قراقوش

من منا لم يقرأ التاريخ أو لم يسمع شيء عن التاريخ ولكن هل كل مانقرأ او نسمع صحيح وهل التاريخ الذي وصلنا, وصلنا صحيح.
إن التاريخ لم يخل من التزوير ولم يخل من الزيادة او النقص وقد يعود ذلك للشخص الذي يورث هذه الأمانة
فلو كان على قدرها وصلنا الصح ولو لم يكن أهلا لها لم يصلنا سوى ما أراد وعندما نبحث في كتب التاريخ
لا نستغرب أبدا عندما نجد مادة تاريخية تختلف من كتاب لآخر ومن مؤلف لآخر.
هناك العديد الشخصيات التاريخية شوهت صورها الحقيقية والأسباب كثيرة ولكن المشكلة
عندما تشوه هذه الصورة فقط للانتقام من هذه الشخصية ومحو جميع مآثرها والإبقاء على المساوئ المدسوسة
حتى تصلنا تاريخا عبر السنين وبئسا لهكذا تاريخ غير صورة هذا الشخص وذاك.
والأمثلة على هذه الحالة كثيرة فمن منا لا يعرف كافور الإخشيدي هذا الملك الصالح العادل
وسامح الله شاعرنا الكبير ابو الطيب المتنبي الذي جعله بشعره شر الناس وأفسقهم.
ما يهمنا الآن هو قراقوش ومن منا لم يسمع عن قراقوش الذي ارتبط اسمه بالظلم والجور والفساد
حتى صار مضربا للمثل في ظلمه وأحكامه الغريبة.ومعنى أسمه بالتركية النسر الأسود( قوش: نسر ، قرا : أسود )
ولكن من هو قراقوش الحقيقي وكيف صار به ما صار.
قراقوش هو أحد قواد السلطان البطل صلاح الدين الأيوبي, كان من أخلص أعوانه ومن أقربهم اليه،
وكان قائدا مظفرا ،وكان جنديا أمينا،وكان مهندسا حربيا منقطع النظير.
وكان أعجوبة في أمانته،لما أحس الفاطميون بقرب زوال ملكهم شرعو يعبثون بنفائس القصر،
ويحملون منها ما خف حمله ويغلو ثمنه وكان القصر مدينة صغيرة كدس فيها الفاطميون
خلال قرون من التحف والكنوز والنفائس مالا يحصيه العد ولو أن عشرة لصوص أخذو منه
ما تخفي الثياب لخرج كل منهم بغنى الدهر ولم يحس به أحد.
فوكل صلاح الدين الايوبي قراقوش بحفظ القصر،فنظر فإذا امامه من عقود الجواهر والحلي النادرة والكؤوس
والثريات والبسط المنسوجة بخيوط الذهب مالا مثيل له في الدنيا هذا فضلا عن العرش الفاطمي الذي كان فيه
من أرطال الذهب واليواقيت والجواهر من الصنعة العجيبة ما لا يقوم بثمن.
وكان بالقصر فوق ذلك من ألوان الجمال من المآت والمآت من الجواري المتحدرات من كل أمم الأرض ما يفتن العابد.
فلا فتنه الجمال ولا أغواه المال ووفى الأمانة حقها ولم يأخذ لنفسه شيئا ولا ترك أحدا يأخذ منها شيء.
وهو الذي أقم أعظم النشآت الحربية التي تمت بعهد صلاح الدين،فالقلعة المطلة على المقطم في مصر
أثر من آثار قراقوش وسور القاهرة الذي بقي من آثاره الى اليوم ما يدهش الناظر هو أيضا من آثار قراقوش.
ولما وقع الخلاف بين ورثة صلاح الدين وكادت تقع بينهم الحروب ما كفاهم ولا أصلح بينهم إلا قراقوش
ولما مات العزيزالأيوبي وأوصى بالملك لإبنه المنصور وكان صبيا في التاسعة جعل الوصي عليه والمدبر لأمره
قراقوش فكان الحاكم العادل والأمير الحازم،أصلح البلاد وأرضى العباد.
هذا هو قراقوش فمن أين جاءت تلك الوصمة التي وصم بها؟ومن الذي شوه هذه الصورة السوية ؟
لقد أساء ابن مماتي الى قراقوش فألبسه وجها غير وجهه الحقيقي،ولم يعرف الناس
إلا هذا الوجه المعار كوجوه الورق التي يلبسها الصبيان.
وابن مماتي هذا كاتب بارع وأديب طويل اللسان كان موظفا في ديوان صلاح الدين وكان الرؤساء يخشونه
ويتملقونه بالود حينا وبالعطاء أحيانا ولكن قراقوش وهو الرجل العسكري الوحيد الذي لا يعرف الملق
ولا المداراة لم يعبأ به ولم يخش شره ولم يدري أن سن القلم أقوى من سنا الرماح.
فألف ابن مماتي رسالة صغيرة سماها ( الفاشوش في أحكام قراقوش ) ووضع تلك الحكايات ونسبها إليه
وصدقها الناس ونسو الحقيقة، ومات قراقوش الحقيقي وعاش قراقوش الفاشوش كما مات كافور وعاش كافور المتنبي
وكما نسي عنترة الواقع وعرف عنترة القصة.
وأخيرا يجب على كل شخص أن يبحث عن الحقيقة والحقيقة فقط حتى ولو طال البحث وصعب
فالحقيقة لا يعادلها شيء ورحم الله علماء الحديث الذين كانو يجوبون الأرض طولا وعرضا
بحثا عن الحقيقة ولكي يكونوا بعيدين كل البعد عن الكذب أو حتى الشك فيه.

</b></i>