همــومٌ الشّــعر وعقلية الإقصاء والإلغاء يبدو أن الكلام عن الشعر لن يتوقف ما دامت هناك حياة، فلا يكفي ما قاله أرسطو في كتابه فن الشعر، ولا ما خَطّه معظم الفلاسفة إلى يومنا هذا في شأن الشعر والشعراء، ليس من حيث ماهيته فقط، بل في كل ما يدور حوله من مفاهيم وتعريفات جمالية.
ولأنّ الكلام عن الشعر، رأس الفنون الجميلة، فإن الإنسان سيبقى مشغولاً به، ربما لأنّ الحياة ليست سوى قصيدة، وعلينا البحث في شؤونها، والمغامرة في آفاقها المجهولة، والتنقيب في أُحفوراتها، كيما نصل إلى كنهها! بعض كنهها.
ولأجل أن للشّعر سطوته، تطالعنا الصحف والمجلات بين فترة وأخرى بمقالة أو ببحث نقدي أو برأي عنه، وكذلك لا يمر عام إلا وتخرج المطابع بدراسة أو أكثر سواء أكانت تأليفاً أم ترجمة عن الشعر وفلسفته.
على أن الكتابة الدائمة عن الشعر أو عن أي جنس أدبي آخر، ومحاولة تعريفه أمر منطقي، بل وضروري، لأنه لا ينبغي أن يكون هناك تعريف جامع مانع للشعر، أو أن تكون هناك أطروحات جاهزة، فلكل زمان شعراؤه ونقاده، يَنظُرون إلى الشعر من زاوية تجربتهم الجمالية ومعايشتهم الفنية، ويُنَظِّرون له بأدواتهم المعرفية، التي امتلكوها والتي تختلف عما استخدمه سابقوهم.
إذاً ثمة حاجة دائمة وملحّة لتعريف الأشياء من حولنا، أو لإعادة تفسيرها حتى تلائم الزمن، الذي أُنتجت فيه، وخرجت من كينونته، ولولا هذه الحاجة لما تقدمت البشرية خطوة واحدة، ولبقيت ـ ربما ـ مفاهيم ما قبل التاريخ إلى هذا التاريخ!. ولأجل هذه الحاجة نقول: إنه لا يحق لأحد أن يمنع أحداً من إبداء الرأي، أو الكلام حول مسألة من المسائل، ووفق هذه القاعدة لا يحق لأي مدرسة شعرية أن تمنع مدرسة أخرى من قول كلمتها والتحدث في أسسها التي تعتقدها، فلكل مدرسة شعرية مفاهيمها التي تنطلق منها، ومحدداتها التي تبني عليها تاريخها، وتؤسس بها راهنيتها ومستقبلها، وهذا لا ينفي بالطبع أن تكون هناك سجالات ونقاشات بين المدارس الأدبية تغني الحركة الثقافية بالكثير من الأفكار، على المبدأ الفولتيري: (( قد أختلف معك بالرأي، ولكني أقاتل كي تقول رأيك )) ما دام (( الضد يظهر حسنه الضد )) أو كما قال المتنبي: (( وبضدها تتميز الأشياء)).
وما لم يكن هناك حوار ومنافسة بين مختلف المدارس، فلن نصنعَ أدباً أو نصلَ بالزّمنِ الأدبي إلى التّميّز والإدهاش، على ألا يصل الحوار إلى الإسفاف اللغوي أو الوقوع في مستنقع السّباب والشّتائم في ما لا ينفع الأدب ورقيه في شيء.
ونحن نذكر هنا تلك السجالات، التي جرت على صفحات أشهر الجرائد والمجلات الأدبية طوال القرن المنصرم. ومن تلك المجلات: الرسالة، وأبولو، وأداب البيروتية، وشعر، ومواقف، وحوار...إلخ، التي احتضنت سجالات ونقاشات كانت خيراً على الثقافة والشعر والأدب، فقد حركت الجواء الأدبي، ومارست فعل التجريب والتطوير، دونما ظلام واستبداد. وما زالت أصداء الحرب بين مدرستي الإحياء والديوان، ثم بين أنصار التفعيلة والعمود، ماثلة إلى اليوم، ومازال لهذه المدارس أنصارها ومريدوها، وإن اتحد هؤلاء في وجه ما سميت قصيدة النثر، والتي ما زالت السجالات عنيفة حولها، وما زالت تجذب الكثير من الأطراف إلى ساحاتها حتى يومنا هذا، لأن بعض مؤسسي هذه القصيدة ما زالوا أحياء وينظِّرون لها. ولا شك أن اختلاف (وجهات النظر) بين الشعراء تثري الأدب، وهي حالة منطقية ما لم تصل إلى إقصاء هذا ذاك، أو إلغاء أولئك هؤلاء.
وأودّ هنا أن أوضح بعض الملاحظات بشأن الشعر والشعراء برزت في السنوات الماضية في ساحات الثقافة العربية.
وأولى الملاحظات، تلك المسابقات، التي أقدمت عليها بعض المحطات الفضائية العربية، من مسابقة شاعر المليون المخصصة للشعر النبطي أو العامي، إلى مسابقة شاعر العرب للشعر الفصيح، إلى مسابقة أمير الشعراء، ولن أدخل في شرعية هذه المسابقات وموضوعيتها، أو منطقية وجودها أصلاً، فأقلّ ما يمكن قوله في ذلك إنه لا يحق لأحد مهما كان أن يبتدع هذه البدعة، فلا أمير للشعر البتة، اللهم إلا أن يتداعى الشعراء أنفسهم وينصِّبوا أميراً عليهم إن كان لابد من ذلك، فهم يختارونه، ويتنادون إلى تنصيبه كما جرى أوائل القرن العشرين مع أحمد شوقي، وليقل من شاء ساعتئذ كما قال حافظ إبراهيم لشوقي:
أميـر القوافي قد أتيـت مبايعا
وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
وسوى مثل هذه المبايعة فلا مبايعة ولا تنصيب أمير للشعر.
على أن أهم ما أنجزته المسابقات الفضائية وهذا من حسناتها، أنها فضحت الساحة الشعرية العربية، وبرمية من غير رام كما يقولون، ولعل مسابقة شاعر العرب تحديداً هي التي كشفت عوار المؤسسات الثقافية العربية الرسمية وتَبَنّيها الضّحالة سمة لازمة لها في كل ما تفعل، كما أنها بيّنتْ أموراً أعتقد أنها ليست خافية على أحد، فالكثير من الأسماء لم تكن معروفةً، لا لعدم كفاءتها شعرياً، لأن منهم من كان على مستوى رفيع جداً ( وقد شارك في الأدوار الأولى أكثر من 1200 شاعر ) وإنما بسبب القائمين على أمر الثقافة في بلادنا العربية، سدنة (المعرفة؟!) وكهان (الإبداع؟!)، من يعتقدون في أنفسهم الصواب المطلق وأن ما عندهم هو نهاية الحقائق، ويرون ولا يرى غيرهم، ويعتقدون ويظنُّ سواهم، وهم كلُّ الكُلِّ وما عداهم لا شيء. فهؤلاء ببساطة ليسوا مستعدين لنشر نتاجات الكثير من الشعراء لاعتبارات كثيرة، منها أن الشعر المقدَّم قد لا يتماشى مع المدرسة، التي ينتمي إليها هؤلاء؛ فالسفينة غير السفينة والعصر غير العصر!! أو أن الرفض لهؤلاء الشعراء عائد لأمور مادية، واللبيب يفهم، وهذا بحد ذاته يختصر الكثير من الألم إن لم يكن مأساة بعينها. وثمة أمور خاصة جداً، وهي كثيرة لا مجال لذكرها.
وهناك أيضا جوائز الشعر التي تقام في بعض دول الوطن العربي، ومنها محلي الطابع ومنها الإقليمي، ومنها ما هو جائزة فلانة ومنها ما هو جائزة فلان، وإذا أردنا التتبع أكثر فأكثر، فالأمر في نهاية المطاف معقود عند اللجان المحكّمة!! فهي التي تملك الحقيقة، وهي صاحبة السلطة، وهي أيضاً (اللجان) تنتسب إلى مدارس شعرية لا تخرج عن مسارها ولو قيد أنملة، ولو كان ذلك على حساب الشعر الحقيقي. فهذه الجوائز أيضاً لها ما لها وعليها ما عليها.
ومن الملاحظات القديمة الجديدة سيطرة مافيات الأدب على الوسائل الثقافية والإعلامية، وطغيان الشللية ولاسيما في المجلات الأدبية، فتلك المجلة لأصحاب الشعر العمودي وممنوع على من يكتب قصيدة النثر الاقتراب منها، وتلك المطبوعة لأنصار قصيدة النثر ولا يحق لأنصار التفعيلة أو العمودي النشر فيها. وبالإجمال تبدو عقلية الإلغاء والإقصاء قائمة على قدم وساق في ساحاتنا الثقافية والأدبية، وهذا ما يجري في المؤتمرات والندوات التي تعقد هنا وهناك، لأن عملية الإبداع تجري وفق مبدأ النفعية والمصلحية والانتقائية، وخير دليل على ذلك الأسابيع الثقافية، التي تقيمها البلدان العربية، فحين يكون هناك أسبوع ثقافي لبلد عربي في بلد عربي آخر، فإن المشاركين في مثل هذه الأسابيع ممن يمثلون البلد المحتفى به، إنما هم أصحاب المائدة ( الحواريون)، الذين يرسلون أنفسهم إلى هذه الأسابيع، لتظل أسماؤهم على كل شفة ولسان، وهم معروفون دائما، ولكن تتغير الأسماء، يبجِّلون أنفسهم، ويحتفون بذواتهم، ويعطون لأنفسهم الألقاب العالية، والرتب الرفيعة، والجوائز والمنح، ويقدِّسون مسيرتهم الأدبية الكبرى...؟!!
ثم ماذا بعد ذلك غير تسطيح الثقافة والأدب والشعر؟ وتصحير الحياة العربية، وتجفيف منابع الإلهام الحقيقية، التي تستند إلى تراث حضاري وإنساني، وتتكئ على تاريخ روحي عميق.
وما ينطبق على هذه الأسابيع الثقافية وتلك المؤتمرات، سواء أكانت شعرية أم روائية، وما يجري فيها من إقصاء وانتقائية، ينطبق أيضا على المهرجانات الشعرية التي تقام هنا وهناك، والتي يحمل بعضها صبغة عالمية!، فهي أيضا تعتمد الانتقائية، أو أشياء جمالية أخرى، وتكاد الأسماء المهرجانية لا يعرف لها أصل من فصل، ولا بداية من نهاية، وكأن نوعية الأدب لم تعد تهمُّ أحداً في هذا العالم العربي، المليء بالمتناقضات والإشكالات، الغارق في جهله والمطمئن إلى تخلفه.
ومن القضايا المثارة حول هذه المهرجانات الشعرية، وحول مؤتمرات الشعر أيضا، قضية التمويل ومن يقف وراء مهرجانات الشعر ومؤتمراته، أو كما يحلو للبعض أن يقول: "السبونسر"، فهذه القضية قديمة جديدة من قضايا الشعر، وعليها نقاط استفهام كبرى.
والحق أنه لم يعد هناك اهتمام بما ينشر، أو ما ينبغي أن ينشر أو يستحقه، وربما لا تتعدى عملية نشر الإبداع الآن مجال الصداقات الشخصية والوساطة وغير ذلك مما يسيء إلى الأدب والثقافة والفكر عموماً. فالموضوعية غائبة غياباً شبه مطلق عن ساحاتنا الأدبية والثقافية، وأكثر ما يتجلى هذا الغياب للموضوعية؛ وهي من ضمن الهموم الشعرية، حين يتم اختيار الأسماء الشعرية وانتقاؤها، لتوضع بما يشبه (الأنطولوجيات)، علماً أن خارطة الشعر العربي لم تقرأ بعد قراءة موضوعية حقيقية، وليس هناك سبر حقيقي للشعراء العرب وما أنتجوه، وتكاد الدراسات الأكاديمية بهذا الشأن تغيب كلياً عن الساحة الأدبية العربية، وما هو موجود إنما هو مساهمات فردية خاصة، قد تكون الايديولوجيا وراء الكثير منها، أو أنه سَدُّ ثغرةٍ لا تقوم بها المؤسسات الرسمية والأكاديمية العربية. والتي يبدو أنها مشاركة في تدمير المزاج الشعري العربي، بما ينسجم مع ما تقذفه المطابع الورقية، والإلكترونية، إذا جاز التعبير، فهذه المطابع لم تعد تنتج نقداً حقيقياً من زمن بعيد جداً.
إن أقسى ما يمكن أن يصاب به الأدب، أي أدب، يكمن في مفهوم اسمه الرشوة الأدبية، وقد يستغرب الكثيرون، وربما يتساءلون: أهناك رشوة في الأدب أيضاً؟! ونحن بدورنا نحيل هذا الاستغراب ومن يتساءلون إلى مجلات الأدب، وكل مكان ينشر فيه الأدب، فصفحاتها ستخبرنا بالحقيقة، كل الحقيقة.
عبد الغفور الخطيبhttp://www.albaath.news.sy/user/?id=582&a=53494