فيصل القاسم – إياك أن تــُبدع... وإلا فقدت وظيفتك!
2008-05-25
هناك قول أصبح مأثوراً في السنوات القليلة الماضية وهو أن "أكبر حزب في العالم العربي هو حزب أعداء النجاح". فما أن يحاول شخص ما أن يتميز عن الآخرين حتى تتوجه إليه السهام الساحقة الماحقة، ليس فقط من المحيطين به، بل، وللأسف الشديد، من رؤسائه. فبدلاً من أن يبادر المسؤولون عنه إلى تشجيعه، ومدن يد العون له، وتقديره ومكافأته، يلجأون إلى وضع العصي في عجلاته، إذا كانوا رحيمين، وإذا كانوا سافلين فلا يتورعون عن حرق الأرض تحت قدميه حتى يلعن الساعة التي فكر فيها بالإبداع والتميز.
لقد عرفت شخصاً كان مسؤولاً عن دائرة إعلامية متواضعة، لكنه، بنشاطه العظيم، ومثابرته، ووصله الليل بالنهار، ومبادراته الخلاقة، حوّل تلك الدائرة إلى خلية نحل لا تكل ولا تمل، لا بل جعلها تبدو أكبر من حجمها بكثير، بحيث فاقت في نشاطها وأهميتها الهيئة التي كانت تتبع لها دائرته الصغيرة. لقد عمد أخونا إلى توسيع نشاط دائرته بشكل ملحوظ، بحيث لم يعد عمله مجرد وظيفة روتينية رسمية، بل تعداها إلى الإبداع الوظيفي، فكان ينظم فعاليات ثقافية وإعلامية، ويدعو إليها كبار المفكرين والمثقفين والإعلاميين، لتصبح دائرته المتواضعة منارة ومضرباً للأمثال في نشاطها وإبداعها. وأصبح اسم صاحبنا على لسان الجميع، وكان الكثيرون يقصدونه للمساعدة، علماً أنه لم يكُ يملك سلطة، بل مجرد شبكة علاقات شخصية بناها بفضل نشاطه ودأبه وكرمه.
لقد أعجبت شخصياً بنشاط ذلك المدير القدير وتفانيه في عمله على حساب عائلته، وكنت أتساءل: ما الذي يجعل ذلك الموظف يسافر مسافات طويلة جداً لتنظيم محاضرة، ويتكبد مشقة السفر والابتعاد عن أطفاله، والسهر الطويل، ووجع الرأس، والتعامل المضني مع أناس أعرف أن بعضهم كان صعب المراس، مع العلم أنه كان بإمكانه أن يؤدي عمله بشكل روتيني مريح، بحيث يذهب إلى الوظيفة في الصباح، ويعود إلى البيت ظهراً. لكنه كان يعمل لأكثر من سبع عشرة ساعة يومياً، ويتابع بنفسه أصغر التفاصيل المتعلقة بهذا الضيف أو ذاك، لا بل كان يشرف على إجراءات سفر الضيوف المشاركين في المحاضرات واستقبالهم شخصياً، بالرغم من وجود أشخاص موظفين لتلك الغاية تحديداً.
في البلدان التي تحترم نفسها يتوقع المرء أن تتم ترقية ذلك الموظف وأمثاله إلى درجات عليا وظيفياً ومالياً ليتبوأ فيما بعد مناصب مهمة جداً. هذا هو منطق الأمور. لكن صاحبنا المسكين كان على موعد مع العقاب الشديد. فذات يوم، سألت شخصاً يعرفه لعله يرشدني إلى سبب نشاط ذلك الموظف العظيم، فأجابني بأن الأخير أصبح على كف عفريت، وهو، على وشك أن يطير من وظيفته. فسألت ذلك الشخص: ولماذا يطير من وظيفته إذا كان المسكين يجتهد، ويعمل بدأب عز نظيره، ويحاول أن يصنع من دائرته الصغيرة معلماً إعلامياً وثقافياً رائعاً؟ فأجاب المسؤول: أعتقد أن نشاطه زاد عن حده كثيراً، وأصبح "كثير غلبة"، وهذا لا يرضي المسؤولين عنه، فقد بدأ يخطف الأضواء منهم بالرغم من أنه مجرد موظف في دائرة من دوائرهم الكثيرة. وفعلاً بدأت الإشاعات بعد فترة وجيزة مبشرة "بتفنيش" ذلك الموظف المبدع. وذات يوم قرأت خبراً يقول إن الرجل طار من وظيفته، وهو يداوم الآن في منزله بعد أن كان كتلة متقدة من النشاط والحماس والإبداع.
وليت الأمر انتهى بإسقاط ذلك الموظف من عليائه الوظيفي المتواضع، بل راح المسؤولون عنه يشيعون بأنه أقصي من منصبه بسبب تجاوزات ماليه واختلاسات وأفعال فاحشة، فهم لم يكتفوا بتدمير موهبة صاعدة، بل راحوا يمثــّلون بها، كما يمثــّل المجرمون بالجثة بعد قتل صاحبها.
وانتظرت أياماً حتى أرى من سيحل محل ذلك الموظف المغبون، لعلي كنت مخطئاً في تقييمه، ولعل المسؤولين لديهم موظف أكثر نشاطاً وإبداعاً وحماساً. وهنا كانت المفاجأة. لقد جاءوا بشخص هرم لا يستطيع بالكاد أن يتحرك من كرسيه بفعل تقدمه في السن، وانعدام وجود حماس وظيفي لديه. وتحولت تلك الدائرة "النجمة" على يدي المدير الجديد إلى مقبرة "لا تكش ولا تنش"، فلم يعد أحد يسمع بنشاطاتها، لأن المدير الجديد إنسان يعمل بمبدأ"إمش الحيط الحيط وقول يا ربي السترة"، ليس لأنه كسول وخامل، لا سمح الله، بل ربما لأن الأيام علمته أن يؤدي وظيفته بالشكل الروتيني البائس المطلوب كي يبقى دائماً عند حسن ظن رؤسائه.
ليت صاحبنا الذي أطاره حماسه وإبداعه الوظيفي من منصبه، ليته كان قرأ القانون رقم واحد في كتاب روبرت غرين الشهير، "كيف تمسك بزمام القوة"، لربما عرف كيف يرضي غرور أسياده، ويفرمل غيرتهم. يقول غرين للطامحين للمناصب العليا: "إياكم وأن تحاولوا خطف الأضواء من أسيادكم، اجعلوا أولئك الذين يتسيدون فوقكم يشعرون دائما بتفوقهم بشكل مريح. وفي رغبتكم لإرضائهم وإثارة إعجابهم لا تذهبوا أبعد من اللازم في إظهار مواهبكم وإبداعكم. وإلا فقد حققتم العكس. حاولوا أن تظهروا أمامهم مرتبكين وغير آمنين كي يشعروا بالعلو. اجعلوا سادتكم يظهرون ألمع وأقوى مما هم في واقع الأمر، واظهروا أنتم بمظهر المساكين". وإذا فشلتم في العمل بالقانون رقم واحد من قوانين روبرت غرين الماكيافيلية القذرة، فاعلموا أنكم ستنزلون إلى أسفل السافلين.
لا شك أن قوانين غرين الماكيافيلية الوحشية تناسب مجتمعاتنا العربية أكثر من أي مجتمعات أخرى، وبالتالي فإن العمل بها يجب أن يكون وصية مقدسة في مؤسساتنا ودوائرنا الحكومية العربية، فإذا كانت المجتمعات التي تحترم نفسها تبحث عن المتفوقين والنشيطين دون ملل أو كلل لأنها ترتقي بارتقائهم، فإن مجتمعاتنا تقاوم التميز والتفوق والنجاح، لا بل تشكل أحزاباً لمحاربته. لا عجب إذن أن يكون الكثير من مسؤولينا، وحتى زعمائنا من الدرجة العاشرة.
جريدة الشرق القطرية