منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1

    الشمس تنحدر إلى المغيب على جبل عرفات .

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    ‎الشمس تنحدر إلى المغيب على جبل عرفات .
    الجبل مزروع بالخيام .. مليون و خمسمائة ألف حاج يحطون عليه كالحمام في ثياب الإحرام البيض .. لا تعرف الواحد من الآخر .. لا تعرف من الفقير و من الغني .. و لا تعرف من التركي و من العربي ؟


    اختفت الجنسيات .. و اختفت الأزياء المميزة و اختفت اللغات .. الكل يلهج بلسان واحد .. حتى الجاوي و الصومالي و الأندونيسي و الزنجي و الأذربيجاني الكل يتكلم العربية .. بعضهم ينطقها مكسرة و بعضهم ينطقها بلكنة أجنبية .. و بعضهم يمد بعض الحروف و يأكل بعض الحروف و لكنك تستطيع أن تفهم من الجميع و تستطيع أن تسمع أنهم يهتفون .. لبيك اللهم لبيك .


    و الذين لا يعرفون العربية تراهم قد التفوا حول مطوف يرددون وراءه الدعاء العربي حرفاً حرفا في خشوع و ابتهال .


    في البقعة التي كنت أقف فيها أكثر من خمس عشرة جنسية مختلفة في مكان لا يزيد على أمتار معدودة .. التركستان و الباكستان و كازخستان و غينيا و غانا و نيجيريا و زنجبار و أوغندة و كينيا و السودان و المغرب و اليمن و البرازيل و إسبانيا و الجزائر و سيلان .. كلهم حولي يتصافحون و يتبادلون التحية ، و يهنئ بعضهم بعضا .
    و لولا أن المطوف أخبرني بهذه الجنسيات لما عرفتها ، فالكل كانوا يبدون لعيني و كأنهم عائلة واحدة في مجلس عائلي حميم ..


    على بعد خطوات كان أكثر من ستين هندياً يلتفون حول مطوف هندي ، و هو الآخر فيما يبدو يقرأ لهم الدعاء العربي من كتاب في يده .. و هم يرددون خلفه الدعاء و هم يبكون و قد تخضلت لحاهم الطويلة الكثة بالدموع .


    و هم قطعاً لم يكونوا يعرفون العربية ، و لم يكونوا يدركون معاني ما يرددون من حروف .. و إنما شعروا بها بقلوبهم فبكوا .


    كان كل واحد يشعر أنه يخاطب الله بهذه الحروف و أنه في حضرة الله و في ضيافته و في رحابه .. و أنه يقف حيث كان يقف محمد عليه الصلاة و السلام .. النبي العظيم البدوي الفقير الأمي .. و أنه يسجد حيث كان يسجد ، و يركع حيث كان يركع ، و يردد ما كان يردده من دعاء .. بذات اللسان العربي .. و في ذات اليوم .. يوم الجمعة من ذي الحجة .. و لعل ذبذبات صوت النبي و أصوات أصحابه مازالت في الفضاء حوله .. فلا شيء يفنى في الطبيعة و لا شيء يستحدث .


    عرفت أن هؤلاء الستين هم من أفقر طائفة هندية و أنهم جاءوا إلى مكة على الأقدام و على سفن شراعية و على جمال .
    و كان زعيمهم يحمل علماً عبارة عن خرقة ممزقة .
    و بعضهم جاوز الثمانين .. و بعضهم كف بصره .. و بعضهم كان يحمل بعضا .
    و كان الكل يبكون بحرقة و يذوبون خشوعاً .


    كانوا فقراء حقاً .


    و على بعد خطوات كان هناك هندي آخر ، قال لي المطوف إنه مهراجا يملك عدة ملايين .. و كان بذات ملابس الإحرام البيضاء .. و كان يبكي بذات الخشوع .. و كان مشلولاً يحمله أتباعه على محفة .


    كان فقيراً هو الآخر حقاً .


    و من منا ليس فقيراً إلى الله !


    إن الملايين لا تعفي أحداً من الشيخوخة و العمى و المرض و الموت .


    إن السيد و خادمه يمرضان بالأنفلونزا و يمران بنفس الأعراض .. بل نرى السيد يعاني دائماً أكثر من الخادم ، و يستنجد بعشرات الأدوية و العقاقير ، و يجمع حوله الأطباء فلا يفعل له العلم و لا الطب شيئاً .. و كانوا يقولون لنا في كلية الطب على سبيل السخرية .. إن الأنفلونزا تشفى في سبعة أيام بدون علاج .. و في أسبوع إذا استخدمنا العلاج .


    و الأنفلونزا مرض بسيط .. تافه .. هي مثل من ألف مثل لضعف الإنسان و حاجته و فقره الحقيقي مهما كثرت في يده الاموال و تعددت الأسباب .


    من منا ليس فقيراً إلى الله و هو يولد محمولاً و يذهب إلى قبره محمولا و بين الميلاد و الموت يموت كل يوم بالحياة مرات و مرات .
    و أين الأباطرة و الأكاسرة و القياصرة ؟
    هم و إمبراطورياتهم آثار .. حفائر .. خرائب تحت الرمال .
    الظالم و المظلوم كلاهما رقدا معاً .
    و القاتل و القتيل لقيا معاً نفس المصير .
    و المنتصر و المهزوم كلاهما توسدا التراب .


    انتهى الغرور .
    انتهت القوة .. كانت كذبة .
    ذهب الغنى .
    لم يكن غنى .. كان وهماً .
    العروش و التيجان و الطيالس و الخز و الحرير و الديباج .. كل هذا كان ديكوراً من ورق اللعب .. من الخيش المطلي و الدمور المنقوش .


    لا أحد قوي و لا أحد غني .
    إنما هي لحظات من القوة تعقبها لحظات من الضعف يتداولها الناس على اختلاف طبقاتهم .
    لا أحد لم يعرف لحظة الذل ، و لحظة الضعف ، و لحظة الخوف ، و لحظة القلق .
    من لم يعرف ذل الفقر ، عرف ذل المرض ، أو ذل الحب أو تعاسة الوحدة ، أو حزن الفقد ، أو عار الفضيحة أو هوان الفشل أو خوف الهزيمة .
    بل إن خوف الموت ليحلق فوق رءوسنا جميعاً .


    كلنا فقراء إلى الله .. كلنا نعرف هذا .
    و هم يعرفون هذا جيداً .. و يشعرون بهذا تماماً ، و لهذا يبكون .. و يذوبون خشوعاً و دموعاً .


    سألني صديقي و هو رجل كثير الشك :
    - و ما السر في ثياب الإحرام البيضاء و ضرورة لبسها على اللحم و تحريم لبس المخيط .. و ما معنى رجم إبليس و الطواف حول الكعبة .. ألا ترى معي أنها بقايا وثنية ؟


    قلت له : أنت لا تكتفي بأن تحب حبيبك حباً عذرياً أفلاطونياً ، و إنما تريد أن تعبر عن حبك بالفعل .. بالقبلة و العناق و اللقاء .. هل أنت وثني ؟
    و بالمثل من يسعى إلى الله بعقله و قلبه .. يقول له الله : إن هذا لا يكفي .. لابد أن تسعى على قدميك .


    و الحج و الطواف رمز لهذا السعي الذي يكتمل فيه الحب شعوراً و قولاً و فعلاً .
    و هنا معنى التوحيد .
    أن تتوحد جسداً و روحاً بأفعالك و كلماتك .
    و لهذا نركع و نسجد في الصلاة و لا نكتفي بخشوع القلب .. فهذه الوحدة بين القلب و الجسد يتجلى فيها الإيمان بأصدق مما يتجلى في رجل يكتفي بالتأمل .


    أما ثياب الإحرام البيضاء فهي رمز الوحدة الكبرى التي تذوب فيها الأجناس و يتساوى فيها الفقير و الغني .. المهراجا و أتباعه .


    و نحن نلبسها على اللحم .. كما حدث حينما نزلنا إلى العالم في لحظة الميلاد و كما سوف يحدث حينما نغادره بالموت .. جئنا ملفوفين في لفافة بيضاء على اللحم .. و نخرج من الدنيا بذات اللفة .
    هي رمز للتجرد .. لأن لحظة اللقاء بالله تحتاج إلى التجرد كل التجرد .
    و لهذا قال الله لموسى :
    (( اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى )) .
    هو التجرد المناسب لجلال الموقف .


    و هذا هو الفرق بين لقاء لرئيس جمهورية .. و لقاء مع الخالق .
    فنحن نرتدي لباس التشريفة لنقابل رئيس الجمهورية .
    أما أمام الله فنحن لا شيء .. لا نكاد نساوي شيئاً .
    و علينا أن نخلع كل ثياب الغرور و كل الزينة .


    قال صديقي في خبث : و رجم إبليس ؟
    قلت :
    - أنت تضع باقة ورد على نصب تذكاري للجندي المجهول ، و تلقي خطبة لتحيته .. هل أنت وثني ؟


    لماذا تعتبرني وثنياً إذا رشقت النصب التذكاري للشيطان بحجر و لعنته .. إنها نفس الفكرة .
    إنها كلها رمزيات .
    أنت تعلم أن النصب التذكاري مجرد رمز ، و أنه ليس الجندي .
    و أنا أعلم أيضا أن هذا التمثال رمز ، و أنه ليس الشيطان .
    و بالمثل السعي بين الصفا و المروة إلى حيث نبعت عين زمزم التي ارتوى منها إسماعيل و أمه هاجر .. هي إحياء ذكرى عزيزة و يوم لا يُنسى في حياة النبي و الجد اسماعيل و أمه المصرية هاجر .


    و جميع شعائر ديانتنا ليست طقوساً كهنوتية بالمعنى المعروف ، و إنما هي نوع من الأفعال التكاملية التي يتكامل بها الشعور و التي تسترد بها النفس الموزعة وحدتها ..
    إنها وسيلة لخلق إنسان موحد .. قوله هو فعله .. فالكرم لا معنى له إذا ظل تصريحاً شفوياً باللسان ، و إنما لابد أن تمتد اليد إلى الجيب ثم تنبسط في عطاء ليكون الكرم كرماً حقيقياً .. هل هذه الحركة وثنية أو طقساً كهنوتياً .


    و بهذا المعنى ، شعائر الإسلام ليست شعائر ، و إنما تعبيرات شديدة البساطة للإحساس الديني .
    و لهذا كان الإسلام هو الدين الوحيد الذي بلا طقوس و بلا كهنوت و بلا كهنة .


    ألا تراهم أمامك أكثر من مليون يكلمون الله مباشرة بلا واسطة و يركعون على الأرض العراء حيث لا محاريب و لا مآذن و لا قباب و لا منابر و لا سجاجيد و لا سقوف منقوشة بالذهب و لا جدران من المرمر و الرخام .
    لا شيء سوى العراء .
    و نحن عراء .
    و نفوسنا تعرت أمام خالقها فهي عراء .
    و نحن نبكي .. كلنا نبكي .


    و سكت صديقي و ارتفعت أصوات التلبية من مليون و خمسمائة ألف حنجرة .. لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك .


    و كنت أعلم أن صديقي مازال بينه و بين الإيمان الحقيقي أشواط و مراحل و معراج من المعاناة.
    مازال عليه أن يصعد فوق خرائب هذا البناء المنطقي الذي اسمه العقل و يستشرف على ينابيع الحقيقة في تدفقها البكر داخل قلبه .. حينئذ سوف يكف عقله عن اللجاجة و التنطع و يلزم حدوده و اختصاصه ، و يدرك أن الدين أكبر من مجرد قضية منطقية ، و أنه هو في ذاته منطق كل شيء .. و أن الله هو البرهان الذي نبرهن به على وجود الموجودات لأنه قيومها ( هو الذي أوجدها من العدم فهي موجودة به و بفضله ) ، فهو برهان عليها أكثر مما هي برهان عليه .. و كيف يكون العدم برهاناً على الوجود .. و كيف يكون المعدوم شاهداً على موجد الوجود .


    إنها لجاجة العقل .. و هي سلسلة من الخرائب المنطقية لابد أن نمر بها في معراجنا للوصول إلى الحقيقة .. و هذا عيب العصر الذي يدّعي فيه العقل أنه كل شيء .


    و عصرنا للأسف عصر العلوم الوضعية و المنطق الوضعي .. هو عصر الألكترونيات و الكهرباء و الكيمياء و الطبيعة .


    و الواحد منا في بداية تلقيه لهذه العلوم الوضعية ، و لفرط انبهاره بها و بمنجزاتها يتصور أنها علوم كلية يمكن أن يناقش بها الأمور الكلية مثل الوجود الإلهي فيقع في خطأ من يحاول أن يقيس السماء بالشبر و يزن الحب بالدرهم .


    و تمضي عليه سنوات من التمزق و المعاناة قبل أن يكتشف أن الطبيعة و الكيمياء علوم جزئية تبحث في المقادير و العلاقات و اختصاصها هو القضايا الجزئية ، و هي لا تصلح بطبيعة معاييرها للحكم على الدين لأنه قضية كلية .


    الدين هو العلم الكلي الذي يحتوي على كل تلك العلوم .. في حين لا يحتوي عليه أي منها .


    و عندنا نور آخر نستدل به على الحقيقة الدينية ، نور القلب و هدى البصيرة و استدلال الفطرة و البداهة .


    هنا نور نستشف به الحقيقة بدون حيثيات .
    هنا منطقة في الإدراك هيأها الله للإدراك المباشر .
    و هي مرتبة أعلى من مراتب الشعور العادي .
    و كما أن العقل أعلى في الرتبة من حاسة مثل الشم و اللمس ، كذك البصيرة أعلى في الرتبة من العقل و من الإدراك بالمنطق العقلي الجدلي .


    و البصيرة هبة متاحة لكل منا ، و لكن صدأ العرف و التقليد و الادعاء العقلي ، و الأحكام الجاهزة الشائعة ، هذا عدا الغرور و ظلمة الشهوات و الرغبات و سعار الأحقاد و المطامع .. كل هذه الغواشي ترين على مرآة البصيرة فتحجب أنوارها الكاشفة .


    و يمضي العمر و الإنسان يصارع هذه الرغبات و يتمزق ، و يعاني و يسأل و يتساءل و يحفر في داخل نفسه حتى تنتهك الأستار ، و تنجلي الغواشي ، و يبدأ يدرك الحقيقة بهذه الرؤية الكلية التي هي هبة بصيرته .


    و هنا يبدأ يعرف ما هو الدين .


    و قد يرى بالبصيرة من لا يحمل الشهادات .
    و قد تعمى بصيرة المتعلم المؤهل في الجامعات .
    و جلاء القلب فضل إلهي قد يوهب و قد يكتسب ، و لا توجد شروط في المعارف الإلهية ، و هذا الهندي المسلم الفقير الحافي العاري الغارق في دموعه قد يعرف عن الله أكثر مما نعرف نحن الذين نكتب في الدين و الله .


    و ربما لو سألته عن شعوره لما استطاع أن يشرحه في عبارات مثل العبارات المنمقة التي نكتبها .. و هو أمر لا يهم .. فالمعارف العالية قد تعلو على العبارة و قد تعجز عنها الإشارة .. فلا يبقى إلا الصمت و الدموع .


    و لهذا هم يبكون على عرفات في لحظة لقاء مع النفس و الله .. تبدو فيها الكلمات مبتذلة .. و اللسان عاطلاً ، و العبارات خرساء ، فلا تبقى إلا الدموع ، و هي دموع فرح و حزن و ندم و توبة و تطهر و ميلاد .


    و هي فجر روحي يعرفه من جربه .


    و قد توحي اللحظة الواحدة و الظرف الواحد بشيئين مختلفين تماماً و ربما متناقضين ، فحينما كنا نطوف بالكعبة في زحام من ألوف مؤلفة ، كان صديقي يلهث مختنقاً و كل ما يخطر له بالمناسبة هو تخيله لو كانت هذه الكعبة في أوروبا في برلين مثلاً ، إذن لاختلف الأمر و لطاف حولها الأوروبيون في طوابير منظمة لا يزحم فيها الواحد الآخر .. بينما كنت أنا أنظر إلى الألوف المؤلفة التي تدور كالذرات البيضاء و أرى فيهم الملايين بلا هوية ممن حجوا و طافوا و عاشوا و ماتوا .. أرى فيهم أبي و أمي .. كانوا هنا يطوفون منذ سنوات في هذا الزحام نفسه .. و من قبلهم جدي الذي جاء إلى هنا على ظهور الإبل .. ثم الأجداد .. و أجداد الأجداد من قبل إلى أيام النبي الذي خرج من مكة مهاجراً و عاد إليها فاتحاً .. كنت أنظر في الجموع الحاشدة من منظور تاريخي و في خناق الزحام نسيت نفسي تماماً ، و فقدت هويتي ، و لم أعد أعرف من أنا .. هأنذا قد مت أنا الآخر .. و هذا ابني يطوف و يذكرني و هو يطوف ، ثم يموت ذات يوم و يصبح هو الآخر ذكرى .. كانت لحظة روحية شديدة التوهج فقدت فيها إحساسي بذاتي تماماً ، و غبت عن نفسي و امتلأت إدراكاً بأنه لا أحد موجود حقاً سوى الله .. و تذكرت السطر الأول من قصة الخلق .


    في البدء كان الله و لا شيء معه .
    و في الختام يكون و لا شيء بعده .
    هو الأول و الآخر .
    هو ..
    نعم هو و لا سواه .


    كانت لحظة من المحو الكامل لكل شيء بما في ذلك نفسي ذاتها ، في مقابل ملء مطلق لموجود واحد مطلق هو الله .


    و بالرغم من الإحساس بالغياب فإنه كان إحساساً في الوقت ذاته بالحضور .. الحضور الشامل المهيمن المالئ لكل ذرة من الشعور .. حضور ماذا .. ؟


    و أحار في وصف تلك اللحظة و لا أجد الألفاظ و لا العبارات و أكتفي بأنها أعمق ما عشت من لحظات .


    إنها أشبه بعدة ستائر تفتح متتالية بعضها من وراء البعض .. تفتح ستارة لتكشف عن مسرح صغير هو الواقع الفردي بتفاصيله ، ثم تفتح ستارة في العمق لتكشف عن واقع آخر خلفي كبير ، هو الواقع التاريخي يبتلع الواقع الأول بما فيه ، ثم تفتح ستارة ثالثة في العمق البعيد تكشف عن حقيقة الحقائق التي يبهت أمامها كل شيء .


    هو إحساس ديني يصعب تصويره في كلمات .
    هو أشبه بموقف مقاتل على الجبهة .
    إنه في تلك اللحظة ينسى همومه الصغيرة .
    هموم وطنه تبتلع همومه .
    و جراح وطنه تبتلع جراحه فينسى مشكلات بيته الصغير و يذوب في مشكلات مجتمعه الكبير .


    هناك حضور أكبر ابتلع الحضور الأصغر .
    و بالمثل لحظة الوقوف في حضرة الله .
    هنا الحضرة العظمى .. حضرة الحق .
    و هي حضرة هائلة تذوب أمامها الحواس تماماً .
    يفنى الواقع الصغير .. واقع النفس و مشكلاتها اليومية .. ثم الواقع الزمني المحيط بتفاصيله .. ثم الواقع التاريخي كله .
    ثم يكون فناء النفس ذاتها في لحظة احتواء كامل من ذات عظمى مهيمنة .
    هي لحظة حب صوفية نعرفها في الحب .. و يرويها لنا المحبون .


    و الحب البشري لا شيء بالنسبة للحب الإلهي .
    و جمال امرأة لا شيء بالنسبة للجمال المطلق الكلي .
    أين كان صديقي من هذا كله ؟
    ما أبعد كل منا عن الآخر مع أن ذراعي في ذراعه .. كان يفكر و يمنطق و يرتب الحيثيات .
    و كنت أذوب حباً و قد قفزت بي اللحظة فوق حاجز العقل و جاوزت بي الحدود و التفاصيل لتضعني على ذروة أرى منها رؤية كلية ، و أدرك منها إدراكاً كلياً .


    هو الحب .
    و الدين في جوهره حب .. و الحج هجرة إلى بيت الحبيب و الطواف للعشاق .
    هؤلاء لا يجدون فيه كلفة و لا تكليفاً .
    و إنما يجدون حواراً مؤنساً .. و مكالمة من تلك المكالمات السرية التي تضيء مجاهيل القلب .
    و ما أكثر ما شعرت به في الكعبة مما لا أجد له كلمات .


    قد يسأل سائل : لماذا نتكبد المشاق لنذهب إلى الله في رحلة الحج .. و لماذا هذه الهجرة المضنية .. و الله معنا في كل مكان .. بل هو أقرب إلينا من حبل الوريد ، و هو القائل إنه (( قريب مجيب الدعوات )) .. بل إن قربه لنا هو منتهى القرب .. فما الداعي إلى سفر و ارتحال لنقف فوق عرفة ندعوه منها .. و هو القريب منا قرب الدم من أجسادنا .


    و السؤال وجيه .
    و الحقيقة أن الله قريب منا بالفعل و أقرب إلينا من الدم في أجسادنا ، و لكننا مشغولون على الدوام بغيره .


    إنه لا يقيم دوننا الحجب و لكننا نحن الذين نقيم هذه الحجب .. نفوسنا بشواغلها و همومها و أهوائها تلفنا في غلالات مكثفة من الرغبات .. و عقولنا تضرب حولنا نطاقاً من الغرور .. و كبرياؤنا يصيبنا بنوع من قصر النظر ، ثم العمى .. فلا نعود نرى أو نحس بشيء سوى نفوسنا .. و هذا هو البعد برغم القرب ..


    و الهجرة على القدمين و تكبد المشقات و النفقات هي وسيلة مادية للخلوص من هذه الشواغل و تفريغ القلب لذكر خالقه ، و لإيقاظ الحواس على حقيقة هذا القرب القريب لله .


    و من هنا كانت كلمة (( عرفة )) .. فبعد رحلة من ألوف الأميال يتيقظ القلب على (( معرفة )) .. فهو (( يتعرف )) على ربه و يكتشف قربه (( و يتعرف )) على نفسه و يكتشف بعدها ..
    و يقول النبي عليه الصلاة و السلام في هذا اليوم :
    (( نعم اليوم يوم عرفة لأن أهل الأرض يعرفهم أهل السماء ))
    هي إذن معرفة شاملة من كل الوجوه .


    و حينما يفد الحاج بجسده إلى البيت يكون عقله قد أشرق على معرفة .. و إذا عرف الإنسان ربه حق المعرفة فإنه سوف يدع الخلاف معه ، سوف يدع الذنوب ظاهرة و باطنة و سوف يكف عن منازعته في أمر قدره و قضائه لأنه اكتشف كامل عدله و حكمته ..
    و سوف يدع الخلاف بينه و بين الخلق فيكف عنهم أذاه و يحتمل أذاهم و يترفق بهم و يشفق عليهم .
    و سوف يدع الخلاف بينه و بين نفسه و يصل إلى حالة من الوحدة فيقول ما يبطن ، و يفعل ما يقول فيصبح ظاهره باطنه و قوله فعله .
    و هذا هو الانسجام مع النفس و الكون و الله ..
    و انعقاد الصلة بين الروح و خالقها .
    و بلوغ السكينة التي لا تزلزلها الجبال .
    و السعادة الروحية بالقرب .


    يصف لنا معروف الكرخي رجلاً بلغ هذه الحال فيقول :
    (( رأيت رجلا بالبادية يمشي بلا زاد .. فقلت له .. إلى أين تريد .. قال لا أدري .. قلت هل رأيت رجلاً يريد مكانا لا يدريه .. قال أنا هو .. قلت فأين تنوي .. قال مكة .. قلت تنوي مكة و لا تدري أين تذهب .. قال نعم و ذاك لأني كم مرة أردت أن أذهب إلى مكة فيردني إلى طرسوس ، و كم مرة أردت طرسوس فيردني إلى مكة .. قلت من أين المعاش .. قال من حيث يريد .. يجوعني مرة و الطعام حاضر و يشبعني مرة و الطعام غائب )) .


    و حال صاحبنا هو حال من انعقدت صلته بالله ..
    فهو لا يعرف لنفسه إرادة إلا ما يريد به خالقه و لا يتزود إلا بالتقوى و ليفعل به الله ما يشاء .. فهو قد علم أنه لا عبرة بالطعام .. فقد يوجد الطعام بوفرة و يوجد معه المرض الذي يصد عنه .. و قد يوجد الكفاف و يوجد الشبع .. و قد يوجد الصوم و معه الاكتفاء المشبع بصحبة الخالق و الائتناس به .


    و لا يفهم من هذا تواكل .. لأن الرجل يصف ما بينه و بين الله و ليس ما بينه و بين الناس .. و لو أنه وجد بين الناس شراً لقومه بالسيف .. فهذا الرجل نفسه هو المقاتل أبو ذر و أمثاله .. و هو نفسه الذي يثور على الحاكم الظالم .. فالامتثال لله شيء غير الامتثال لعباد الله ، بل هو عكسه و نقيضه ، فخادم الله هو أول من يثور على عباد الله دون خوف ..
    و الخائف من الله لا تساوي عنده الدنيا شيئاً فهو أول من يضحي بها و بنفسه تحت ظلال السيوف في سبيل كلمة حق .. لأن الله عنده هو الحق .. و عشق الله هو الموت في سبيله .


    و هذا هو توكل الإسلام و هو غير تواكل الكسالى و الشحاذين من مفترشي الأرصفة .. و هؤلاء ليسوا مسلمين أصلاً .
    و ليس كل من يتمتم :
    (( قل هو الله أحد )) بمسلم موحد .
    و المهم ماذا تقول أعماله ..
    إذا كان يعتقد حقاً أن الله أحد لا سواه ، هو الضار النافع ، فلماذا يمد اليد إلى غيره و لماذا يتزلف و لماذا يتملق ، و لماذا يكدس المال و العقار و هو يعلم أن الله هو المالك الوحيد للأرض و ما عليها و هو الوارث للكل ؟ و لماذا يكذب و الله سميع ؟ و لماذا يسرق و الله بصير ؟ و لماذا ينافق و الله حسيب ؟ و لماذا يخون و الله رقيب ؟ و لماذا يهرب و الله شهيد ؟


    و التوحيد أعمال و ليس تمتمة و حمحمة .
    و الشكر أعمال و ليس (( الحمدلله )) على اللسان ..
    يقول الله لآل داود ..
    (( اعملوا آل داود شكراً و قليل من عبادي الشكور ))
    لأن المقصود بالشكر الأعمال الدالة على الشكر و ليس التمتمة .. اعملوا آل داود شكراً .. اعملوا ..
    و القرآن سياق متصل مستمر .. لكلمة اعملوا .. يبدأ بكلمة (( اقرأ )) للعلم ..
    و بعد العلم يكون العمل على مقتضى التوحيد .
    و هذا هو الدين ..
    قل : لا إله إلا الله و استقم على معناها .
    و هذه هي رحلة الهجرة إلى الله .. و الحج و الصلاة و الصيام صورتها البدنية .


    و الحج في معناه خروج .
    خروج من أسمائنا إلى أسماء الله .
    و خروج من اعتدادنا بأنفسنا إلى الاعتداد به ، و خروج من العبودية للأسباب ( المال و الولد و الأرض و العقار و المنصب و السلطة و النفوذ و الجاه ) إلى عبودية له وحده باعتباره مسبب الأسباب .
    و خروج من حولنا و قوتنا إلى حوله و قوته .
    و خروج من إرادتنا إلى إرادته ، و من رغبتنا إلى رغبته يقول نبينا محمد عليه الصلاة و السلام :
    (( اللهم بك انتشرت ، و بك آمنت ، و بك اعتصمت . اللهم بك أصول و بك أجول ))
    (( اللهم بك أصبحت و بك أمسيت و لا فخر لي ))


    و يقول عن الحج :
    (( من خرج يريد الطواف خاض في الرحمة ))
    و تفسير الرحمة إن الله يجذب همة عبده إليه و يعصمها من التفرقة .


    و يقول عن الركوب للسفر :
    (( فإذا ركب الحاج الراحلة في الظاهر يشهد في السر أن الله هو الذي يحمله )) و هي ذروة في التوحيد ، فهو لا يعود يرى الناقة أو القطار أو الطائرة ، و إنما الله هو الذي يحمل المسافر على أسبابه و قوانينه .. تختفي الأسباب ليظهر المسبب ، و يختفي الخلق ليظهر الخالق .


    و هكذا تكون كل خطوة بالقدم ترافقها خطوة بالقلب إلى مزيد من التوحيد .. و يكون مع طي الأبعاد طي داخلي للصفات ، فيقترب العبد بصفاته من صفات ربه ، فيكون الرحيم الكريم الحليم الودود الرءوف الصبور الشكور ما استطاع .. و هو صعود و معراج لا نهاية له .. لأن كمال الله لا نهاية له .


    و هكذا يقطع المهاجر إلى الله مرحلة بعد مرحلة حتى يصل إلى الميقات ، فيفنى عن نفسه و يموت عن صفاته و يصبح حاله في الظاهر و الباطن حال من يحيا بالله ، و حينئذ يحق عليه الغسل و لبس ثوب الإحرام على العرى فهذا هو ثوب الميت المولود .. و هو ثوب من قطعتين رمزا لستر العورة الظاهرة و ستر العورة الباطنة .. و الحياء هنا على وجهين حياء من الخلق و حياء من الحق .. حياء من سوء الخلق الظاهر الذي تعرفه الناس ، و حياء من العورة الباطنة التي لا يراها إلا الله .. و من هنا كانت الخرقتين الرمزيتين .


    أما النحر و الذبح فهو في حقيقته ذبح للنفس و رغباتها و شهواتها و أهوائها .. و قد افتدى الله النفس بذبح الضحية .. فتضحي ببعض مالك رمزاً لقتل شهواتك و هوى نفسك .
    أما تقبيل الحجر الأسود فهو تزود من غائب ، فأنت تضع شفتيك حيث وضع النبي شفتيه صلوات الله و سلامه عليه .


    و الحكايات عن أصل الحجر الأسود و الكعبة كثيرة .. فهي بيت العبادة الأول اتخذه آدم - عليه السلام - و أرشده جبريل - عليه السلام - إلى مكانه .. و حينما غرقت الكعبة في الطوفان استودع الله الحجر في جبل أبي قبيس .. و ظل الأنبياء يطوفون بمكان الكعبة حتى جاء إبراهيم - عليه السلام - فأقام قواعدها و أعاد جبريل الحجر إلى مكانه .


    و في عام مولد النبي - عليه الصلاة و السلام – كانت غزوة الفيل المعروفة و هدم الكعبة كما أنه في عام 317 هجرية هجم أبو طاهر القرمطي على مكة و قتل و سبى ثم اقتلع الحجر الأسود و حمله معه إلى الأحساء .. و قد تبرأ عبدالله المهدي من فعل أبي طاهر و من أخذه الحجر الأسود و قتله الحجيج ، فبعث إليه برد الحجر الأسود ، و لكنه لم يستجب و بقي الحجر 22 سنة ثم نقل إلى الكوفة عام 393 هجرية ، و منها أعيد إلى مكانه في البيت .


    و يرد بعض المؤرخين اقتلاع القرامطة للحجر الأسود إلى محاولتهم إبطال الحج و هدم الإسلام ، و إظهار عبادة النار و يرى آخرون أن الصراع كان سياسيا بحتا ، و كان المقصود منه محاربة عقيدة أهل السنة .


    فالكعبة لم تسلم إذن من التخريب و الهدم و السلب و النهب .. و عبر التاريخ لم يبق فيها حجر على حجر .. لم يبق فيها إلا مكانها .
    فهي رمز
    و لا يصح تقديسها إلا رمزاً
    و شأنها شأن القرآن حينما يقول عنه الله :
    (( لا يمسه إلا المطهرون ))
    فالمراد هنا المعنى العميق .. (( لا يمسه إلا المطهرون )) .. أي لا يمس معاني القرآن و لا يفهم أسراره إلا النفوس المطهرة من أهوائها .


    و بالمثل تقوم الكعبة كرمز .. لا كحجارة .
    و الحج و الطواف و الذبح و الرجم و عرفة رموز .
    فإذا تجاوز تقديس البقعة إلى تقديس الحجر ، خرج المؤمن عن إيمانه و سقط إلى حضيض الشرك و الوثنية ، و ما هكذا مراد الله بالكعبة .


    و الذي يسأل لماذا يكون الطواف سبعة أشواط و الرجم سبع حصوات .. نقول له و لماذا لا يكمل نمو الجنين إلا في الشهر السابع ؟ و لماذا يولد ميتاً إذا نزل قبل السابع ؟ و لماذا تكتمل النوتة الموسيقية بالدرجة السابعة فلا تكون النوتة الأعلى بعد ذلك إلا جواباً للنوتة الأولى ؟
    إنه سر في بناء الكون المادي و الروحي إنه سباعي التكوين ، و إن السبعة هي درجة الاستواء و التمام .


    و النفس البشرية بالمثل سبع درجات .. أسفلها النفس الأمارة ، ثم تليها النفس اللوامة ، ثم النفس الملهمة ، ثم النفس المطمئنة ، ثم النفس الراضية ، ثم النفس المرضية ، ثم النفس الكاملة .
    و لهذا يكون الطواف سبعة أشواط ، و الرجم سبع حصيات ، و السعي سبع مرات عن الأنفس السبع .


    و السعي بين الصفا و المروة هو رمز لتاريخ الوجود بين المحو و الإثبات .


    في البداية كان الصفا .
    كان الله و لا شيء معه .. الخواء و المحو المطلق .
    كان الأزل و ما سبق لنا في علم الله قبل أن نوجد و قبل أن يخلق الزمان .


    ثم كانت المروة .. حينما نبع الماء .. و خلق الزمان و تدفق الوجود و قامت الحياة .
    و كان فضل الله في الأبد ، كما سبق فضله من قبل في الأزل .


    و السعي بين الصفا و المروة هو شهود الفضل في الحالين .
    و هو الانتقال من الحقيقة إلى الشريعة للجمع بينهما في القلب .
    من الكلمة التي سبقت في الأزل .
    إلى التكليف القائم في الزمان .
    و السعي رمز لإجابة الأمر و التلبية .


    و الصوفي فيما يرمي من حصيات على إبليس .. يرمي عيوب نفسه و يرمي الدنيا .. و يرمي الأسباب ..
    و هو حينما يذبح الضحية يذبح نفسه الموافقة للشيطان .
    و حينما يحلق رأسه يحلق الكبرياء عن عقله .
    فهو يعلم أن الكنز الحقيقي الذي يستحق أن يجهد في حصيله هو كنز البراءة .. البراءة من الحول و الطول و القوة و الغرور و الكبرياء .. لا حول و لا قوة إلا بالله .. هي الكنز ..


    لا وجود حق سواه ..
    و الكل هالك ..
    فيلزم التواضع بل الفناء في الحضرة الإلهية .


    و أذكر فيما أذكر الآن ما كانوا يحكون لي عن جدي و أنا صغير و كيف أنه حج سبع حجات ، و كان الحج في ذلك الزمان البعيد منذ مائة سنة على الأقدام و على الإبل و بالبحر في سفن شراعية بدائية و في الحجة السابعة يروي الجد أهوالا .. عاصفة هبت على الحجيج و هم في عرض البحر و اقتلعت الشراع و حطمت الدفة ، و الكل يصرخ و يتضرع و يستنجد ، و المركب تدور في الدوامة كالفلك و الدوار ، و الموج المتلاطم يلف الجميع .


    ثم يروي كيف تفسخت المركب إلى ألواح ابتلعتها اللجة في لحظات ، و كيف أفاق ليجد نفسه سابحا على طوف خشبي و أمامه جراب الزاد ، و كانوا يسمونه في تلك الأيام (( الذهاب )) .. كل حاج كان يطلع إلى الحج و معه ذهابه الخاص و به ما يلزم من المئونة و الأدوات و الثياب .
    و كان أمرا عجيبا أن يهدأ البحر و تقلع الرياح و تنتهي العاصفة ، و ينجو وحده و معه ذهابه بهذه الطريقة التي تبدو كالمعجزة .


    و تدمع عينا الجد و يومض بصره الكليل ، و كأنما يرى شريطا سريعا من اللقطات الرهيبة .. و يروي كيف قضى ليلتين في البحر ثم انتشله مركب شراعي آخر قاصدا إلى الحج .. و كيف أتم حجته السابعة ثم عاد بسلام .


    و يروي كيف كان الموت يترصد الحاج في كل خطوة في البحر و في البر و في الصحارى .. و بين الحر المحرق و الرمال و العطش إذا ضل طريقه أو ماتت راحلته .. و على أيدي قطاع الطرق إذا ألقى به سوء حظه إلى عصبة من عصاباتهم .. أو بمرض معدٍ في زمان لم يكن يعرف شيئا اسمه طب وقائي أو يسمع عن لقاح للكوليرا أو التيفود .. و كانت الرحلة تطول إلى ستة شهور و سبعة شهور و سنة ، و كان الخارج إليها مفقودا و العائد مولودا .


    و كان يختم قصته مبتسما بفمه الخالي من الأسنان ..
    و برغم كل هذه الأهوال فقد حجيت سبع مرات و هاأناذا أموت بينكم في الفراش كما يموت الكسالى من العجائز ، لتعلموا يا أولادي أن كل شيء بأمر الله .. و أنه لا البحر يغرق و لا المرض يهلك و لا نار الصحارى تحرق ، و إنما هو الله وحده الذي يصرف الآجال كيف يشاء .


    و أذكر الآن قصة هذا الجد الطيب و تطوف بذهني تلك الصور و أنا أضع قدمي في الطائرة لأصل جدة في ساعتين ، و في ساعة ثالثة أكون في الحرم أطوف بالكعبة ثم في الساعة التالية أكون صاعد إلى عرفات ، و بعد غروب الشمس أكون نازلا إلى منى لرمي الجمرات ثم طواف الإفاضة ثم تنتهي كل المناسك في أمان .


    و أتذكر السرب الطويل من خمسين ألف عربة تحمل نصف مليون حاج و تصعد كلها في وقت واحد في عدة طرق دائرية حديثة الرصف .. و كل شيء يتم في سرعة و نظام و دون حادث و قد تناثرت وحدات الكشافة لتنظيم المرور .. و على الجبل تراصت مستشفيات كاملة التجهيز لعلاج و عزل أي حالة اشتباه .. و طوال ساعات الليل و النهار تطوف الرشاشات لقتل الذباب و البعوض في أماكن توالده ، و تطوف فرق أخرى لجمع القمامة و حرقها .


    و بين مكة و المدينة يمتد أوتوستراد أملس كالحرير تنزلق عليه العربات في نعومة ، و ينام الراكب في حضن كرسيه في استرخاء لذيذ .


    ما أبعد اليوم من الأمس .
    و ما أكثر ما نتقلب فيه من النعم .
    و كلما أحاطتنا النعمة ازددنا لله هجرانا .


    أين إيمان اليوم .. من إيمان النبي العظيم منذ ألف و أربعمائة سنة و هو خارج في غزوة تبوك على رأس اثنى عشر ألفا من المسلمين في شهور القيظ المحرق ، ليخوض في رياح السموم و الحرور القاتلة سبع ليال يتهدده العطش في كل خطوة .. و قد ترك من خلفه الأمان و الظل الظليل و الراحة في خيام زوجاته .. ليلقى الله و ليبلغ الرسالة .. و ليحارب من ؟! .. الروم .. الذين احتشدوا على الحدود بمئات الألوف .


    و اليوم ترتفع حرارة الجو بضع درجات فندير جهاز التكييف و نغلق أبواب غرفنا لا نبرحها لأن الخروج إلى الشارع مجازفة غير مأمونة .
    و ما أبعد اليوم من الأمس حقاً .
    و ما أفدح ما خسرنا حينما خسرنا الإيمان


    ~~


    مقال : الحج للــ د. مصطفى محمود رحمه الله ..
    كتاب / الإسلام ما هو ؟


    ـــــــــــــــــ


    وكل عام و أنتم بخير نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    Dr. Mostafa Mahmoud
    الشمس تنحدر إلى المغيب على جبل عرفات .
    الجبل مزروع بالخيام .. مليون و خمسمائة ألف حاج يحطون عليه كالحمام في ثياب الإحرام البيض .. لا تعرف الواحد من الآخر .. لا تعرف من الفقير و من الغني .. و لا تعرف من التركي و من العربي ؟


    اختفت الجنسيات .. و اختفت الأزياء المميزة و اختفت اللغات .. الكل يلهج بلسان واحد .. حتى الجاوي و الصومالي و الأندونيسي و الزنجي و الأذربيجاني الكل يتكلم العربية .. بعضهم ينطقها مكسرة و بعضهم ينطقها بلكنة أجنبية .. و بعضهم يمد بعض الحروف و يأكل بعض الحروف و لكنك تستطيع أن تفهم من الجميع و تستطيع أن تسمع أنهم يهتفون .. لبيك اللهم لبيك .


    و الذين لا يعرفون العربية تراهم قد التفوا حول مطوف يرددون وراءه الدعاء العربي حرفاً حرفا في خشوع و ابتهال .


    في البقعة التي كنت أقف فيها أكثر من خمس عشرة جنسية مختلفة في مكان لا يزيد على أمتار معدودة .. التركستان و الباكستان و كازخستان و غينيا و غانا و نيجيريا و زنجبار و أوغندة و كينيا و السودان و المغرب و اليمن و البرازيل و إسبانيا و الجزائر و سيلان .. كلهم حولي يتصافحون و يتبادلون التحية ، و يهنئ بعضهم بعضا .
    و لولا أن المطوف أخبرني بهذه الجنسيات لما عرفتها ، فالكل كانوا يبدون لعيني و كأنهم عائلة واحدة في مجلس عائلي حميم ..


    على بعد خطوات كان أكثر من ستين هندياً يلتفون حول مطوف هندي ، و هو الآخر فيما يبدو يقرأ لهم الدعاء العربي من كتاب في يده .. و هم يرددون خلفه الدعاء و هم يبكون و قد تخضلت لحاهم الطويلة الكثة بالدموع .


    و هم قطعاً لم يكونوا يعرفون العربية ، و لم يكونوا يدركون معاني ما يرددون من حروف .. و إنما شعروا بها بقلوبهم فبكوا .


    كان كل واحد يشعر أنه يخاطب الله بهذه الحروف و أنه في حضرة الله و في ضيافته و في رحابه .. و أنه يقف حيث كان يقف محمد عليه الصلاة و السلام .. النبي العظيم البدوي الفقير الأمي .. و أنه يسجد حيث كان يسجد ، و يركع حيث كان يركع ، و يردد ما كان يردده من دعاء .. بذات اللسان العربي .. و في ذات اليوم .. يوم الجمعة من ذي الحجة .. و لعل ذبذبات صوت النبي و أصوات أصحابه مازالت في الفضاء حوله .. فلا شيء يفنى في الطبيعة و لا شيء يستحدث .


    عرفت أن هؤلاء الستين هم من أفقر طائفة هندية و أنهم جاءوا إلى مكة على الأقدام و على سفن شراعية و على جمال .
    و كان زعيمهم يحمل علماً عبارة عن خرقة ممزقة .
    و بعضهم جاوز الثمانين .. و بعضهم كف بصره .. و بعضهم كان يحمل بعضا .
    و كان الكل يبكون بحرقة و يذوبون خشوعاً .


    كانوا فقراء حقاً .


    و على بعد خطوات كان هناك هندي آخر ، قال لي المطوف إنه مهراجا يملك عدة ملايين .. و كان بذات ملابس الإحرام البيضاء .. و كان يبكي بذات الخشوع .. و كان مشلولاً يحمله أتباعه على محفة .


    كان فقيراً هو الآخر حقاً .


    و من منا ليس فقيراً إلى الله !


    إن الملايين لا تعفي أحداً من الشيخوخة و العمى و المرض و الموت .


    إن السيد و خادمه يمرضان بالأنفلونزا و يمران بنفس الأعراض .. بل نرى السيد يعاني دائماً أكثر من الخادم ، و يستنجد بعشرات الأدوية و العقاقير ، و يجمع حوله الأطباء فلا يفعل له العلم و لا الطب شيئاً .. و كانوا يقولون لنا في كلية الطب على سبيل السخرية .. إن الأنفلونزا تشفى في سبعة أيام بدون علاج .. و في أسبوع إذا استخدمنا العلاج .


    و الأنفلونزا مرض بسيط .. تافه .. هي مثل من ألف مثل لضعف الإنسان و حاجته و فقره الحقيقي مهما كثرت في يده الاموال و تعددت الأسباب .


    من منا ليس فقيراً إلى الله و هو يولد محمولاً و يذهب إلى قبره محمولا و بين الميلاد و الموت يموت كل يوم بالحياة مرات و مرات .
    و أين الأباطرة و الأكاسرة و القياصرة ؟
    هم و إمبراطورياتهم آثار .. حفائر .. خرائب تحت الرمال .
    الظالم و المظلوم كلاهما رقدا معاً .
    و القاتل و القتيل لقيا معاً نفس المصير .
    و المنتصر و المهزوم كلاهما توسدا التراب .


    انتهى الغرور .
    انتهت القوة .. كانت كذبة .
    ذهب الغنى .
    لم يكن غنى .. كان وهماً .
    العروش و التيجان و الطيالس و الخز و الحرير و الديباج .. كل هذا كان ديكوراً من ورق اللعب .. من الخيش المطلي و الدمور المنقوش .


    لا أحد قوي و لا أحد غني .
    إنما هي لحظات من القوة تعقبها لحظات من الضعف يتداولها الناس على اختلاف طبقاتهم .
    لا أحد لم يعرف لحظة الذل ، و لحظة الضعف ، و لحظة الخوف ، و لحظة القلق .
    من لم يعرف ذل الفقر ، عرف ذل المرض ، أو ذل الحب أو تعاسة الوحدة ، أو حزن الفقد ، أو عار الفضيحة أو هوان الفشل أو خوف الهزيمة .
    بل إن خوف الموت ليحلق فوق رءوسنا جميعاً .


    كلنا فقراء إلى الله .. كلنا نعرف هذا .
    و هم يعرفون هذا جيداً .. و يشعرون بهذا تماماً ، و لهذا يبكون .. و يذوبون خشوعاً و دموعاً .


    سألني صديقي و هو رجل كثير الشك :
    - و ما السر في ثياب الإحرام البيضاء و ضرورة لبسها على اللحم و تحريم لبس المخيط .. و ما معنى رجم إبليس و الطواف حول الكعبة .. ألا ترى معي أنها بقايا وثنية ؟


    قلت له : أنت لا تكتفي بأن تحب حبيبك حباً عذرياً أفلاطونياً ، و إنما تريد أن تعبر عن حبك بالفعل .. بالقبلة و العناق و اللقاء .. هل أنت وثني ؟
    و بالمثل من يسعى إلى الله بعقله و قلبه .. يقول له الله : إن هذا لا يكفي .. لابد أن تسعى على قدميك .


    و الحج و الطواف رمز لهذا السعي الذي يكتمل فيه الحب شعوراً و قولاً و فعلاً .
    و هنا معنى التوحيد .
    أن تتوحد جسداً و روحاً بأفعالك و كلماتك .
    و لهذا نركع و نسجد في الصلاة و لا نكتفي بخشوع القلب .. فهذه الوحدة بين القلب و الجسد يتجلى فيها الإيمان بأصدق مما يتجلى في رجل يكتفي بالتأمل .


    أما ثياب الإحرام البيضاء فهي رمز الوحدة الكبرى التي تذوب فيها الأجناس و يتساوى فيها الفقير و الغني .. المهراجا و أتباعه .


    و نحن نلبسها على اللحم .. كما حدث حينما نزلنا إلى العالم في لحظة الميلاد و كما سوف يحدث حينما نغادره بالموت .. جئنا ملفوفين في لفافة بيضاء على اللحم .. و نخرج من الدنيا بذات اللفة .
    هي رمز للتجرد .. لأن لحظة اللقاء بالله تحتاج إلى التجرد كل التجرد .
    و لهذا قال الله لموسى :
    (( اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى )) .
    هو التجرد المناسب لجلال الموقف .


    و هذا هو الفرق بين لقاء لرئيس جمهورية .. و لقاء مع الخالق .
    فنحن نرتدي لباس التشريفة لنقابل رئيس الجمهورية .
    أما أمام الله فنحن لا شيء .. لا نكاد نساوي شيئاً .
    و علينا أن نخلع كل ثياب الغرور و كل الزينة .


    قال صديقي في خبث : و رجم إبليس ؟
    قلت :
    - أنت تضع باقة ورد على نصب تذكاري للجندي المجهول ، و تلقي خطبة لتحيته .. هل أنت وثني ؟


    لماذا تعتبرني وثنياً إذا رشقت النصب التذكاري للشيطان بحجر و لعنته .. إنها نفس الفكرة .
    إنها كلها رمزيات .
    أنت تعلم أن النصب التذكاري مجرد رمز ، و أنه ليس الجندي .
    و أنا أعلم أيضا أن هذا التمثال رمز ، و أنه ليس الشيطان .
    و بالمثل السعي بين الصفا و المروة إلى حيث نبعت عين زمزم التي ارتوى منها إسماعيل و أمه هاجر .. هي إحياء ذكرى عزيزة و يوم لا يُنسى في حياة النبي و الجد اسماعيل و أمه المصرية هاجر .


    و جميع شعائر ديانتنا ليست طقوساً كهنوتية بالمعنى المعروف ، و إنما هي نوع من الأفعال التكاملية التي يتكامل بها الشعور و التي تسترد بها النفس الموزعة وحدتها ..
    إنها وسيلة لخلق إنسان موحد .. قوله هو فعله .. فالكرم لا معنى له إذا ظل تصريحاً شفوياً باللسان ، و إنما لابد أن تمتد اليد إلى الجيب ثم تنبسط في عطاء ليكون الكرم كرماً حقيقياً .. هل هذه الحركة وثنية أو طقساً كهنوتياً .


    و بهذا المعنى ، شعائر الإسلام ليست شعائر ، و إنما تعبيرات شديدة البساطة للإحساس الديني .
    و لهذا كان الإسلام هو الدين الوحيد الذي بلا طقوس و بلا كهنوت و بلا كهنة .


    ألا تراهم أمامك أكثر من مليون يكلمون الله مباشرة بلا واسطة و يركعون على الأرض العراء حيث لا محاريب و لا مآذن و لا قباب و لا منابر و لا سجاجيد و لا سقوف منقوشة بالذهب و لا جدران من المرمر و الرخام .
    لا شيء سوى العراء .
    و نحن عراء .
    و نفوسنا تعرت أمام خالقها فهي عراء .
    و نحن نبكي .. كلنا نبكي .


    و سكت صديقي و ارتفعت أصوات التلبية من مليون و خمسمائة ألف حنجرة .. لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك .


    و كنت أعلم أن صديقي مازال بينه و بين الإيمان الحقيقي أشواط و مراحل و معراج من المعاناة.
    مازال عليه أن يصعد فوق خرائب هذا البناء المنطقي الذي اسمه العقل و يستشرف على ينابيع الحقيقة في تدفقها البكر داخل قلبه .. حينئذ سوف يكف عقله عن اللجاجة و التنطع و يلزم حدوده و اختصاصه ، و يدرك أن الدين أكبر من مجرد قضية منطقية ، و أنه هو في ذاته منطق كل شيء .. و أن الله هو البرهان الذي نبرهن به على وجود الموجودات لأنه قيومها ( هو الذي أوجدها من العدم فهي موجودة به و بفضله ) ، فهو برهان عليها أكثر مما هي برهان عليه .. و كيف يكون العدم برهاناً على الوجود .. و كيف يكون المعدوم شاهداً على موجد الوجود .


    إنها لجاجة العقل .. و هي سلسلة من الخرائب المنطقية لابد أن نمر بها في معراجنا للوصول إلى الحقيقة .. و هذا عيب العصر الذي يدّعي فيه العقل أنه كل شيء .


    و عصرنا للأسف عصر العلوم الوضعية و المنطق الوضعي .. هو عصر الألكترونيات و الكهرباء و الكيمياء و الطبيعة .


    و الواحد منا في بداية تلقيه لهذه العلوم الوضعية ، و لفرط انبهاره بها و بمنجزاتها يتصور أنها علوم كلية يمكن أن يناقش بها الأمور الكلية مثل الوجود الإلهي فيقع في خطأ من يحاول أن يقيس السماء بالشبر و يزن الحب بالدرهم .


    و تمضي عليه سنوات من التمزق و المعاناة قبل أن يكتشف أن الطبيعة و الكيمياء علوم جزئية تبحث في المقادير و العلاقات و اختصاصها هو القضايا الجزئية ، و هي لا تصلح بطبيعة معاييرها للحكم على الدين لأنه قضية كلية .


    الدين هو العلم الكلي الذي يحتوي على كل تلك العلوم .. في حين لا يحتوي عليه أي منها .


    و عندنا نور آخر نستدل به على الحقيقة الدينية ، نور القلب و هدى البصيرة و استدلال الفطرة و البداهة .


    هنا نور نستشف به الحقيقة بدون حيثيات .
    هنا منطقة في الإدراك هيأها الله للإدراك المباشر .
    و هي مرتبة أعلى من مراتب الشعور العادي .
    و كما أن العقل أعلى في الرتبة من حاسة مثل الشم و اللمس ، كذك البصيرة أعلى في الرتبة من العقل و من الإدراك بالمنطق العقلي الجدلي .


    و البصيرة هبة متاحة لكل منا ، و لكن صدأ العرف و التقليد و الادعاء العقلي ، و الأحكام الجاهزة الشائعة ، هذا عدا الغرور و ظلمة الشهوات و الرغبات و سعار الأحقاد و المطامع .. كل هذه الغواشي ترين على مرآة البصيرة فتحجب أنوارها الكاشفة .


    و يمضي العمر و الإنسان يصارع هذه الرغبات و يتمزق ، و يعاني و يسأل و يتساءل و يحفر في داخل نفسه حتى تنتهك الأستار ، و تنجلي الغواشي ، و يبدأ يدرك الحقيقة بهذه الرؤية الكلية التي هي هبة بصيرته .


    و هنا يبدأ يعرف ما هو الدين .


    و قد يرى بالبصيرة من لا يحمل الشهادات .
    و قد تعمى بصيرة المتعلم المؤهل في الجامعات .
    و جلاء القلب فضل إلهي قد يوهب و قد يكتسب ، و لا توجد شروط في المعارف الإلهية ، و هذا الهندي المسلم الفقير الحافي العاري الغارق في دموعه قد يعرف عن الله أكثر مما نعرف نحن الذين نكتب في الدين و الله .


    و ربما لو سألته عن شعوره لما استطاع أن يشرحه في عبارات مثل العبارات المنمقة التي نكتبها .. و هو أمر لا يهم .. فالمعارف العالية قد تعلو على العبارة و قد تعجز عنها الإشارة .. فلا يبقى إلا الصمت و الدموع .


    و لهذا هم يبكون على عرفات في لحظة لقاء مع النفس و الله .. تبدو فيها الكلمات مبتذلة .. و اللسان عاطلاً ، و العبارات خرساء ، فلا تبقى إلا الدموع ، و هي دموع فرح و حزن و ندم و توبة و تطهر و ميلاد .


    و هي فجر روحي يعرفه من جربه .


    و قد توحي اللحظة الواحدة و الظرف الواحد بشيئين مختلفين تماماً و ربما متناقضين ، فحينما كنا نطوف بالكعبة في زحام من ألوف مؤلفة ، كان صديقي يلهث مختنقاً و كل ما يخطر له بالمناسبة هو تخيله لو كانت هذه الكعبة في أوروبا في برلين مثلاً ، إذن لاختلف الأمر و لطاف حولها الأوروبيون في طوابير منظمة لا يزحم فيها الواحد الآخر .. بينما كنت أنا أنظر إلى الألوف المؤلفة التي تدور كالذرات البيضاء و أرى فيهم الملايين بلا هوية ممن حجوا و طافوا و عاشوا و ماتوا .. أرى فيهم أبي و أمي .. كانوا هنا يطوفون منذ سنوات في هذا الزحام نفسه .. و من قبلهم جدي الذي جاء إلى هنا على ظهور الإبل .. ثم الأجداد .. و أجداد الأجداد من قبل إلى أيام النبي الذي خرج من مكة مهاجراً و عاد إليها فاتحاً .. كنت أنظر في الجموع الحاشدة من منظور تاريخي و في خناق الزحام نسيت نفسي تماماً ، و فقدت هويتي ، و لم أعد أعرف من أنا .. هأنذا قد مت أنا الآخر .. و هذا ابني يطوف و يذكرني و هو يطوف ، ثم يموت ذات يوم و يصبح هو الآخر ذكرى .. كانت لحظة روحية شديدة التوهج فقدت فيها إحساسي بذاتي تماماً ، و غبت عن نفسي و امتلأت إدراكاً بأنه لا أحد موجود حقاً سوى الله .. و تذكرت السطر الأول من قصة الخلق .


    في البدء كان الله و لا شيء معه .
    و في الختام يكون و لا شيء بعده .
    هو الأول و الآخر .
    هو ..
    نعم هو و لا سواه .


    كانت لحظة من المحو الكامل لكل شيء بما في ذلك نفسي ذاتها ، في مقابل ملء مطلق لموجود واحد مطلق هو الله .


    و بالرغم من الإحساس بالغياب فإنه كان إحساساً في الوقت ذاته بالحضور .. الحضور الشامل المهيمن المالئ لكل ذرة من الشعور .. حضور ماذا .. ؟


    و أحار في وصف تلك اللحظة و لا أجد الألفاظ و لا العبارات و أكتفي بأنها أعمق ما عشت من لحظات .


    إنها أشبه بعدة ستائر تفتح متتالية بعضها من وراء البعض .. تفتح ستارة لتكشف عن مسرح صغير هو الواقع الفردي بتفاصيله ، ثم تفتح ستارة في العمق لتكشف عن واقع آخر خلفي كبير ، هو الواقع التاريخي يبتلع الواقع الأول بما فيه ، ثم تفتح ستارة ثالثة في العمق البعيد تكشف عن حقيقة الحقائق التي يبهت أمامها كل شيء .


    هو إحساس ديني يصعب تصويره في كلمات .
    هو أشبه بموقف مقاتل على الجبهة .
    إنه في تلك اللحظة ينسى همومه الصغيرة .
    هموم وطنه تبتلع همومه .
    و جراح وطنه تبتلع جراحه فينسى مشكلات بيته الصغير و يذوب في مشكلات مجتمعه الكبير .


    هناك حضور أكبر ابتلع الحضور الأصغر .
    و بالمثل لحظة الوقوف في حضرة الله .
    هنا الحضرة العظمى .. حضرة الحق .
    و هي حضرة هائلة تذوب أمامها الحواس تماماً .
    يفنى الواقع الصغير .. واقع النفس و مشكلاتها اليومية .. ثم الواقع الزمني المحيط بتفاصيله .. ثم الواقع التاريخي كله .
    ثم يكون فناء النفس ذاتها في لحظة احتواء كامل من ذات عظمى مهيمنة .
    هي لحظة حب صوفية نعرفها في الحب .. و يرويها لنا المحبون .


    و الحب البشري لا شيء بالنسبة للحب الإلهي .
    و جمال امرأة لا شيء بالنسبة للجمال المطلق الكلي .
    أين كان صديقي من هذا كله ؟
    ما أبعد كل منا عن الآخر مع أن ذراعي في ذراعه .. كان يفكر و يمنطق و يرتب الحيثيات .
    و كنت أذوب حباً و قد قفزت بي اللحظة فوق حاجز العقل و جاوزت بي الحدود و التفاصيل لتضعني على ذروة أرى منها رؤية كلية ، و أدرك منها إدراكاً كلياً .


    هو الحب .
    و الدين في جوهره حب .. و الحج هجرة إلى بيت الحبيب و الطواف للعشاق .
    هؤلاء لا يجدون فيه كلفة و لا تكليفاً .
    و إنما يجدون حواراً مؤنساً .. و مكالمة من تلك المكالمات السرية التي تضيء مجاهيل القلب .
    و ما أكثر ما شعرت به في الكعبة مما لا أجد له كلمات .


    قد يسأل سائل : لماذا نتكبد المشاق لنذهب إلى الله في رحلة الحج .. و لماذا هذه الهجرة المضنية .. و الله معنا في كل مكان .. بل هو أقرب إلينا من حبل الوريد ، و هو القائل إنه (( قريب مجيب الدعوات )) .. بل إن قربه لنا هو منتهى القرب .. فما الداعي إلى سفر و ارتحال لنقف فوق عرفة ندعوه منها .. و هو القريب منا قرب الدم من أجسادنا .


    و السؤال وجيه .
    و الحقيقة أن الله قريب منا بالفعل و أقرب إلينا من الدم في أجسادنا ، و لكننا مشغولون على الدوام بغيره .


    إنه لا يقيم دوننا الحجب و لكننا نحن الذين نقيم هذه الحجب .. نفوسنا بشواغلها و همومها و أهوائها تلفنا في غلالات مكثفة من الرغبات .. و عقولنا تضرب حولنا نطاقاً من الغرور .. و كبرياؤنا يصيبنا بنوع من قصر النظر ، ثم العمى .. فلا نعود نرى أو نحس بشيء سوى نفوسنا .. و هذا هو البعد برغم القرب ..


    و الهجرة على القدمين و تكبد المشقات و النفقات هي وسيلة مادية للخلوص من هذه الشواغل و تفريغ القلب لذكر خالقه ، و لإيقاظ الحواس على حقيقة هذا القرب القريب لله .


    و من هنا كانت كلمة (( عرفة )) .. فبعد رحلة من ألوف الأميال يتيقظ القلب على (( معرفة )) .. فهو (( يتعرف )) على ربه و يكتشف قربه (( و يتعرف )) على نفسه و يكتشف بعدها ..
    و يقول النبي عليه الصلاة و السلام في هذا اليوم :
    (( نعم اليوم يوم عرفة لأن أهل الأرض يعرفهم أهل السماء ))
    هي إذن معرفة شاملة من كل الوجوه .


    و حينما يفد الحاج بجسده إلى البيت يكون عقله قد أشرق على معرفة .. و إذا عرف الإنسان ربه حق المعرفة فإنه سوف يدع الخلاف معه ، سوف يدع الذنوب ظاهرة و باطنة و سوف يكف عن منازعته في أمر قدره و قضائه لأنه اكتشف كامل عدله و حكمته ..
    و سوف يدع الخلاف بينه و بين الخلق فيكف عنهم أذاه و يحتمل أذاهم و يترفق بهم و يشفق عليهم .
    و سوف يدع الخلاف بينه و بين نفسه و يصل إلى حالة من الوحدة فيقول ما يبطن ، و يفعل ما يقول فيصبح ظاهره باطنه و قوله فعله .
    و هذا هو الانسجام مع النفس و الكون و الله ..
    و انعقاد الصلة بين الروح و خالقها .
    و بلوغ السكينة التي لا تزلزلها الجبال .
    و السعادة الروحية بالقرب .


    يصف لنا معروف الكرخي رجلاً بلغ هذه الحال فيقول :
    (( رأيت رجلا بالبادية يمشي بلا زاد .. فقلت له .. إلى أين تريد .. قال لا أدري .. قلت هل رأيت رجلاً يريد مكانا لا يدريه .. قال أنا هو .. قلت فأين تنوي .. قال مكة .. قلت تنوي مكة و لا تدري أين تذهب .. قال نعم و ذاك لأني كم مرة أردت أن أذهب إلى مكة فيردني إلى طرسوس ، و كم مرة أردت طرسوس فيردني إلى مكة .. قلت من أين المعاش .. قال من حيث يريد .. يجوعني مرة و الطعام حاضر و يشبعني مرة و الطعام غائب )) .


    و حال صاحبنا هو حال من انعقدت صلته بالله ..
    فهو لا يعرف لنفسه إرادة إلا ما يريد به خالقه و لا يتزود إلا بالتقوى و ليفعل به الله ما يشاء .. فهو قد علم أنه لا عبرة بالطعام .. فقد يوجد الطعام بوفرة و يوجد معه المرض الذي يصد عنه .. و قد يوجد الكفاف و يوجد الشبع .. و قد يوجد الصوم و معه الاكتفاء المشبع بصحبة الخالق و الائتناس به .


    و لا يفهم من هذا تواكل .. لأن الرجل يصف ما بينه و بين الله و ليس ما بينه و بين الناس .. و لو أنه وجد بين الناس شراً لقومه بالسيف .. فهذا الرجل نفسه هو المقاتل أبو ذر و أمثاله .. و هو نفسه الذي يثور على الحاكم الظالم .. فالامتثال لله شيء غير الامتثال لعباد الله ، بل هو عكسه و نقيضه ، فخادم الله هو أول من يثور على عباد الله دون خوف ..
    و الخائف من الله لا تساوي عنده الدنيا شيئاً فهو أول من يضحي بها و بنفسه تحت ظلال السيوف في سبيل كلمة حق .. لأن الله عنده هو الحق .. و عشق الله هو الموت في سبيله .


    و هذا هو توكل الإسلام و هو غير تواكل الكسالى و الشحاذين من مفترشي الأرصفة .. و هؤلاء ليسوا مسلمين أصلاً .
    و ليس كل من يتمتم :
    (( قل هو الله أحد )) بمسلم موحد .
    و المهم ماذا تقول أعماله ..
    إذا كان يعتقد حقاً أن الله أحد لا سواه ، هو الضار النافع ، فلماذا يمد اليد إلى غيره و لماذا يتزلف و لماذا يتملق ، و لماذا يكدس المال و العقار و هو يعلم أن الله هو المالك الوحيد للأرض و ما عليها و هو الوارث للكل ؟ و لماذا يكذب و الله سميع ؟ و لماذا يسرق و الله بصير ؟ و لماذا ينافق و الله حسيب ؟ و لماذا يخون و الله رقيب ؟ و لماذا يهرب و الله شهيد ؟


    و التوحيد أعمال و ليس تمتمة و حمحمة .
    و الشكر أعمال و ليس (( الحمدلله )) على اللسان ..
    يقول الله لآل داود ..
    (( اعملوا آل داود شكراً و قليل من عبادي الشكور ))
    لأن المقصود بالشكر الأعمال الدالة على الشكر و ليس التمتمة .. اعملوا آل داود شكراً .. اعملوا ..
    و القرآن سياق متصل مستمر .. لكلمة اعملوا .. يبدأ بكلمة (( اقرأ )) للعلم ..
    و بعد العلم يكون العمل على مقتضى التوحيد .
    و هذا هو الدين ..
    قل : لا إله إلا الله و استقم على معناها .
    و هذه هي رحلة الهجرة إلى الله .. و الحج و الصلاة و الصيام صورتها البدنية .


    و الحج في معناه خروج .
    خروج من أسمائنا إلى أسماء الله .
    و خروج من اعتدادنا بأنفسنا إلى الاعتداد به ، و خروج من العبودية للأسباب ( المال و الولد و الأرض و العقار و المنصب و السلطة و النفوذ و الجاه ) إلى عبودية له وحده باعتباره مسبب الأسباب .
    و خروج من حولنا و قوتنا إلى حوله و قوته .
    و خروج من إرادتنا إلى إرادته ، و من رغبتنا إلى رغبته يقول نبينا محمد عليه الصلاة و السلام :
    (( اللهم بك انتشرت ، و بك آمنت ، و بك اعتصمت . اللهم بك أصول و بك أجول ))
    (( اللهم بك أصبحت و بك أمسيت و لا فخر لي ))


    و يقول عن الحج :
    (( من خرج يريد الطواف خاض في الرحمة ))
    و تفسير الرحمة إن الله يجذب همة عبده إليه و يعصمها من التفرقة .


    و يقول عن الركوب للسفر :
    (( فإذا ركب الحاج الراحلة في الظاهر يشهد في السر أن الله هو الذي يحمله )) و هي ذروة في التوحيد ، فهو لا يعود يرى الناقة أو القطار أو الطائرة ، و إنما الله هو الذي يحمل المسافر على أسبابه و قوانينه .. تختفي الأسباب ليظهر المسبب ، و يختفي الخلق ليظهر الخالق .


    و هكذا تكون كل خطوة بالقدم ترافقها خطوة بالقلب إلى مزيد من التوحيد .. و يكون مع طي الأبعاد طي داخلي للصفات ، فيقترب العبد بصفاته من صفات ربه ، فيكون الرحيم الكريم الحليم الودود الرءوف الصبور الشكور ما استطاع .. و هو صعود و معراج لا نهاية له .. لأن كمال الله لا نهاية له .


    و هكذا يقطع المهاجر إلى الله مرحلة بعد مرحلة حتى يصل إلى الميقات ، فيفنى عن نفسه و يموت عن صفاته و يصبح حاله في الظاهر و الباطن حال من يحيا بالله ، و حينئذ يحق عليه الغسل و لبس ثوب الإحرام على العرى فهذا هو ثوب الميت المولود .. و هو ثوب من قطعتين رمزا لستر العورة الظاهرة و ستر العورة الباطنة .. و الحياء هنا على وجهين حياء من الخلق و حياء من الحق .. حياء من سوء الخلق الظاهر الذي تعرفه الناس ، و حياء من العورة الباطنة التي لا يراها إلا الله .. و من هنا كانت الخرقتين الرمزيتين .


    أما النحر و الذبح فهو في حقيقته ذبح للنفس و رغباتها و شهواتها و أهوائها .. و قد افتدى الله النفس بذبح الضحية .. فتضحي ببعض مالك رمزاً لقتل شهواتك و هوى نفسك .
    أما تقبيل الحجر الأسود فهو تزود من غائب ، فأنت تضع شفتيك حيث وضع النبي شفتيه صلوات الله و سلامه عليه .


    و الحكايات عن أصل الحجر الأسود و الكعبة كثيرة .. فهي بيت العبادة الأول اتخذه آدم - عليه السلام - و أرشده جبريل - عليه السلام - إلى مكانه .. و حينما غرقت الكعبة في الطوفان استودع الله الحجر في جبل أبي قبيس .. و ظل الأنبياء يطوفون بمكان الكعبة حتى جاء إبراهيم - عليه السلام - فأقام قواعدها و أعاد جبريل الحجر إلى مكانه .


    و في عام مولد النبي - عليه الصلاة و السلام – كانت غزوة الفيل المعروفة و هدم الكعبة كما أنه في عام 317 هجرية هجم أبو طاهر القرمطي على مكة و قتل و سبى ثم اقتلع الحجر الأسود و حمله معه إلى الأحساء .. و قد تبرأ عبدالله المهدي من فعل أبي طاهر و من أخذه الحجر الأسود و قتله الحجيج ، فبعث إليه برد الحجر الأسود ، و لكنه لم يستجب و بقي الحجر 22 سنة ثم نقل إلى الكوفة عام 393 هجرية ، و منها أعيد إلى مكانه في البيت .


    و يرد بعض المؤرخين اقتلاع القرامطة للحجر الأسود إلى محاولتهم إبطال الحج و هدم الإسلام ، و إظهار عبادة النار و يرى آخرون أن الصراع كان سياسيا بحتا ، و كان المقصود منه محاربة عقيدة أهل السنة .


    فالكعبة لم تسلم إذن من التخريب و الهدم و السلب و النهب .. و عبر التاريخ لم يبق فيها حجر على حجر .. لم يبق فيها إلا مكانها .
    فهي رمز
    و لا يصح تقديسها إلا رمزاً
    و شأنها شأن القرآن حينما يقول عنه الله :
    (( لا يمسه إلا المطهرون ))
    فالمراد هنا المعنى العميق .. (( لا يمسه إلا المطهرون )) .. أي لا يمس معاني القرآن و لا يفهم أسراره إلا النفوس المطهرة من أهوائها .


    و بالمثل تقوم الكعبة كرمز .. لا كحجارة .
    و الحج و الطواف و الذبح و الرجم و عرفة رموز .
    فإذا تجاوز تقديس البقعة إلى تقديس الحجر ، خرج المؤمن عن إيمانه و سقط إلى حضيض الشرك و الوثنية ، و ما هكذا مراد الله بالكعبة .


    و الذي يسأل لماذا يكون الطواف سبعة أشواط و الرجم سبع حصوات .. نقول له و لماذا لا يكمل نمو الجنين إلا في الشهر السابع ؟ و لماذا يولد ميتاً إذا نزل قبل السابع ؟ و لماذا تكتمل النوتة الموسيقية بالدرجة السابعة فلا تكون النوتة الأعلى بعد ذلك إلا جواباً للنوتة الأولى ؟
    إنه سر في بناء الكون المادي و الروحي إنه سباعي التكوين ، و إن السبعة هي درجة الاستواء و التمام .


    و النفس البشرية بالمثل سبع درجات .. أسفلها النفس الأمارة ، ثم تليها النفس اللوامة ، ثم النفس الملهمة ، ثم النفس المطمئنة ، ثم النفس الراضية ، ثم النفس المرضية ، ثم النفس الكاملة .
    و لهذا يكون الطواف سبعة أشواط ، و الرجم سبع حصيات ، و السعي سبع مرات عن الأنفس السبع .


    و السعي بين الصفا و المروة هو رمز لتاريخ الوجود بين المحو و الإثبات .


    في البداية كان الصفا .
    كان الله و لا شيء معه .. الخواء و المحو المطلق .
    كان الأزل و ما سبق لنا في علم الله قبل أن نوجد و قبل أن يخلق الزمان .


    ثم كانت المروة .. حينما نبع الماء .. و خلق الزمان و تدفق الوجود و قامت الحياة .
    و كان فضل الله في الأبد ، كما سبق فضله من قبل في الأزل .


    و السعي بين الصفا و المروة هو شهود الفضل في الحالين .
    و هو الانتقال من الحقيقة إلى الشريعة للجمع بينهما في القلب .
    من الكلمة التي سبقت في الأزل .
    إلى التكليف القائم في الزمان .
    و السعي رمز لإجابة الأمر و التلبية .


    و الصوفي فيما يرمي من حصيات على إبليس .. يرمي عيوب نفسه و يرمي الدنيا .. و يرمي الأسباب ..
    و هو حينما يذبح الضحية يذبح نفسه الموافقة للشيطان .
    و حينما يحلق رأسه يحلق الكبرياء عن عقله .
    فهو يعلم أن الكنز الحقيقي الذي يستحق أن يجهد في حصيله هو كنز البراءة .. البراءة من الحول و الطول و القوة و الغرور و الكبرياء .. لا حول و لا قوة إلا بالله .. هي الكنز ..


    لا وجود حق سواه ..
    و الكل هالك ..
    فيلزم التواضع بل الفناء في الحضرة الإلهية .


    و أذكر فيما أذكر الآن ما كانوا يحكون لي عن جدي و أنا صغير و كيف أنه حج سبع حجات ، و كان الحج في ذلك الزمان البعيد منذ مائة سنة على الأقدام و على الإبل و بالبحر في سفن شراعية بدائية و في الحجة السابعة يروي الجد أهوالا .. عاصفة هبت على الحجيج و هم في عرض البحر و اقتلعت الشراع و حطمت الدفة ، و الكل يصرخ و يتضرع و يستنجد ، و المركب تدور في الدوامة كالفلك و الدوار ، و الموج المتلاطم يلف الجميع .


    ثم يروي كيف تفسخت المركب إلى ألواح ابتلعتها اللجة في لحظات ، و كيف أفاق ليجد نفسه سابحا على طوف خشبي و أمامه جراب الزاد ، و كانوا يسمونه في تلك الأيام (( الذهاب )) .. كل حاج كان يطلع إلى الحج و معه ذهابه الخاص و به ما يلزم من المئونة و الأدوات و الثياب .
    و كان أمرا عجيبا أن يهدأ البحر و تقلع الرياح و تنتهي العاصفة ، و ينجو وحده و معه ذهابه بهذه الطريقة التي تبدو كالمعجزة .


    و تدمع عينا الجد و يومض بصره الكليل ، و كأنما يرى شريطا سريعا من اللقطات الرهيبة .. و يروي كيف قضى ليلتين في البحر ثم انتشله مركب شراعي آخر قاصدا إلى الحج .. و كيف أتم حجته السابعة ثم عاد بسلام .


    و يروي كيف كان الموت يترصد الحاج في كل خطوة في البحر و في البر و في الصحارى .. و بين الحر المحرق و الرمال و العطش إذا ضل طريقه أو ماتت راحلته .. و على أيدي قطاع الطرق إذا ألقى به سوء حظه إلى عصبة من عصاباتهم .. أو بمرض معدٍ في زمان لم يكن يعرف شيئا اسمه طب وقائي أو يسمع عن لقاح للكوليرا أو التيفود .. و كانت الرحلة تطول إلى ستة شهور و سبعة شهور و سنة ، و كان الخارج إليها مفقودا و العائد مولودا .


    و كان يختم قصته مبتسما بفمه الخالي من الأسنان ..
    و برغم كل هذه الأهوال فقد حجيت سبع مرات و هاأناذا أموت بينكم في الفراش كما يموت الكسالى من العجائز ، لتعلموا يا أولادي أن كل شيء بأمر الله .. و أنه لا البحر يغرق و لا المرض يهلك و لا نار الصحارى تحرق ، و إنما هو الله وحده الذي يصرف الآجال كيف يشاء .


    و أذكر الآن قصة هذا الجد الطيب و تطوف بذهني تلك الصور و أنا أضع قدمي في الطائرة لأصل جدة في ساعتين ، و في ساعة ثالثة أكون في الحرم أطوف بالكعبة ثم في الساعة التالية أكون صاعد إلى عرفات ، و بعد غروب الشمس أكون نازلا إلى منى لرمي الجمرات ثم طواف الإفاضة ثم تنتهي كل المناسك في أمان .


    و أتذكر السرب الطويل من خمسين ألف عربة تحمل نصف مليون حاج و تصعد كلها في وقت واحد في عدة طرق دائرية حديثة الرصف .. و كل شيء يتم في سرعة و نظام و دون حادث و قد تناثرت وحدات الكشافة لتنظيم المرور .. و على الجبل تراصت مستشفيات كاملة التجهيز لعلاج و عزل أي حالة اشتباه .. و طوال ساعات الليل و النهار تطوف الرشاشات لقتل الذباب و البعوض في أماكن توالده ، و تطوف فرق أخرى لجمع القمامة و حرقها .


    و بين مكة و المدينة يمتد أوتوستراد أملس كالحرير تنزلق عليه العربات في نعومة ، و ينام الراكب في حضن كرسيه في استرخاء لذيذ .


    ما أبعد اليوم من الأمس .
    و ما أكثر ما نتقلب فيه من النعم .
    و كلما أحاطتنا النعمة ازددنا لله هجرانا .


    أين إيمان اليوم .. من إيمان النبي العظيم منذ ألف و أربعمائة سنة و هو خارج في غزوة تبوك على رأس اثنى عشر ألفا من المسلمين في شهور القيظ المحرق ، ليخوض في رياح السموم و الحرور القاتلة سبع ليال يتهدده العطش في كل خطوة .. و قد ترك من خلفه الأمان و الظل الظليل و الراحة في خيام زوجاته .. ليلقى الله و ليبلغ الرسالة .. و ليحارب من ؟! .. الروم .. الذين احتشدوا على الحدود بمئات الألوف .


    و اليوم ترتفع حرارة الجو بضع درجات فندير جهاز التكييف و نغلق أبواب غرفنا لا نبرحها لأن الخروج إلى الشارع مجازفة غير مأمونة .
    و ما أبعد اليوم من الأمس حقاً .
    و ما أفدح ما خسرنا حينما خسرنا الإيمان


    ~~


    مقال : الحج للــ د. مصطفى محمود رحمه الله ..
    كتاب / الإسلام ما هو ؟


    ـــــــــــــــــ


    وكل عام و أنتم بخير

  2. #2
    شكرا لك اختي دانية والله قادر على كل شي
    لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين

  3. #3
    جزاك الله خيرا اخيتي
    وكل عام وانت بخير

المواضيع المتشابهه

  1. كسل المعدة و الأمعاء
    بواسطة المربد في المنتدى فرسان الطب البديل.
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 06-02-2016, 12:44 PM
  2. جرثومة المعدة
    بواسطة المربد في المنتدى فرسان الطب البديل.
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-28-2015, 12:23 PM
  3. أصول 380 مليون من البشر تنحدر من 11 رجلا
    بواسطة السيد شريف في المنتدى فرسان الطبي العام .
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-03-2015, 11:34 PM
  4. على صعيد عرفات
    بواسطة د. جمال مرسي في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 12-20-2008, 03:56 PM
  5. إبداع الشمس لحظة الذوبان ( ديوان هل تهرب الشمس؟ - أحمد السرساوي)
    بواسطة محمد الشحات محمد في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 05-09-2008, 05:40 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •