-
قاطِرَةُ شُهداء
هل هناك من أمّة على وجه الأرض «سوانا» تُقيمُ في كلّ يوم من أيام السنة أعراساً لشهدائها.؟ وأيّ يوم من أيامنا لم نودّع فيه شهيداً سقط في سبيل حريّة الوطن ورفعته.؟ وهل نستطيع أن نصمّ آذاننا عن سماع زغرودة أمّ تطلقها مدوّية وهي تغذّ خطواتها وراء نعش ابنها، تحمله بدموعها المحبوسة، وتودّعه إلى عالمه الخلودي الجديد.
وهل تستطيع حارات مدننا وقرانا ومضارب الخيام إلا أن تتزيّن في كلّ أمسية بصور الشهداء من الآباء والإخوة والأقارب، يتقبّلون التهاني بارتقاء شهدائهم إلى العلا.
وهل قدّر لأمّة من الأمم أن تعيش قروناً من عمرها على هذا الفيض الأسطوري اليومي من شهداء يرتقون إلى الخلود تباعاً.؟ حتى صار السباق إليها طقساً من طقوس العبادة.
هو عرس لشهداء 6 أيار، أولئك الذين طحنتهم شهوة الجزّارين العثمانيين القدامى في «الأستانة»، سوريون ولبنانيون وفلسطينيون، وعرب آخرون، يجتمعون في وحدةِ العطاء والبذل، مشكّلين بهذا التلاحم أمام مشهد الموت والشهادة، وحدة الأمّة العربية، والمصير الواحد.
تلك الإعدامات التي أسست لتحديد يوم التنفيذ كعيد للشهداء، لم تبدأ منذ حفلة «الشنق» تلك، بل كانت سابقةً جداً، موغلةً في عمق التاريخ، قبل هذا التاريخ وبعده، وحتى انكفاء العثمانيين عن بلادنا، فقد كانت سياسة العثمانيين «والغزاة في كلّ آن»، العثمانيون بوجه الخصوص، الذين مارسوا أبشع احتلال على بلادنا العربية، على مدى أربعة قرون ونيّف، تتمثّل بالقتل المشبع، وتنفيذ إعدامات عشوائية بحق المدافعين عن حرية بلدهم، فقد نفّذ حكم الإعدام بالمجاهد الكبير «ذوقان الأطرش» وهو والد المناضل الكبير سلطان باشا الأطرش، وذلك قبل السادس من شهر أيار، مع أربعة من رفاقه في العام 1911، وغيرهم كثر يساقون إلى المشانق تباعاً، جريمتهم، أنهم أخلصوا لبلادهم ووطنهم.
واستمرت مسيرة قاطرة الشهداء لم تتوقّف، يضيئون بدمائهم المشعل، ويعلنون بكبرياء المنتصرين أن المسيرة مستمرّة لن ينضب عطاؤها.
هو يوم نختصر فيه كمّاً من الذكريات طافِحَة، نستذكر فيه هؤلاء العظماء الذين عمّدوا سبيل وجودنا بدمائهم.
هم شهداء يوم السادس من أيار للعام 1916، فقد نفّّذ حكم الإعدام في دمشق، بسبعة من الأبطال، هم نخبة من الطليعيين والمثقّفين السوريين في ساحة المرجة، «التي أطلق عليها فيما بعد ساحة الشهداء»، حيث أصدر السفّاح جمال باشا أمراً بإضاءة الساحة إضاءة مبهرة فجر يوم 6 أيار، ووقف السفّاح على شرفة بناية «العابد» ليراقب، ويتلذّذ بمشهد الإعدام .
وفي اليوم نفسه، السادس من شهر أيار 1916، نفّذ حكم الإعدام أيضاً بنخبة من المثقفين والطليعيين في بيروت، في ساحة البرج، التي أطلق عليها ساحة الشهداء أيضاً فيما بعد، ولا بأس أن ننوّه بأن أكثر الذين أعدموا في بيروت هم من السوريين، وآخر من يافا فلسطين.
تقودني المناسبة، إلى انفتاح أكبر على ذاكرةٍ، علينا أن نُبقيها طازجة لشهداء اختزنوا بالمفهوم العام للشهادة البعدين الوطني والقومي، في محاولة لفهم قيمة فعل الشهادة وقدسيتها بالعام.
من هذا الفهم، انتشرت رسالة الإسلام السامية، وحققت انتصارات مذهلة أوصلت نور الرسالة إلى أقاصي الأرض، وهل ننسى مقولة خالد بن الوليد خلال فترة الحروب مع الروم حين قال: (والله لقد جئتكم بقوم، يحبون الموت كما تحبون الحياة.!)
لم يدرك المارقون بعد، أن دماء الشهداء، هؤلاء وغيرهم، هي التي حقّقت جلاء العثمانيين عن أرضنا، وهي التي حققت جلاء الفرنسيين أيضاً، والذين قبلهم وقبلهم، لكنهم يحلمون «الآن» باستعادة أمجاد الإمبراطورية الميتة، وسيندحرون، ففي سورية، لم يعد من مكان لمحتل وطامع.
-
بارك الله بحرفك ايها الاديب الكبير.
مع التحايا
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى