تداعي الأفكار..

قصة قصيرة

بقلم( محمد فتحي المقداد)*




طق .. دق ..

قرعات صوت عكاكيز مِزْيَدْ تنبئ الذي يجلس في مكتبه بقدومه, من وقت دخول باب دار البلدية, ذلك المبنى القديم المهيب ببابه العالي جداً كذلك نوافذه ذات النمط الفرنسي, حيث أنشئ هذا البناء في حقبة ما قبل الاستقلال.

ما إن يصل باب غرفة المكتب حتى يكون اللهاث والتأوّه من التعب وقطرات العرق كأنها خرز اللؤلؤ على جبينه العريض, الذي يعلو ذلك الوجه القانئ البياض مُكَلّلاً بالابتسامة المشرقة كأنها متلازمة معه بتأخٍ لطيف, وعينان واسعتان تلمعان ببريق ,متلونتان بلون الربيع.

سماع صوت العكاكيز. يستجرّ تداعي ذكريات أحاديثه الكثيرة والمثيرة باختلاف مساحة مواضيعها المُتّسِعَة بمختلف اتجاهات الحياة.


منذ وعيتُ على الدنيا وأنا أرى مِزْيَدْ ذلك الشاب المعاق وهو يستخدم عكاكيزه, وفي كثير من ظني أنه خُلِق معاقاً, وقد ارتبط بذهني بذلك الشاب الآخر عيسى الذي يصغر الأول بسنوات, و يبدو أنه يجايلني وهو يلبس جهاز تقويم الأرجل من أجل تصحيح مشيته, لكنه يستطيع المشي بلا الاستعانة بالعكاكيز, معتمداً على يده التي يضعها على ركبته.

شقاوة الطفولة تجعل هذا المنظر مثيراً و عجيباً, لتقليده, وتارةً لعملٍ ما يُزعج صاحبها, ولم نكن ندري أنه بحاجة للمساعدة بدل الشيْطنة, التي نندفع إليها دون وعي وتفكير.

ولا أدري ما الذي كان يلعب بعقولنا المحدودة الرؤية, فقط لعبٌ من أجل اللعب والضحك, لنقوم ببعض الأفعال التي تستمطر الضحكات المنطلقة من قلوبنا, والتي كادت أن تجفّ ينابيعها في هذه الأيام, ونحن ننام ونصحو على أصوات القنابل وأزيز الرصاص و الإنفجارات, وفضائيات الأخبار, فقد غرست فينا الأمراض من كثرة تدخلها في حياتنا, واستباحتنا بشكل سافر وعجيب في داخل بيوتنا, فلا تدعنا نهنأ بلقمةٍ ولا بشُربةٍ, نتسمر أمامها ببلاهة وهي تستلب عقولنا وتهدم روحنا وتزرع في حياتنا اليأس.

تعلّم مِزْيَدْ في مطلع شبابه الضرب على الآلة الكاتبة, وحصل على وظيفة في دائرة الآثار في نفس القرية, وعلى ما أذكر أن دوامه كان موزعاً ما بين البلدية ودائرة الآثار, ليقوم بطباعة المراسلات للدائرتين.

وكثيراً ما كانت تجمعني به الجلسات الكثيرة و الطويلة, أثناء عملي في دائرة الآثار التي عملت بها, عندما انقطعت عن الدراسة وأنا في الصف الحادي عشر العلمي, لأنني نويتُ التحوّل للفرع الأدبي, ومن سوء حظنا وأنا وصديق لي أنه لم يكن وقتها في القرية كلها شعبة أدبية.

اضطررتُ التوقف لسنة كاملة, وبدل أن أقضيها جالساً في البيت بلا فائدة, قام أحدهم بالتوسط لي عند دائرة الآثار للعمل فيها, كعامل مؤقت مياومة في مجال التنظيفات في قلعة بصرى.

تمتنت العلاقة مع مِزْيَدْ خلال جلوسنا في المكتب’ وكان يروق لي تأمل قسمات وجهه الصبوح المستدير والذي يكاد الدم ينفزر من وجنتيه, وبابتسامته التي لا تكاد تفارق محيّاه, مما يجعل وسامته تأسر جليسه الذي يطلب المزيد من الوقت للكسب من حديثه ذي الطلاوة والذي لا يملّ منه.

آسِرٌ بمرحه..

آسِرٌ بحميمة حديثه..

ماهرٌ بعمله وهو يعزف على تلك الآلة التي تنقر أصوات حروفها في رأس من يجلس بقربه,وتفاخر بأنه يطبع ثلاثين كلمة في الدقيقة, لدرجة أنه يقرأ بعينيه, ويداه تتحركان على الكيبورد, ويتابع موضوع الحديث مع يجلس قبالته في غرفة المكتب, بحيث لا يجعل السأم والملَلْ يتسرّب لنفسه أما تلك الأصوات الناشزة والغير مألوفة إلا في الدوائر الحكومية.

يرتشف الشاي من كأسه والتي غالباً ما يشربها باردةً, أو أنه يغيّرها عندما تصطاد ذبابةً أو بعوضةً, قد تسلّلت في غفلة منه, ويستطرد في الحديث بكل الاتجاهات, وكثيراً ما كان يعرض علينا مناماته التي يراها أثناء نومه, التي تتمحور على سبيل المثال.

مرة رأى نفسه في احتفال مأهول في استقبال الرئيس صدّام حسين,حيث تكلل المنام بمصافحة الزائر الذي كانوا ينتظرونه, ومرة رأى الملك حسين, وأخرى جمال عبد الناصر.

ولكن العكاكيز تأخذ مساراً آخر في تفكيري في تلك السنوات المبكرة من عمري, أتخيل لو أنها سرقت من قبل حرامي محترف, فما الذي سيحل لمَزْيَدْ, أو أنها كُسِرت أو أنها .. وأنها..

أتوقف عاجزاً عن متابعة التفكير في شيطنة الأفكار, وتعود من جديد تلك الروح التي ترأف بمثل هؤلاء الناس لعجزهم عن الكثير مما كنا نمارسه عليهم في حياتنا .. ولكن المثير بأحلام مِزْيَد أن يمارس المشي على رجليه, وكأن ليس به عِيّاً يمنعه من المشي.

يقف صحيحاً على حافة العجز العربي الغارق في وهدة النسيان, عن تحقيق مطامح شعوبه المعذبة في متاهات الفقر و البطالة والضياع تَوْهاً في دروب الظلام, والتي لا تختلف كثيراً عن ظلام ما قبل الاستقلال من براثن الاستعمار.

كما تتداعى الأفكار عندما كنت أسمع ( طَق .. دُقْ).. توقف العقل عاجزاً عن التفكير مرة واحدة, عندما قمنا في العيد بزيارة عبد العزيز الذي كان يقيم في مأوى لذوي العاهات الدائمة من ضحايا حوادث السيارات.

ها نحن نقف على بداية طريق مدينة الخَرْجْ السريع في الرياض, والحياة تسير بسرعة البرق مع هدير محركات السيارات التي تغذّ السير مسرعةً لتلحق بأعمالها.

ما إن تدخل بضعة أمتارٍ إلى داخل المركز, حتى تُصعق بتوقف الحياة, يأكلون ويشربون.. وينتظرون ساعة أجلهم حتى يأذن الله بها. تأبى ذاكرتي إلا استحضار تداعي أفكارها, فتذهب مُسرعةً لاستعراض مكنوناتها, وتستحضر مِزْيَدْ وعيسى.

الدموع تجد طريقها بلا مبرر في هذا المكان الرهيب, لكلٍّ منهم عربة يتنقل بها لقضاء حاجاته, مصممةً حسب إعاقته, واحدٌ يُحرّك مِقْوَد عربته بذقنه وقد شُلّت جميع أطرافه, وآخر شللٌ جزئي يستطيع تحريك يدٍ واحدة, ومنهم من يستطيع تحريك كلتا يديه, والكلّ يبتسم ويحلم ومتفائل.

سكنت وجوههم ذاكرتي و اَبَتْ مغادرتها, وكلّما جاءت ذكراهم اقشعر جسدي ووقف شعر رأسي.. وأذهب لتعداد نِعَمِ الله .. ( وإن تعدّوا نعمة لا تحصوها)



----------------- انتهى

بصرى الشام 15 \ 8 \ 2012 م