلا الخميس العرمرم
فخامرهم الرعب من هذا الإيجاز في الخطاب، ما لا يكون مثله مع جزيل الإسهاب، وحفيل الإطناب .
وقريب من هذا المعنى رسالة كتبها (أذفونش ) الإسبان ليعقوب المنصور يستدعيه فيه للقتال، وبعد ما قرأ المنصور هذا الكتاب، دعي بولده وولي عهده محمد الناصر ، فدفعه إليه وأمره أن يجيب عنه، فقرأه هذا الأخير، ثم مزّقه وقلبه فكتب على ظهر قطعة منه: (قال الله العظيم: ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون) .
الجواب ما ترى لا ما تسمع، وانشد بيت المتنبي متمثلاً:
ولا كتب إلا المشرفية والقنا ولا رسل إلا الخميس العرمرم
ووقّع عبد الملك بن مروان في كتاب جاءه من الأشعث وهو ثائر عليه:
فما بال من أسعى لأجبر عظمه حفاظاً وينوي من سفاهته كسري
أثر التوقيع على قارئه:
ويحكى أن أبا مسلم الخراساني أبى أن يقرأ الكتاب الذي كتبه إليه عبد الحميد بن يحي الكاتب ، من لسان مروان، يستجلبه به ويستميله، ثم أحرقه إشفاقاً على نفسه من تأثيره، وكتب على جذاذة منه إلى مروان:
محا السيف أسطار البلاغة وانتحى عليك ليوث الغاب من كل جانب
توقيعات على منهج الفقه:
وكان جعفر بن يحي البرمكي قد تفقه على القاضي أبي يوسف ، فلأجل ذلك كانت توقيعاته على منهج الفقه، وحدث أن وقع جعفر بن يحي في كتاب رجل شكا إليه بعض عماله: ( قد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما اعتدلت، وإما اعتزلت) .
ووقع أبو الربيع سليمان ، أمير ناحية سجلماسة إلى عامل كثرت الشكاوى منه: (قد كثرت فيك الأقوال، وإغضائي عنك رجاء أن تتيقظ فتنصلح الحال، وفي مبادرتي إلى ظهور الإنكار عليك تنبيه إلى شر الاختيار، وعدم الاختيار، فاحذر فإنك على شفا جرف هار) .
وكتب صاحب أرمينيا إلى المهدي يشكو إليه سوء طاعة رعاياه، فوقّع في الكتاب: (خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين.)
ومن مشهور توقيعات جعفر بن يحي البليغة، توقيعه لمحبوس: (ولكل أجل كتاب) .
حسن التوقيع:
امتاز كتّاب الدولة العباسيّة بحسن التوقيعات، وغزارة العلم، وسعة الاطّلاع، وحسن البلاغ، وكانت توقيعاتهم إذا وقّعت نسخت وتدورست .
وممن اشتهر بحسن التوقيعات الحسن بن سهل السرخسي ، وزير المأمون العباسي، وأحد كبار القادة والولاة في عصره، لكن جعفر بن يحي تفوق بتوقيعاته القصيرة البليغة، التي كانت مثلاً يحتذى من قبل الكتاب .
يحكى أن سهل بن هارون عمل كتاباً في مدح البخل، أهداه إلى الحسن بن سهل ، فوقع على ظهره: (قد جعلنا ثوابك عليه ما أمرت به فيه) .
ووقّع ذو الرئاستين الفضل بن سهل وزير المأمون في رقعة بدت فيها حكمته: (إن أسرع النار التهاباً أسرعها خموداً، فتأن في أمرك) .
ووقّع عبد الملك بن مروان في كتاب جاءه من الحجاج يخبره فيه بسوء طاعة أهل العراق ، وما يقاسي منهم، ويستأذنه في قتل أشرافهم: (إن من يمن السائس أن يتألف به المختلفون، ومن شؤمه أن يختلف به المتآلفون) .
التوقيع بالشعر:
ويأتي التوقيع بيتاً أو أكثر، أو شطر بيت من الشعر رداً على أبيات اعتذار أو تذكير، فقد ذكر السيوطي في ( بغية الوعاة ) ترجمة لإبراهيم بن يحي اليزيدي، واتبعها بأبيات لليزيدي، يعتذر فيها إلى المأمون قال فيها:
أنا المذنب الخطّاء والعفو واســع ولو لم يكن ذنـب لما عـرف العفـو
سكرت فأبدت مني الكأس بعض ما كرهت وما أن يستوي السكر والصحو
فرضي عنه، وعفا عنه، ووقع على ظهر أبياته:
إنما مجلس الندامى بسـاط للمودات بينهم وصفوه
فإذا ما انتهى إلى ما أرادوا من حديث ولذة رفعوه
وكتب نصر بن سيار إلى مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، يحذّره من أمر أبي مسلم الخراساني :
أرى خلل الرماد وميض جمر ويوشك أن يكون له ضرام
فأجابه موقعاً: الحاضر يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم الثؤلول .
فكتب نصر: الثؤلول قد امتدت أغصانه، وعظمت نكايته .
فوقّع مروان إليه: يداك أوكتا، وفوك نفخ .
وكتب قتيبة بن مسلم الباهلي إلى الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك يتهدده بالخلع، فوقّع سليمان في كتابه:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربع
واشتهر في هذا الفن: الصاحب بن عباد ، وأجاد فيه شعراً ونثراً، حتى ذاعت توقيعاته في العالم الإسلامي، واشتهرت رسائله لحسنها وإيجازها .
ذكر ياقوت الحموي في موسوعته القيّمة معجم البلدان ) في معرض حديثه عن مدينة قم ، توقيعاً لطيفاً من الشعر، حفظته الأجيال وروته، كتبه الصاحب بن عباد على رقعة وجهها إلى قاضي قم:
أيها القاضي بقم قد عزلناك فقم
فكان القاضي يقول إذا سئل عن سبب عزله: أنا معزول السجع من غير جرم ولا سبب .
التوقيع آية من كتاب الله:
ويأتي أحياناً نثراً أو آية من القرآن الكريم رداً على أبيات من الشعر.
حدّثنا صاحب اليتيمة عن ضعف حال الوزير المهلبي قبل اتصاله بالسلطان، فقال:
فبينما هو ذات يوم في بعض أسفاره مع رفيق له من أصحاب الجراب والمحراب، إلا أنه من أهل الآداب، إذ لقي في سفره نصبا، واشتهى اللحم فلم يقدر على ثمنه فقال ارتجالاً:
ألا موت يباع فأشتـريه فهذا العيـش ما لا خير فيه
ألا موت لذيذ الطعم يأتي يخلّصني من العيش الكريه
فاشترى له رفيقه بدرهم واحد لحماً، فاسكن بها قرمه، وتحفظ الأبيات وتفارقا، وضرب الدهر ضرباته، حتى ترقت حالة المهلبي إلى أعظم درجة من الوزارة، وحصل الرفيق تحت كلكل من كلاكل الدهر، فقصد حضرته، وتوصّل إلى إيصال رقعة تتضمن أبياتها منها:
ألا قل للوزير فدتـه نفسي مقال مذكـر ما قد نسيه
أتذكر أن تقول لضنك عيش ألا موت يباع فاشتريه
فلما نظر فيها تذكره، وهزته أريحية الكرم للحنين إليه، ورعاية حق الصحبة فيه، وأمر له في عاجل الحال بسبعمائة درهم، ووقّع رقعته: ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء ) ثم دعا به، وخلع عليه، وقلّده عملاً يرتفق به، ويرتزق منه.
ووقّع الصاحب في رقعة استحسنها: ( أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون )
ووقّع في كتاب بعض مخالفيه: ( فويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون) .
ووقّع في رقعة أبي محمد الخازن ، وكان قد ذهب مغاضباً، ثم كتب إليه في معاودة حضرته: ( ألم نربك فينا وليداً، ولبثت فينا من عمرك سنين، وفعلت فعلتك التي فعلت ) .
روى الشيخ حسن اليماني عن أستاذه أبي شعيب الدكالي المدرس بالحرم المكي في عهد الشريف عون ، أن جماعة من تلاميذ الشيخ أبي شعيب، لم يصرّحوا بأسمائهم، كتبوا إليه: (يا شعيب لا نفقه كثيراً مما تقول، وإنا لنراك فينا ضعيفاً، ولولا رهطك لرجمناك، وما أنت علينا بعزيز) .
فلمّا تسلّم الرسالة، وهو يلقي درسه في صوت جهوري، وحماس ديني بالغ، كتب تحتها: (الذين كذّبوا شعيباً كانوا هم الخاسرون) .
وكتب جعفر بن عطية إلى عبد المؤمن أمير الموحدين قصيدة يستعطفه لما نكبه، فوقع عبد المؤمن على القصيدة: (الآن وقد عصيت من قبل وكنت من المفسدين) .
وطلب يعقوب المنصور يوماً من قاضيه أن يختار له رجلين لغرضين؛ من تعليم ولد وحفظ أمر، فعرّفه برجلين قال في أحدهما: وهو بحر في علمه، وقال في الآخر: وهو بر في دينه، ولمّا أحضرهما المنصور واختبرهما؛ قصّرا بين يديه، وأكذبا الدعوى، فوقّع على رقعة القاضي: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ظهر الفساد في البر والبحر) .
التوقيع حرفاً:
قال الثعالبي : سمعت أبا النصر محمد بن عبد الجبار القبي يقول: كتب بعض أصحاب الصاحب رقعة إليه في حاجة فوقّع فيها، فعرضها على أبي العباس الضبّي ، فما زال يتصفحها حتى عثر بالتوقيع، وهو ألف واحدة .
وكان في الرقعة: ( فإذا رأى مولانا أن ينعم بكذا فعل ) فأثبت الصاحب أمام (فعل) ألفاً، يعني ( افعل ) .
فجاء هذا النوع من التوقيع حرفاً واحداً .
ونظيره ما رواه الكلاعي في كتابه: ( أحكام صنعة الكلام ) قال: أخبرني بعض أصحابنا عن الفقيه الحافظ أبي الوليد بن رشد من أنه كان يختصر جوابه في فتواه، حتى ربما ورد في السؤال: أيجوز ذلك أم لا ؟ فيكتب الجواب: لا . (22)
قال الثعالبي : وسمعت الوزير أبا الفضل الميكالي يقول: كتب بعض العمال إلى الصاحب في التماس شغل، وفي الرقعة: إن رأى مولانا أن يأمر بإشغالي ببعض أشغاله .
فوقع تحتها: ( من كتب إشغالي لا يصلح لأشغالي) . (23)
ومن حسن أجوبة الصاحب أنه كتب إليه بعضهم رقعة أغار فيها على رسائله، وسرق جملة من ألفاظه، فوقع فيها: ( هذه بضاعتنا ردّت إلينا ) . (24)
في التوقيع دعابة وظرف وحكمة بالغة:
وعرض على أبي الحسن الشقيقي البلخي توقيع الصاحب إليه في رقعة: (من نظر لدينه نظرنا لدنياه، فإن آثرك العدل والتوحيد، بسطنا لك الفضل والتمهيد، وإن أقمت على الجبر ليس لكسرك من جبر ) . (25)
وقد وجد هذا اللون من الكلام الحسن عند الناس قبولاً فحفظوه، ورووه أبناءهم، وطربوا له كالشعر، والمثل السائر، والنكات الأدبيّة، والأحاجي، وخاصة إذا تضمن التوقيع دعابة وظرفاً وحكمة بالغة .
وقّع يزيد بن الوليد بن عبد الملك في رقعة إلى مروان بن محمد : (أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت) .
ووقّع جعفر بن يحي في قصة رجل يستمنحه، وكان قد منحه مراراً: (دع الضرع يدر لغيرك) . (26)
وشكت امرأة إلى المأمون بن المنصور جندياً نزل دارها وآذاها فوقّّع على رقعتها: (يخرج هذا النازل، ولا يعوّض بشيء من المنازل) . (27)
وشكا رجل إلى زياد عقوق ابنه فوقّع في ذلك: ( ربما كان عقوق الولد من سوء تأديب الوالد ) . (28)
توقيعات مطبوعة بالثقافة الأدبية والدينية:
ولصلاح الدين توقيعات رائعة تدل على علو مكانته الأدبية، واتساع ثقافته الدينية، ومن ذلك ما كتبه على ظهر كتاب طلب فيه أحد أمرائه أن يعود مع جيشه إلى بلاده، وكان صلاح الدين يستنكر منه ذلك، ويريد منه البقاء ليشترك معه في حومة الوغى، فلما وافاه هذا الكتاب كتب يقول: من ضيّع مثلي من يده، فليت شعري ما استفاد ؛ وهذه العبارة على إيجاذها تعد آية في التعبير .
ولصلاح الدين توقيع آخر ظاهر الدلالة على تفوقه في هذا اللون من التوقيعات، فقد كتب على رسالة دبّجها القاضي الفاضل، يستأذن من السلطان أن يذهب إلى الحج، فكتب السلطان: (على خيرة الله تعالى، يا ليتني كنت معكم فأفوز فوزاً عظيماً) . (29)
وانتشرت التوقيعات في بلاد الحجاز واليمن، وطبعت بالثقافة الدينية التي كانت سائدة، وكان الحسن ابن نمي الثاني شريف مكة يوقّع: ( يجري على الوجه الشرعي، والقانون المحمدي المرعي ) ـ فلله دره ـ وكان يكتب على المعروضات: ( يجاب على سؤاله، زاد الله في نواله ) . (30)
* * * * *