الدرامـــا الســورية والتحــول البــارز شهدت السنوات العشرون المنصرمة تطورات كثيرة ومدهشة على صعيد صناعة الدراما العربية، وهذه التطورات أدت إلى تغيير شبه كامل لآليات صناعة العمل الدرامي شكلاً ومضموناً.
وكان للمخرجين السوريين الدور الأبرز في هذا التغيير، فأغلبهم مخرجون سينمائيون. ولأن صناعة السينما في سورية ليست كما هي في مصر ، فقد اتجه هؤلاء المخرجون إلى العمل في التلفزيون وفي ما ينتجه، حاملين معهم رؤاهم السينمائية إلى الدراما، وترافق هذا التوجه للسينمائيين السوريين مع بدء انتشار القنوات الفضائية الخاصة والرسمية، وأيضاً مع انتشار الشركات الفنية الخاصة في سورية، الأمر الذي أحدث ثورة في الدراما، فانقلبت المفاهيم رأساً على عقب، وحدث التغيير الكبير .
وكانت الدراما المصرية قد وصلت إلى أوجها مع مسلسلي «ليالي الحلمية» و«رأفت الهجان» اللذين عرضا أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن المنصرم، فبهما توّجت مسيرتها التي امتدت إلى ثلاثين عاماً من الإبداع والتميز.
وبدءاً من هذين العنوانين البارزين في تاريخ الدراما العربية عموماً والمصرية خصوصاً، راحت الدراما المصرية تسجل التراجع إثر التراجع، وإن حاولت في فترة التسعينيات، وفي العقد الأول من هذا القرن، أن تتكىء على الدراما الدينية والتاريخية ، وذلك من خلال تقديمها شخصيات مهمة في تاريخ الإسلام ..ومع ذلك بقيت تسجل تراجعاً في أغلب إنتاجها الدرامي.
عوامل انطلاق الدراما السورية
من هذه النقطة التي وصلت إليها الدراما المصرية، ومن حيث توقفت عند أهم عملين «ليالي الحلمية ورأفت الهجان» انطلقت الدراما السورية مع كل ما تحمله من هموم وطموحات وأحلام ورؤى.
على أننا يجب أن نبين أن هناك علامات مضيئة في تاريخ الدراما السورية ما قبل عقد التسعينيات، وقد عدّ(أسعد الوراق) المأخوذ عن قصة للأديب السوري صدقي إسماعيل بعنوان: (الله والفقر) من أهم إنتاجات الدراما السورية والعربية في ثوبها الأبيض والأسود. وهناك العمل التاريخي المميز (زنوبيا) وكذلك دراما (بصمات على جدار الزمن)، والبيادر والبركان وغيرها من الأعمال... ولكن مع بداية التسعينيات سجلت هذه الدراما حضوراً لافتاً ومميزاً، وقدمت شيئاً جديداً لم تعهده الدراما العربية من قبل، وقد تمثل ذلك بدراما الصورة، وذلك من خلال لغة بصرية عالية، عمل عليها المخرجون في تلك الفترة، وكان من أهمهم المخرج نجدت إسماعيل أنزور، الذي فجر كل ينابيع الإبداع البصري، لينهل منها كل مبدع، وعلى رأسهم المخرجون الذين شاهدوا صورة جديدة غير معهودة درامياً، وإن كان لها شبيه في السينما، وعدت في حينها نقلة نوعية في تاريخ الدراما العربية، ونقطة مفصلية غيرت المفاهيم السائدة في صناعة العمل الدرامي .
وهذا فضلاً عن عوامل أخرى ساعدت في انطلاق الدراما بقوة، مثل انطلاق الشركات الفنية الخاصة بعد أن كان الإنتاج مقتصراً على القطاع الرسمي في الدولة، وقد حملت هذه الشركات الكثير من الأفكار العظيمة وبذرتها في ساحة الإنتاج الدرامي، كما أنها كانت جريئة في طروحاتها وكبيرة في مشروعاتها، ولأول مرة دخل الإنتاج الضخم إلى ساحة الشاشة الفضية الصغيرة، والتي تحولت إلى كبيرة بهذه الأعمال وبفضل الكثير من المجهودات .
ثم هناك أيضاً بذخ هذه الشركات الخاصة الجديدة بسخاء، وقد قدمت الدراما السورية في فترة التسعينيات أعمالاً درامية ضخمة، وكانت التكاليف المادية لتلك الأعمال كبيرة جداً وباهظة، وبدا أن العمل الدرامي بات ينافس السينما، كما احتاجت تلك الأعمال إلى كادر تمثيلي كبير وإلى وجود الآلاف من الكومبارس، وقد وصل الأمر بين القطاع الخاص والعام حدود المنافسة في هذه الأعمال الضخمة-.
وأيضاً هناك مساحة الحرية التي ولدت في تلك الفترة، وساعدت كثيراً في صعودها إلى القمة، ولعل دراما يوميات مدير عام وأيضاً بقعة ضوء وعالمكشوف ومرايا ياسر العظمة القديمة الجديدة، ذلك المشروع المميز الذي كان سباقاً في كسر التابوهات، وطرح الكثير من المحرمات على موائد الدراما، كل هذه الأعمال وغيرها كانت دليلاً على الروح الجديدة التي امتكلها القائمون على صناعة الدراما في سورية من مؤلفين وممثلين ومخرجين، وقد أمست يد الرقيب أرق مما كانت عليه من قبل، فبتنا نرى أعمالاً جريئة جداً في طروحاتها، الأمر الذي أسهم في التقدم النوعي للدراما السورية.
ثم هناك التنوع الكبير لهذه الدراما، فكان منها التاريخي والسياسي والاجتماعي والكوميدي والبيئي والفانتازي... فقد كان المشاهد العربي قبل فترة التسعينيات من القرن المنصرم ضائعاً بين نماذج جاهزة أرهقته على مدى عشرين عاماً على الأقل، كالنموذج الصعيدي والنموذج البدوي، أو النموذج المدني سواء في مصر أو سورية أو الأردن، مع غياب مطلق للطرف العربي الآخر، أي الدول المغاربية التي ظلت مستهلكة للإنتاجات المشرقية، وربما حدّ عامل اللهجة من انتشار الدراما المغاربية التي لا تختلف في الهموم والطروحات والآمال عن مثيلاتها المشرقية، فضلاً عن عامل التغريب الذي يفعل فعله في تلك الدول، واتجاه أبنائها الى التفكير بعقل أوروبي لا عربي.
وما ساعد في هذا التحول البارز في مسيرة الدراما السورية أمور أخرى، منها الكوادر التمثيلية المميزة التي كانت تحمل هموماً كبيرة إلى جانب الكثير من القضايا والأفكار والرؤى والأحلام، وهذا ما انعكس على أداء الممثلين وعلى العمل الدرامي كاملاً.
فضلاً عن وجود رؤية إخراجية جديدة لم يعتدها المشاهد العربي من قبل، ومع هذه الرؤية البصرية الجديدة تحديداً انتقلت الكاميرا السينمائية وعين السينمائي إلى التلفزيون، ولعل مسلسلي نهاية رجل شجاع وإخوة التراب أفضل مثال على هذه الرؤية البصرية وانتقالها من السينما إلى التلفزيون... وللمخرجين السوريين الفضل الكبير في تقدم العمل الدرامي العربي شكلاً ومضموناً، بعد أن كان يعتمد أساليب قديمة، وقد أشار كثير من النقاد إلى طريقة التفكير المختلفة عند المخرجين السوريين إزاء أنماط التفكير التقليدية لدى نظرائهم العرب ولاسيما المصريون، ومن هذه الأساليب على سبيل المثال، الشكل الفني الذي يعتمده المصريون في نظام التصوير داخل الاستوديو، وبكاميرات ثلاث، فيما الأمر مختلف عند السوريين الذين خرجوا من الاستوديو ومعهم كاميرا واحدة.. ولعل الروح السينمائية انتقلت معهم إلى التلفزيون، كون غالبية المخرجين السوريين قد درسوا الإخراج في الدول الأجنبية ولاسيما الاشتراكية، وهو ما أهلهم للمبادرة في تطوير الأساليب المتبعة في صناعة الدراما بكليتها.
بل إن ما ميز المخرج السوري هو تلك العين السينمائية التي تلتقط تلك المشاهد الخالدة وتضعها حتى تبقى في الذاكرة كأي لوحة فنية أو أي قطعة موسيقية، أو قصيدة أو رواية... وهذا ما ظهر جلياً في الأعمال الدرامية السورية بدءاً من تسعينيات القرن المنصرم وإلى الآن .
ويسجل للدراما السورية نقطة امتياز باستعانتها بممثلين ومخرجين عرب، رغم وجود الكفاءات الفنية والتمثيلية والإخراجية المتطورة، وهذا ما لم يكن معهوداً قبل ثورة هذه الدراما، فكثير من الفنانين العرب باتوا أبناء شرعيين وحقيقيين لهذه الدراما، من لبنان إلى تونس والأردن والعراق وغيرها من بلدان الوطن العربي. كما أن هناك مخرجين عرباً تميزوا في الساحة الدرامية السورية، مثل شوقي الماجري من تونس، ومحمد عزيزية من الأردن وغيرهم، وهذا يحسب لصالح السوريين في كيفية تعاطيهم مع نظرائهم العرب، وهذا ما لم ينتبه إليه المصريون، ما أدى في نهاية المطاف إلى شبه استبعاد جماهيري للدراما المصرية التي لا تقبل بالآخر العربي، حتى وهي بحاجة إلى وجود ممثل عربي من هذه الدولة أو تلك بحسب ما يقتضيه العمل الدرامي، فإن المصريين أنفسهم كانوا يمثلون الدور ولو لم يكن بالشكل المطلوب، حتى ولو أثر على مصداقية العمل الدرامي، وفي هذا تزييف للحقيقة، أو ربما يكون من غير قصد.
وأخيراً وليس آخرا يجب ألا نهمل وجود القنوات الفضائية العربية، والتي لعبت دوراً كبيراً في انطلاق الدراما السورية وانتشارها ذلك الانتشار، ثم تميزها، فقبل انتشار البث الفضائي كانت الأمور صعبة للغاية بالنسبة لانتشار الأعمال الدرامية السورية.

بين الرواية والدراما
تبقى هناك مشكلة تعاني منها الدراما العربية عامة، وهي ابتعادها عن معالجة الروايات الأدبية، وما قُدم من روايات يعدّ قليلاً على المستوى العربي، ونستطيع إحصاءه بسهولة ، وقد يكون نصيب السينما من الأعمال الروائية أكثر من التلفزيونية... ومن الأعمال الروائية المصرية التي حولت إلى دراما: اللص والكلاب، بين القصرين، قشتمر، الحرافيش لنجيب محفوظ، رد قلبي ليوسف السباعي، سارة لعباس محمود العقاد، الزيني بركات لجمال الغيطاني، الأيام لطه حسين...
أما الأعمال السورية فهناك : الله والفقر لصدقي إسماعيل، وردة الصباح لعادل أبو شنب، دمشق يا بسمة الحزن لألفة الإدلبي، نهاية رجل شجاع لحنا مينة، حسيبة لخيري الذهبي، والضغينة والهوى لفواز حداد...
إن واقع العلاقة بين الرواية والدراما يؤكد وجود مشكلة حقيقية ، فالروايات الأدبية التي عولجت درامياً قليلة جداً إذا ما قيست إلى حجم الإنتاج الدرامي العربي منذ بدايته إلى الآن، وربما كان هناك استسهال من قبل القائمين على صناعة الدراما في الذهاب فوراً إلى السيناريو وإلى السيناريست، ولا شك في أن هذا الاستسهال أدى إلى بروز أزمة النص في الدراما العربية بما فيها السورية.
حتى وإن عالج السوريون أزمة النص بالتنوع الدرامي إلا أن المشكلة تبقى قائمة في هذا النص المقدم إلى الدراما، وأرى أن الأمر مرهون باثنين: أولهما ينظر إلى العمل بما يحقق من ربح مادي، والآخر بما يحقق من قيمة ومتعة، بين من يشخص إلى السوق ومن يرنو إلى الجمال، وشتان شتان بين من هاجسه المال ومن شأوه الفن.

عبد الغفور الخطيب
http://www.albaath.news.sy/user/?id=681&a=62871