هذه الدراسة بقلم الأديب : محمد الحامدي

ــــــــ



قراءة نقدثة نشرتها ذات يوم بجريدة " الطليعة " الكويتية ، أعيد نشرها هنا كما هي وبجزئيها الأول والثاني



جمالية الشتيمة أو شعرية الهجاء ؟
محاولة في قراءة بيت "لأبي الطيب" في الهجاء 1
اعداد: محمد الحامدي



أعتذر لدى القارئ الكريم- وأرجو أن يكون العذر أقل قبحاً من الذنب- فأنا سأحاول أن أشرح أو أقرأ بيتاً في الهجاء- في "السب والشتم"- ربما ولكن ألم يعلن "برناردتشو" أن أجمل صورة للمرأة هي أن تكون ميتة، جثة عفنة ينخرها الدود؟•• ثم ألم يحوّل "غاندي" آلام "الروماتيزم" إلى أداة تسلية ولهو؟••• أقصد، ألا نجد في البشاعة والقبح جمالية؟• كما ألا نجد في الألم لذة؟•• ثم بم نفسر إقبالنا على الروايات المبكية؟• ثم ألا نقول بعد أن نتمّم قراءة هذا الصنف من الروايات الحزينة، إنها رائعة؟
سأحاول إذن أن أقف على مواطن الابداع في رسم صورة "جميلة" لانها بشعة• مفارقة عجيبة ولا شك، ولكن تلك هي ارادة الشعر/ الفن، وذلك هو شرف القراءة/ المغامرة•
ثم ألا يمكن أن نجزم بأن أجمل الصور هي أعنفها بشاعة؟•• أوليس ابداع البشاعة ضرباً من الثورة على المألوف وانعتاقاً من المتفق المجمع عليه، وتحطيماً لما نزعم أنه تناسق يأسرنا في عاداتنا وتجليات وجودنا؟• إن هذه الأسئلة والجواب عليها جميعاً هو أحد أهداف هذه المحاولة•
البيت، موضوع القراءة، هو لأبي الطيب••• فهل أجدني مضطراً إلى التعريف بأحمد؟ لعل "المتنبي"•• أشهر من علم على رأسه نار على حدّ عبارة الخنساء• ولكن مع ذلك سأتجرأ فأعرّف بالرجل لا كما ورد عند "ابن خلكان" أو في "شذرات الذهب" أو بين أعطاف "يتيمة الدهر"• ولا كما سعى إلى ذلك "إبراهيم الصّولي" أو "الجرجاني" في وساطتيهما، ولا "الآمدي" في موازنته• بل وليس حتى كما فعل "أبوالعلاء" ولأبي العلاء بالرجل اعجاب• سأترجم لابي الطيب أحمد بن الحسين الجعفي المعروف بالمتنبي كما عرفته شخصياً: تلميذاً فطالباً فـ••• كما عاشرته قسراً واختياراً• وفرق بين أن تختار من تعرف وأن تجبر على التعرف والمعرفة•••
فأبوالطيب كما يبدو من الديوان شاعر، وما أكثر اعوجاجنا في فهم الشاعر والشعر• ولد فاختلف في تاريخ ولادته لأنه انحدر من عائلة نكرة• وقتل فأرخ المؤرخون والمترجمون وأصحاب السير لوفاته/ مقتله يوماً وشهراً وسنة• بل وساعة• وهو في ذلك حلقة في سلسلة نكرات أمست بالشعر وبالشعر فحسب معرفة، وأي معرفة؟•، عنترة العبسي العبد• وأبوالطيّب المنحدر من نسب متواضع• وأبوالعلاء الضرير الناعق• وبيت الثلاثة توافق بين على أنه عجيب• وهم جميعاً في التحدي سواء• تحدى العبودية، والسيادة شرط لتحقيق فحولة الشاعر، وانظر في ذلك شروط الأصمعي• وتحدى الأصل المتواضع وللأصمعي في ذلك كذلك رأي• وتحدي العماء، فرغم أن "بشارا" قد تجاوز العماء فأبدع في عون الاذن على الوصف، وصف المرأة وعشقها• فإن أبا العلاء قد تحرر من البصر/ العماء واستعاض عنه ببصيرة حيرت القدامى ولاتزال تحيرنا•
وأبوالطيب شاعر عاش في عصر لم يستوعبه، ولك أن تعيد الضمير على ما شئت، العصر أو المتنبي• فكلاهما لم يستوعب الآخر• فالمتنبي فاض على عصره بأن غمره ثورة ورفضاً• والعصر ضاق بأبي الطيب ذرعاً• وأبوالطيب موغل في البداوة على صهوة جواد هو في نظر حمّى الأدب/ الفن جوادان: فرس وصفه أمير شعراء العرب "أمرئ القيس" فنحته من بدوي اللفظ وقويه نحتا، صخرا• وجواد ركبه أبوالطيب فملأ الدنيا وشغل الناس والعبارة "لابن رشيق" صاحب "العمدة"• فأما الأول فتمثال صار مثالاً واما الثاني فشعر و"الشعر تهذى طماطمه" وتزيد معانيه• أبوالطيب في هذا الباب بداوة بيداء، بداوة في السيرة بادية "السماوة" إذ معها هجر الشعر البلاط وحام مرفرفاً في ساحات الحرب والوغى• فقد نما أبوالطيب بالبادية وحذق اللغة حتى لان عودها معه واليه ركعت طائعة طيعة، وركض عبر تخوم "حلب" يصاحب سيف الدولة في غزواته ووقائعه• فنحت شعره من حرّ صحاريها فجاء فوّاراً حارقاً• وهام على صهوة جواده بعد هجرة "كافور" فجاء شعره متأسياً لا يخلو من تشاؤم، زاده لوعة وحكمة موت أهله الواحد تلو الآخر• وانظر في هذا التبويب وقائع ذات مهرجان عقد له ببغداد•
وأبوالطيب مدّاح في المقام الأول، ذلك أن المئة والستين قصيدة في المدح- وجلها قيلت في سيف الدولة- يمكن أن تعد لوحدها ديواناً مفرداً فريداً• هكذا عدها "طه حسين" على الأقل• وهو فيما عدا ذلك يكاد يكون مقلاً شحيحاً، وذاك هو شأن الهجاء معه• إذ لا يتجاوز عدد القصائد في الغرض بالديوان الست عشرة قصيدة• ولذلك في رأينا أسباب عديدة لعل أهمها أن جد أبي الطيب في طلب العلى جعله يترفع عن هياط الهجاء ومياطه، إلا ما كان ثورة على العصر من خلال نماذج لاختلال التوازن وانقلاب سلم القيم وانهيار قيم ميزت العرب طويلاً•••
فغرض الهجاء عند أبي الطيب- ومن هذا الغرض نختار نصنا- حمل محملاً خاصاً، وأراد به صاحبه اتجاهاً مخصوصاً• فلئن كانت نشأة هذا الغرض فيما يذكره "بروكلمان" مثلاً، مرتبطة بهجاء القبائل الأعداء، أي أنه غرض سلاح، أو أداة نزال لا تقل قيمته عن السيف والرمح، فإن ما آل إليه هذا الغرض في عصر التدوين وبعيده خاصة، قد استحالت معه معاني الهجاء إلى ضرب من اللهو والعبث والاقذاع• وانظر في ذلك خصوصاً شعراء النقائض (الفرزدق وجرير والأخطل)• لذلك أمسى الهدف من الهجاء خلق صورة أساسها الاضحاك وامتاع الخليفة أو الأمير حتى يستلقي على ظهره أو يمرغ لحيته في الخمر ضاحكاً• عندها يسهل العطاء وتنساب الخلع بين يديه انسياباً• أولم يقل الحطيئة في نفسه:
"ابتشفتاى اليوم الا تكلما بهجو
فمــــــا أدري لمـــــن أنــــا قــائـلــــــه
أرى لـي وجهــــا شــــوه اللـــه خلقـــه
فقبح من وجه وقبح حامله
ثم ألم يكن شرط الابداع عند العرب، الامتاع• وهل من عبارة عن المتعة بالشعر في البلاط سوى العطاء والخلع نوقا وخيلا ودراهما• ألم يحتر مستهلك الشعر قديماً في تفسير الابداع إلى حد وضع شيطان شعر لكل شاعر؟ وقد كان "لابن شهيد" مع هذا الشيطان حكايات وأودية ووهاد•
وصل بنا الأمر إذن إلى الاقرار بأن في الهجاء جمالية كثيراً ما استوجبت استحساناً فاحساناً• وانتهى بنا الدرس إلى اظهار هذا التطور من وظيفة "نزال" إلى وظيفة تكسب• فما شأن الهجاء مع أبي الطيب وما هي وظائفه؟
لقد مدح أبوالطيب أميراً حلبياً فذاع صيته في عصره وخلد اسمه عبر العصور• ولكنه هجا "كافورا" فحدث ما حدث مع سيف الدولة• أو لم تكن حاجة البلاط إلى شاعر كحاجة الشاعر إلى البلاط؟ ألا يمكن أن نشبه البلاط في حمايته للشعر ونشره بدور النشر عندنا اليوم؟ والشاعر في اعانة الأمير على الخلود بوسائل الإعلام عندنا اليوم؟ وتلك للشعر وظيفة نعتقد أنها كانت أساسية•
هجا "أبوالطيب" من "أهيل" عصره الكثير• ولعل "كافورا" كان في الدرك الأول• ولنفهم جيداً وظائف هذا الهجاء علينا أن نعود إلى السياقات التي ورد فيها، فمن شكوى إلى عتاب إلى رفض إلى ثورة ونقمة••• ويهمنا خصوصاً من هذه السياقات، السياق الذي ورد فيه هذا البيت الذي نهم بشرحه•
قد ورد هذا البيت:
"واذا أشار محدثا فكأنه
قرد يقهقه أو عجوز تلطم"
في سياق ميمية هجا فيها اسحاق بن إبراهيم ومدح "أبا العشائر" ولذلك دلالات عديدة في نظرنا:
1- الجمع بين المدح والهجاء في قصيدة واحدة• وذلك مما يكاد ينفرد به أبوالطيب أو هو على الأقل مولع به كولعه بالتصغير•
2- المهجو في القصيدة اعجمي• والممدوح عربي ولذلك في البيت تأثير من حيث دلالته على مواقف أبي الطيب•
3- سياق القصيدة يقوم على رفض المدح وتعويضه بالهجاء• بل إن قسم المدح موظف توظيفاً في خدمة الهجاء مما يجبرنا على القول بأن القصيدة في الهجاء لا في المدح•
وعلى هذا الأساس تكون قراءتنا لهذا البيت سعياً لتحقيق الأهداف التالية:
1- دراسة البيت من الناحية الفنية: ونقصد من ذلك الوقوف على الجمالية في الهجاء/ الشتيمة• ودور ذلك في نحت صورة المهجو•
2- دراسة وظيفة الهجاء في هذا البيت والبحث عما يخصصه ويميزه•
3- تكوين فكرة ولو أولية عن الهجاء عند أبي الطيب، خصائص ودلالات•
أما أدوات القراءة فهي تلك التي كثيراً ما نصحنا به ونصحنا الملاحظة أولاً وتحليل ذات الملاحظة ثانياً واستنتاج ما يمكن استنتاجه ثالثاً، ثم النقد، وعماد النقد عندنا المقارنة• ولا يخفى ما تسعى إليه هذه الأدوات من خطة في تفكيك النص أولاً وفي إعادة تركيبه ثانياً، أو لنقل بعبارة النقاد المعاصرين الوصف والتوظيف/ التأويل•
أول ما يصادفنا في الانجاز الأدبي- الخطاب الشعري- هو اللغة• ومادة اللغة الأولى هي الأصوات• فتوليف الأصوات- إن كان مقصوداً- يفيد افادة هائلة في ابانة المعنى وتبيين معنى المعنى، وإحداث ايقاع مخصوص يمنح الشعر كثيراً من غنائيته• ولكن ذلك ليس ثابتاً في جميع ما ينتج الشاعر ويقول• فلا يعني اهتمامنا بالصوت انطاق الحروف/ الأصوات بما لا تطيق وعلينا- مهما كان هذا الانتباه إلى الأصوات مغرياً طريفاً- الا نكلف الأصوات إلا وسعها• لذلك فإذا نظرنا في هذا البيت الذي نزعم شرحه من هذه الناحية فإننا لا نرى فيه توليفاً مخصوصاً للأصوات• ولكن شعر أبي الطيب زاخر بذلك والامثلة عليه عديدة•
ثم ان الصوت يبدو في اللغة من ناحية الحرف• والحرف في العربية حرفان: حرف هو صوت، وحرف هو مفهوم نحوي• فإذا عدنا إلى مسائل تقسيم الكلام في "شرح المفصل" لـ "ابن يعيش" ألفينا الكلام عنده اسم وفعل وحرف• وإذا نظرنا في البيت وجدنا الحرف النحوي موجوداً وله وظائف مهمة• واهم ما يساهم في نسيج البيت من الحروف الحرف الذي نسميه حرف العطف• وقد ورد في البيت في صور ثلاث: الواو- والفاء- و"أو"•
أما الواو فقد ورد في رأس البيت• فبدا الكلام استئنافياً معطوفاً على كلام سابق أو هو زيادة عليه واضافة له• فما سيلحق الواو- ببيتنا هذا- هو ضرب من التعداد، تعداد هيئات المهجو وصفاته• وهكذا يبدو الهجاء من هذه الناحية تركيباً لصور، ولا لكلام، صورة بعد صورة• ولكنها صورة تحطم الهيئة "العادية" للمهجو وتركب كيانه تركيباً جديداً، ألا يمكن أن نعد كل بيت من هذه القصيدة أو هذا القسم من القصيدة ضربة من ضربات التحطيم، وان واو العطف الموجودة في مستهل كل بيت ايقاعاً لهذا التحطيم• ثم ان البيت الذي نشرح هو إحدى هذه الضربات التي تهوي على هيكل المهجو فتحطمه تحطيماً، ثم تعيد تركيبه على الهيئة التي يحلو للشاعر الهاجي أن يرى مهجوه عليها• فلئن كان البيت السابق لهذا البيت هو تحطيم الخلقة واذا كان البيت اللاحق هو تحطيم الطباع، فإن هذا البيت إنما هو تحطيم السلوك أو الخصال وسيظهر ذلك جلياً فيما يلحق من الشرح•
أما الفاء فهي تربط ما سبقها بما يلحقها ربط السبب بالنتيجة، أو ربط الظرف بجوابه، أو ربط اللازم بملزومه: فما من مرة يتحدث فيها هذا الغبي إلا ويبدو كالقرد أو كالعجوز• ومن ثمة أليس التلازم في الجملة دليلاً على التعميم او الاطلاق• فعادة ما نستعين بهذه الفاء في بناء القواعد والقوانين والحكم، ويبدو ذلك أكثر مردودية حين تربط هذه الفاء بين شطري الجملة التلازمية أو الظرفية أو الشرطية• ثم انني أجد في هذه الفاء مجالاً فسيحاً للتنفس أو التنفيس خصوصاً في هذا التركيب بالذات• وهكذا يقرأ هذا البيت بعجالة والحاح في قسمه الأول ثم بتأن وتنسيق في قسمه الثاني• والفاصل بين النسقين في القراءة هو هذه الفاء• وانظر فضل هذه الفاء في الفصل بين نسقي القراءة• وبهذه الفاء التي تبيح لنا تلك القراءة التي نسميها قراءة تعبيرية نتمكن من العودة إلى تذكر أن أصل الشعر الانشاد أو ليس أساس اللغة المشافهة كما ان أساس اللغة المشافهة كما ان أساس الشعر الانشاد/ الغناء• هذا ما يلح عليه على الأقل اللسانيون المعاصرون• اللغة مشافهة أولاً وأخيراً•


( يتبع )