لملم الشتاء أوراقه .. تاركا للزهور تفتحها .. وللأشجار ظلالها التي ستقي عابري السبيل هجير المدينة الخاوية..
كل من عبر حي الباطنية _كما يحلو لسكانه تسميته ممن أدمن كل أنواع المتع المباحة والسرية _... لابد أن يتذكر أم علي تلك المرأة الصلبة بملامحها التي نحتها الزمن وتفنن في ترك آثاره على قسمات وجهها .. وتعبير الـــ 111 المحفور على جبينها كما يحلو لأولادها أن يسموه رمزا للجبروت .. من يعرف أم علي يدرك تماما أن كل هذا هباء ..
من يعرف كيف حملوها إلى بيت زوجها بعد أن انتهت من اللعب مع أقرانها وهي في الحادية عشر من عمرها.. وكيف نامت وهي محمولة إلى البيت الذي ستتركه وهي في السابعة عشر بعد وفاة زوجها وطفلين صغيرين.. حرمت منهما.. من سيغفر لها ملامحها القاسية تلك.. خاصة بعد أن أجبرت مكرهة على الزواج ثانية.. في المرة الأولى تمت مبادلتها ليتزوج أخيها من أخت زوجها.. مرة أخرى أصبح الأصغر بحاجة للزواج.. مقايضة أخرى..
وأم علي تعرف هذا وتندب حظها سرا .. كنت أسمعها تهمس دوما " ياربي ماذا فعلت تحت خيمتك لكي تعاقبني بهذا الشكل" والدموع تنهمر ببط وصمت ..
الشمس تلهب المارة في حي الباطنية.. للصيف في المناطق الشرقية نكهة تلسع كل من توجه شرقا لغرض ما..
هناك على ناصية الرصيف .. تضع أم علي كل صباح "ترمس" الماء الكبير الذي اشترته خصيصا لتسقي العطشى ممن يعبرون الحي كونه في وسط المدينة.. ويعج منذ الصباح بسكان القرى ممن يأتون لمراجعة طبيب ما.. أو معاملة في دائرة حكومية.
بعد أن تطمئن أم علي على برودة الماء في " الترمس" تحضر إبريق الشاي وتجلس على عتبة الباب تحتسي الشاي وتنفث الدخان شاردة في المجهول .. والـ 111 يتراقص على جبينها ..
كل ما كانت تتمناه هو أن تحج إلى بيت الله.. ماكينة الخياطة ملت من تكرار إصلاحها .. وما لديها لا يكفي لأداء فريضة الحج ..
صيف بعد صيف والترمس في مكانه وفوقه كأسا من الكروم ليقاوم أطفال الحي الأشقياء الذين يحلو لهم الشرب من الترمس بالرغم قرب بيوتهم ..
تستشيط غضبا أحيانا فتنهرهم ليبتعدوا عن الترمس
_ أيها الشياطين أذهبوا إلى بيوتكم.
لملم الشتاء أوراقه من جديد .. حصيلة لا بأس بها هذا السنة .. الربيع في المناطق الشرقية يأتي كلمح البصر هاربا من شمس سليطة ..
الساعة الثانية عشر ظهراً .. الشمس عمودية تماما .. ودماغي يغلي كقدر في تنور .. وبشكل لا إرادي تمتد يدي لتحمل كأس ماء .. تعود يدي خاوية .. أمسك سراباً .. دماغي يغلي ثانية .. باب البيت مغلق على غير عادته ...
ولا وجود لترمس الماء ..
حسن الرفيع
الرقة 19/8/2007
من وحي "عينان في قلبي" للكاتبة ريمه الخاني