مطلوب حماية "الفكر الذى نُبْغِضُ"
حازم خيري
"إذا كان ثمة أي مبدأ في الدستور يستحق بصورة أكثر إلزاماً
تعليق أهمية عليه أكثر من غيره فهو مبدأ حرية الفكر ـ ليس
حرية الفكر لمن يتفقون معنا ولكن حرية الفكر الذى نبغضه"
القاضي الأمريكي
أوليفر وندل هولمز
في عدم اكتراث واضح بطبيعة التحولات الراهنة في عالمنا العربي، وفي تجاهل شبه كامل لما تشي به هذه التحولات من زحف غربي مُنظم ومدروس نحو جوهر الحضارة الاسلامية، تمضي مجتمعاتنا شديدة ضيق الأفق وشديدة الافتتان نحو مصيرها المحتوم بدمٍ بارد، كعملاق سائر، أصم لا يسمع، أعمى لا يرى!
الغربيون ولا شك استفادوا من جهود العلامة الفرنسي أرنست رينان، ووصفه الإسلام بأنه مفتوح كله على الحاضر، وهو ما تُعول عليه قوى الإسلام السياسي كثيراً، وأن النبي محمد بعيد كل البعد حتى عن مجرد التظاهر بالقداسة، مقارنة بالديانتين اليهودية والمسيحية، فلا أسرار ولا كهنوت ولا بركات تُقدم!
لن يبقى الإسلام على قيد الحياة في المستقبل، ولسوف يتلاشى برمته تحت تأثير المد الحضاري الغربي. مثل هذه التنبؤات الرينانية، يجتهد الغربيون اليوم لترجمتها على أرض الواقع، عبر ما نشهده من قصف "ناعم" للامتداد الدنيوي للأصل الديني للإسلام! فكون الإسلام مفتوح كله على الحاضر، يسمح لقداسة الأصل الديني بالتسرب إلى كافة جوانب الحضارة الإسلامية، ومن ثم يجعلها مُغلقة ومُشفرة على النقد والتطوير، خروجاً على ناموس الحياة، وهو ما سوف يظل بكل تأكيد يُغري باستبدال حضارة أخرى ـ غالباً حضارة الغرب ـ بها!
ثمن غالٍ تدفعه مجتمعاتنا، لتنازلها عن الحق في امتلاك "صفوة فاضلة"!
فمن يصدق أن يمر مرور الكرام تغلغل مُبتكرات غربية (من قبيل: "الاحتراف الثورى"، "حرب اللاعنف أو اللاعنف البراجماتي"، "الديمقراطية النامية أو غير الليبرالية"، "التحكم الما بعد حداثي"، ..الخ) في نفوس ورودنا الثائرة..
من يصدق أن يمر مرور الكرام نزول قوى الاسلام السياسي على حكم الأمر الواقع! فالدولة التى يبنيها الاسلاميون الآن هي "دولة ـ وطن" على الطريقة الغربية، والتعددية الحزبية التى يعترفون بها، ما هي إلا الديمقراطية (وليست الشورى أو البيعة)، والمجتمع المدني الذي ينتشر في مجتمعاتنا لا ينطبق عليه تحديد المجتمع المدني الإسلامي! لم يبق إذن سوى المرأة والمسائل الأخلاقية!
من يصدق أن مثل هذا التشبع "اللامُدرك" بالأفكار والممارسات الغربية، والذى يلتحف القيم المحافظة والمناهضة لهيمنة الغرب، يحدث على مرأى ومسمع من مفكرينا وساستنا، دون أن يُحرك لديهم ساكناً، وكأن على رؤوسهم الطير!!
كنت أتصور أن يمر مفكرونا ـ وهم كُثرُ ـ بما مر به مفكرو العالم، خاصة الغربي، في أعقاب انهيار المعسكر الشرقي وانتهاء الحرب الباردة، حين اخذوا على عاتقهم إيجاد طرق جديدة يعرفون ـ هم وشعوبهم واسعة الأفق ـ بها العالم، في غياب معالم واضحة تقسم العالم إلى شرق وغرب أو شمال وجنوب!
كنت أتصور أن يقود مفكرونا شعوبهم نحو المستقبل بقبضة مفتوحة وليست مضمومة! خاصة وأن وجهتنا الجديدة تفوح منها رائحة "مألوفة"، تتشابه للأسف الشديد مع تلك الرائحة التى شممناها من قبل، عند تهجيرنا إلى "دولة العسكر"!
غير أن ما يحصل هو لجوء مفكرينا "الخونة ـ فكرياً بالطبع ـ" للي عنق الحقائق والوقائع، لاجبارها على الاتساق مع مرجعيات "تقليدية" "شديدة الهرم"!
أنظر مثلاً إلى دراويش الآباء المؤسسين لدولة العسكر(1945-2001)، تجد أن السقوط المُهين لدولة هي غرس يد زعمائهم، لم يدفعهم حتى للتفكير، مجرد التفكير، في إمكانية وجود هشاشة وعشوائية في الأسس التى بنى هؤلاء الزعماء عليها دولتهم، بعد رحيل الأوروبيين. بل إن العكس هو الذى حصل!
فكلمات الآباء المؤسسين لا تزال نصوصاً مُقدسة، تُتلى في خشوع! وأفكارهم لا تزال نبع الهام ثوري لا ينضب! وعبقريتهم لا تزال أماراتها تكمن في: 1- خلطهم المُربك بين الإصلاح والبناء وبين القمع والارهاب. 2- رفعهم لواء التحرر من الاستعمار الأوروبي التقليدي، على مرأى ومسمع من شعوبهم، لضمان البقاء في السلطة في الوقت الذى تتجه كافة الأوضاع داخل بلادهم نحو الاستقرار المُشبع بالخراب. 3- تأقلمهم إلى حد ما مع كل "ربح" يجنيه المنافس، من خلال عدم اعتباره على أنه "خسارة" لهم. 4- امتلاكهم القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة في المواقف الحرجة، تحقق لهم ولمنافسيهم، بعض المكاسب والمغانم، دون أن يدعوا المجال لقطعان أوطانهم خلفهم أن تراها على حقيقتها!
لقد سمعت وقرأت كثيراً عن سنوات ما قبل دولة العسكر في وطني مصر، ولشد ما سرني معرفة أن أمثال: عبد الرحمن بدوي وإدوارد سعيد وطه حسين وأحمد لطفي السيد، مشوا يوماً فوق ثرى بلادي، وجالت بصدورهم أحلامنا!
ورأيتني أسأل: لماذا عقمت حرائرنا في ظل "دولة العسكر"، فلم تلدن أحراراً يطمئن الضمير لفضلهم، ويُرجع الخلود صدى أعمالهم! لم تلدن سوى شخصيات خُفاشية، يجرح نور الحقيقة عيونها ويملك التواء الذكاء عليها أمرها.
ظن العسكر على ما يبدو بنزعاتهم البونابرتية ـ نسبة إلى عقدة السلطة عند الزعماء ـ، أن تجفيف منابع الفكر الحر يحصنهم ودولتهم! وما علموا أنهم يوردون ثقافتهم، بل وحضارتهم أيضاً، نبع الفناء! فما قيمة المجتمعات إن هي خلت من أصحاب النفوس الحرة واستشرى فيها الخوف وغابت عنها الفضيلة!
الوضع في بلادي أخطر مما تصورته يوماً وكتبت عنه! وما أراه حولي محض جعجعة ثورية بلا طحن! فلا نقد ولا دور نشر ولا دوريات .. لاشيء!
الربيع العربي ـ وقد كان قبل مجيئه هو الأمل ـ ينزلق على عقول وقلوب الناس في بلادي دون أن يترك أثراً يُذكر! فالناس تتبع من يحمل جوال الخبز وجرة الماء! فقيرهم وغنيهم في هذا سواء! وهو ما يبعث على الإحباط!
الثورة مكانها عقول وقلوب الناس، وليس الميادين والساحات فحسب!
دائرة جهنمية تبتلع أمتى وحضارتي! في البداية حكم استعماري أوروبي تقليدي، ثم دولة عسكر، ثم دولة شيوخ، ثم...! كل دولة تنهب من أمتى أجيالاً وأعماراً! كل دولة تُبشر بالخلاص وتُصدقها الشعوب "المُتعبة"! كل دولة تستهل حكمها برخاء عشوائي، ثم لا تلبث المرارة أن تغمر النفوس وتغتال فيها الأمل!
الغربيون شديدو القسوة وواسعو المعرفة! ولا أدري كيف نثق بهم وبنواياهم ـ خاصة أمريكا ـ، وفاشية العسكر غرس يدهم! لا يبدو أنهم وعوا درس بن لادن ورفاقه جيداً! كونهم يبذلون قصارى جهدهم لتخليد ذكرى بوعزيزي ومحو بن لادن، رغم أن بوعزيزي وبن لادن وجهان لليأس العربي!
مأساتنا تكمن في ضيق أفق شعوبنا، فبُعد النظر يكاد يكون معدوم، بل هو نادر بالفعل، على حد تعبير مادلين أولبرايت! ففي حين يفكر إستراتيجيو الغرب بصيغة العقد والقرن، يُفكر أولو أمرنا بصيغة الأيام والشهور، وربما السنين!
والنتيجة الحتمية لهذا تزايد فرص قيام حكومة مستبدة، تتسكع أمامنا بكل بشاعة وقذارة، على النحو الذى شهدته "دولة العسكر"، وربما على نحو أسوأ!
من هنا تبرز الحاجة لاعادة بناء الانسان العربي، وبالتالي القضاء المُبرم على أسطورة "القطيع الصالح" التى تقتل مجتمعاتنا، واستبدال مجتمع صالح بها!
بيد أن ثمة عقبة كئود تقف بيننا وبين بلوغ هذا الحُلم الرائع، أعني خلو مجتمعاتنا من صفوة فاضلة، يُسترشد بأنوارها حين يسود الظلام، على نحو ما تُعاني مجتمعاتنا اليوم، ويجد نشء بلادنا فيها المثل الأعلى والقدوة الفاضلة. فالرجل العظيم هو الذى يتخذ مثلاً أعلى عظيماً، يحدوه نحو قوة إرادة ومجد!
خلق صفوة فاضلة ليس بالأمر الهين، وإن لم يكن مستحيل! وربما يكون احياء المعارف "الشهيدة" في مجتمعاتنا، وفي مقدمتها "التفكير الفلسفي"، هو البداية الصحيحة، إن أُريد لمجتمعاتنا أن تستعيد حقها في امتلاك مثل هذه الصفوة، والتي تُثبت تجربتنا الحضارية المريرة أن عود المجتمعات جميعها لا يستقيم بدونها!
فلنكتتب من أجل معهد "أهلي" لتعليم التفكير الفلسفي، يكون بدوره المُعادل "اللاغائي" لتفكير قوى الاسلام السياسي الفقهي، وتفكير مشروع زويل العلمي ـ بشقيه الحداثي وما بعد الحداثي ـ، وكلاهما "غائي"، على نحو ما هو معروف!
فبدون تواجد حقيقي لهذه الطرائق المختلفة من التفكير(الفقهي & العلمي & الفلسفي) يصعب على أي مجتمع، ومن باب أولى مجتمعاتنا، التمتع بامتياز امتلاك صفوة فاضلة، وهو ما يعني استمرار عجزنا عن استرداد مقاليد حضارتنا، أو حتى صون ما تبقى بمنأى عن أيدي أبناء الحضارات الأخرى، خاصة الغربية!
وللمعهد الأهلي المُقترح أن يحمل إسم أحد رواد التفكير الفلسفي عندنا، وليكن عبد الرحمن بدوي، الذى هاجر من وطنه مصر في فبراير 1967، على خلفية انحطاط الحياة الأكاديمية في ظل حكم العسكر. ففي مذكراته الشهيرة "سيرة حياتي ـ بجزئيها الأول والثاني ـ، يحكي بدوي أنه ودع مصر بهذه الكلمات:
"وداعاً أيها الوطن المُكبل بالقيود،
الحافل بالجواسيس والمخبرين،
فضاع صوت الأحرار من المواطنين
بين جمهور المواطنين المستسلمين"
وليس لمعهد عبد الرحمن بدوي للتفكير الفلسفي، إن قُدر لفكرته أن تخرج إلى النور، أن يستعين بأيٍ من أساتذة الفلسفة في جامعاتنا، على الأقل في مرحلة التأسيس وقبل بلوغ مرحلة النضح، حتى لا تنتقل إلى الوليد الجديد أمراض الحياة الأكاديمية في مجتمعاتنا "شديدة ضيق الأفق"! فدولة العسكر لوثت المجتمع كله، وأساتذة الجامعة عندنا، خاصة أساتذة الفلسفة، جزء من المجتمع، نالهم ما ناله!
وفي تأسيسنا للمعهد المُقترح، يمكننا الرجوع لخبرات ما قبل مجيء دولة العسكر في مصر، أعني خبرات تأسيس الجامعة الأهلية في صدر القرن الماضي، والتى انضمت لاحقاً إلى الجامعة الحكومية، وخضعت بالطبع لوزارة المعارف.
معهد عبد الرحمن بدوي للتفكير الفلسفي، حُلم بعيد المنال، بل هو مستحيل، خاصة في هذه الآونة ونحن على وشك الدخول إلى دولة مدنية بمرجعية دينية!
لكني قرأت يوماً عبارة جميلة لهربرت ريد، أعمل بها! تقول كلماتها:
"من حارب بلا أمل، حارب بكياسة"