شرطي سير يقرر مصير بريطانيا العظمى والعالم...بقلم آرا سوفاليان
لم يبق شارع في لندن إلا وتم فيه حفر الخنادق وانهارت ابنيته على اليمين واليسار وسدّ الحطام كل المنافذ وابتلع الشوارع، أما الخنادق فلم يحفرها الانكليز بالمطلق بل حفرها أعداؤهم الألمان، فلقد كانت موجات الصواريخ تصل من كاليه والنورماندي، وأشدها قذائف المدفع العملاق المختبئ في الانفاق، فلقد كان هذا المدفع العملاق يخرج من مخبأه بعد تذخيره فيضرب ضربته المروعة ثم يعود الى جحره وكان يجره قطار عملاق وعلى سكة مزدوجة. لم يكن الخطأ مسموحاً به، حيث قرر هتلر الابقاء على قصور بكنغهام وبرج بيغ بن ومبانٍ أخرى لا يجرؤ ضباطه على ضربها قصداً أو عرضاً لأنها ممتلكات خاصة وتخص الفوهرر بالذات. وخرجت سيارة متجهة الى البرلمان سوداء وبنمرة حكومية تسير بين الخرائب تستغل فترة توقف القصف لتصل براكبها الوحيد الى مجلس اللوردات، نظر السائق الى ساعته وقال: سيدي سنتأخر على الاجتماع...الراكب: وما هو المطلوب مني؟...السائق: ان تسمح لي بمضاعفة السرعة... الراكب: لك ذلك.
في أول منعطف انطلقت دراجة نارية يركبها شرطي خلف السيارة واستطاعت الدراجة ادراك السيارة واشار الشرطي بيده أن توقف.
سأل السائق الراكب: هل نتوقف يا سيدي؟ ... الراكب: نعم بالطبع...السائق: يمكنني أن أشير له بأن يتبعنا حتى البرلمان فأوصل سيادتك واتفرغ له ماذا تقول؟...أقول لك توقف على الفور.
ـ حسناً ولكن أين الحريقة أيها السائق ـ الحريقة في مجلس اللوردات ايها الشرطي...وأشار السائق الى الراكب وقال للشرطي هل عرفته؟...أجاب الشرطي: ومن لا يعرف رئيس الوزراء البدين وصاحب البايب الجاهز على الدوام...السائق: إذا؟...الشرطي: اسمح لي بأوراقك لتحرير المخالفة...السائق: سنتأخر عن الاجتماع والكل بإنتظارنا وعلى رأسهم جلالة الملك...الشرطي: من الأفضل أن لاتصل سيارة مخالفة الى الاجتماع بالمطلق وهذا ينطبق على من فيها وخاصة راكبها الجالس في الخلف كائن من كان حيث المفترض أن يكون القدوة في هذه الظروف العصيبة.
ووصل تشرشل يحمل اوراقه والى المنصة مباشرة وقال: كان الموضوع الذي سنتحدث به هو مفاوضة ألمانيا على الاستسلام وشروط هذا الاستسلام...حفاظاً على ما بقي من بريطانيا وظهر في طريقي شرطي سير أوقف سيارتي وحرر لي مخالفة سرعة زائدة، قال له سائقي: سنتأخر عن الاجتماع والكل بإنتظارنا وعلى رأسهم جلالة الملك... فأجابه الشرطي: من الأفضل أن لاتصل سيارة مخالفة الى الاجتماع بالمطلق وهذا ينطبق على من فيها وخاصة راكبها الجالس في الخلف كائن من كان حيث المفترض أن يكون القدوة في هذه الظروف العصيبة.
ولأنه من المفترض أن أكون القدوة، فلقد قررت متابعة الحرب حتى النهاية وسننتصر لطالما يوجد بيننا مواطن بريطاني يشغل وظيفة شرطي سير قرر رئيس وزراء بريطانيا ان يجعله قدوته ومثله الأعلى...لن نفاوض ولن نهادن ولن نستسلم وسننتصر.
وفي النهاية تحية محبة لهذا الشرطي الذي يظهر في الصورة والذي قرر القيام بواجبه رغم الظروف المانعة، تحية لكل شرطي يضع يده في يد رجل مسن ليأخذه الى الجانب الآخر من الطريق، تحية لكل شرطي سير يسعى لتأمين المواطن متصدياً لعجرفة سائقي التكاسي، تحية لكل شرطي سير يأخذ المبادرة ليكيف قانون السير بما يتناسب ويخرج العالقين من العرقلة، تحية لكل شرطي سير يقدر الظروف فيجد العذر المحل لمخالف اضطر ان يبادر لإنقاذ موقف معين مع ان مبادرته هذه تقع في حكم المخالفة لولا وجود هذا الموقف، تحية لكل شرطي نبيه يتفهم ويقدر ذلك.
تحية لخمسة من رجال شرطة السير يقفون مع بعض وظهورهم للسيارات امام محطة البانزين في ساحة الرئيس في جرمانا يتحدثون ويتسامرون والسيارات عالقة في تشابك مروع في هذه الساحة الدائرية التي تسبب عرقلة رهيبة تصل حتى معمل الزيت ...تحية لهم جميعاً لعل ضمائرهم تصاب بصحوة مفاجئة يدركون بعدها انه تم افرازهم الى هذه النقطة بالذات لمنع هذا التشابك المروع وتحرير الناس من هذه العلقة المخيفة التي تسبب الأزمات القلبية للكثير من السائقين.
وأيضاً تحية لكل سائق ميكرو يرى العرقلة في رتل الذهاب فيكسر ويغوص متعدياً على رتل الإياب ليتقدم بعض الأمتار ويعلق في مواجهة أول قادم من رتل الاياب فيسبب عرقلة واحتباس وتوقف في الرتلين معاً الذهاب والاياب و يطأطئ رأسه وهو ذليل ويسمع التأنيب والبهدلة من المحيطين فينظر في الأرض وهو صاغر حتى يتحنن عليه الحناين ويفسحوا له فيعود الى رتله الطبيعي ويربح بعض الأمتار ليخسرها أضعاف مضاعفة في العرقلة التي سببها فيؤذي نفسه ويؤذي غيره ...تحية لسائق الميكرو هذا لأن كل الأساليب لم تنفع مع هذا النوع من البشر، فلم يعد هناك غير التحية والمحبة واللطف والكلمة الحلوة التي قد تحرك لديه بعض ما تبقى من الانسانية إن وجدت، وتحية محبة لكل شرطي يغضب ويشتم ويستعمل قبضته ويعصب ويصرخ وينهر ويعامل الناس بطريقة لا يرضى أن يعامله بأفضل منها أحد، مع العلم بأن هناك احتمالين لا ثالث لهما يجنبان الشرطي والمخالف أي تلاسن او تلاحم الأول وهو مخالفة يتم تحريرها بشكل طوعي بعد ابراز الأوراق والثاني: مخالفة غيابية في حال الامتناع عن ابراز الأوراق وهذه قيمتها مضاعفة...اما ما يقع خارج هذين الاحتمالين فهو من الشيطان.
تجاوزت الاشارة في مرحلة التبديل "بين البرتقالي والأحمر" بسبب السرعة ، وادركت لو اني توقفت فإني سأتسبب بخسارة مؤخرة سيارتي بسبب صدمها من الخلف وبقوة من قبل سيارة رأيتها بالمرآة لا تتوقف بالمطلق مع العلم بأنها لا تحوي تشرشل ولا حارسه الشخصي ولا سائقه ولا طبّاخه بل أقل من ذلك بكثير" كنت عائداً لأخذ ابنتي من امتحان الرياضيات في شهادة الكفاءة وخفت ان أتأخر فتخرج من المركز الامتحاني لتجد نفسها وسط شلة من الزعران ينتظرون اقتناص الفتيات في الخارج...قلت في نفسي ان التجاوز في مرحلة التبديل "بين البرتقالي والأحمر" قد يفسر في صالح السائق في هذه الظروف المؤسفة...وكان هناك دراج متوقف على اليمين في منطقة الزبلطاني رأيته بالمرآة يتحدث بالموبايل فقلت: يمكن مشي الحال هذا يتلهى مع صديقته...وادركت عندما وصلت الى ما قبل الباب الشرقي ان هذه المكالمة تتعلق بي...فلقد توقف الشرطي الثاني في وسط الشارع وفتح يديه كالمارد وكأنه يريد الانتحار وطلب مني الوقوف الى اليمين ثم طلب الأوراق...سألته عن السبب قال: اتصل بي الدراج وأخبرني انك تجاوزت الاشارة...قلت له: تجاوزتها نعم ولكن في مرحلة التبديل من البرتقالي الى الأحمر وكنت مسرعاً وخلفي سيارة لا تقف وخفت ان تتحطم سيارتي إن توقفت...قال لي: ولماذا السرعة؟...قلت: ستخرج ابنتي من الامتحان الى الشارع حيث سيكون هناك شلة من الزعران في انتظارها وانتظار غيرها...قال لي: لأول مرة في حياتي أحظى بسائق يعترف بأنه تجاوز الاشارة... قلت: بين البرتقالي والأحمر" قال: نعم نعم بين البرتقالي والأحمر...اذهب الى ابنتك فوالله لا يمكنني تأخيرك فأنا عندي بنات أيضاً،... تحية محبة ووفاء لهذا الشرطي على الرغم من انه متشارك مع الشرطي الأول في ايديولوجيا الكمائن والصيد الوفير بحيث يكون سعر التكلفة مكالمة خليوي بسعر 6 ليرات سورية والربح 494 ليرة سورية هو الفرق ما بين الـ 500 والـ 6 ليرات حيث لا يوجد في قانون السير ما يفيد بمطاردة المخالف بالموبايل... فتحية محبة ووفاء لهذا الشرطي بسبب صحوة الضمير المفاجئة.
تحية محبة لونستون تشرشل زعيم كل مستعمرات ومستعمري " بكسر الميم" القرن الماضي ورئيس وزرائهم الذي تجرأ أن يتفوه بالعبارة الآتية أمام كل اللوردات وامام جلالة الملك.
قال له سائقي: سنتأخر عن الاجتماع والكل بإنتظارنا وعلى رأسهم جلالة الملك... فأجابه الشرطي: من الأفضل أن لاتصل سيارة مخالفة الى الاجتماع بالمطلق وهذا ينطبق على من فيها وخاصة راكبها الجالس في الخلف كائن من كان حيث المفترض أن يكون القدوة.
تحية لشرطي السير هذا الذي كان القدوة لرئيس وزراء بريطانيا العظمى والذي غيَّر مصير بلاده ومن ورائها مصير العالم أجمع.
arasouvalian@gmail.com
دمشق 17 07 2012