قضايا الدلالة في
اللغة العربية بين الأصوليين واللغويين
(الحلقة الأولى: الترادف)
٢٨ آذار (مارس) ٢٠١١بقلم مولاي إدريس ميموني
الأصل في اللغة أن يوضع فيها اللفظ الواحد لمعنى واحد، وللمعنى لفظ واحد، لكن ظروفا تحدث في المجتمع، تؤدي إلى أن يوجد لفظان فأكثر لمعنى واحد، أو معنيان فأكثر للفظ واحد(1). يقول سيبويه "واعلم أن من كلامهم، اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين"(2)وبذلك تكون ألفاظ اللغة من حيث دلالتها ثلاثة أنواع:
أ- المتباين: وهو أكثر اللغة، وهو أن يدل اللفظ الواحد على معنى واحد.يقول قطرب:" الكلام في ألفاظه بلغة العرب على ثلاثة أوجه، فوجه منها وهو الأعم الأكثر، اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين …وذلك قولك: الرجل والمرأة، واليوم والليلة، وقام وقعد…وهذا لا سبيل إلى جمعه وحصره، لأن أكثر الكلام عليه. الوجه الثاني: اختلاف اللفظين والمعنى متفق واحد، وذلك مثل عير، وحمار، وذئب، وسيد… وجلس وقعد…والوجه الثالث: أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى، فيكون اللفظ الواحد على معنيين فصاعدا، وذلك مثل: الأمة، الرجل وحده يؤتم به. والأمة، القامة، قامة الرجل. والأمة من الأمم. ومن هذا اللفظ الواحد الذي يجيء على معنيين فصاعدا، ما يكون متضادا في الشيء وضده"(4) .
ب- المشترك: وهو أن يدل اللفظ الواحد على أكثر من معنى.
ج- الترادف: وهو أن يدل أكثر من لفظ على معنى واحد(3)
وما دامت اللغة العربية، أغنى اللغات في تعدد المفردات الدالة، على معنى واحد من ناحية. وتعدد معاني اللفظة الواحدة، إلى درجة التضاد بينها في بعض الأحيان، من ناحية أخرى. وكلها محاور تمت دراستها بشكل دقيق في الفكر العربي الإسلامي قديما. فإنه ليس من المبالغة في شيء القول: إن الدرس اللغوي الحديث، مدين للدرس اللغوي القديم، في الإجابة على شطر كبير من القضايا المتعلقة به حاليا. وخصوصا إذا تعلق الأمر بقضية المعنى وتعدده، وما يرتبط بذلك من مشاكل.
ونحاول في ما يلي، الوقوف عند سر هذه القضية في العربية، انطلاقا من المعالجة التي قدمها لها كل من الأصوليين واللغويين كل على حدة. إذ لا يخفى على الباحثين في اللغة، وكذا في علم الأصول، العلاقة الموجودة بينهما(5). وبذلك جاءت مشاركة الأصوليين في البحث عن العديد من المسائل اللغوية المهمة، تأكيدا لهذه العلاقة، التي لا يخلو منها مصنف من مصنفات علم أصول الفقه.
1- مفهوم الترادف بين الأصوليين واللغويين:
من مشكلات الدلالة اللفظية التي عرضت للغة العربية، مشكلة الترادف، وهي قضية لحقت بالتطور الدلالي للغة العربية. وقد كان نظر الأصوليين إلى الألفاظ، بصورها ونسقها، على أنها طريق التوصل للفكر الإنساني، ودليل صحته وخطئه. فكان الحرص شديدا على استقراء الدلالة، من خلال الألفاظ، تحديدا لها، ومحاولة للربط بين اللفظ ومسماه.
والترادف لغة: ما تبع الشيء، وكل شيء تبع شيئا، فهو ردفه. وإذا تتابع شيء، خلف شيء، فهو الترادف. والجمع: الردافى. قال لبيد: عذافرة تقمص بالردافى تخونها نزولي وارتحالي ويقال: جاء القوم ردافى، أي بعضهم يتبع بعضا. ويقال للحداة، الردافى وأنشد أبو عبيد للراعي: وخود من اللائي تسمعن بالضحى قريض الردافى بالغناء المهود وقيل: الردافى: الرديف. وهذا أمر ليس له ردف (6)
واصطلاحا: "عبارة عن الاتحاد في المفهوم. وقيل: هو توالي الألفاظ المفردة، الدالة على شيء واحد، باعتبار واحد. ويطلق على معنيين، أحدهما الاتحاد في الصدق، والثاني الاتحاد في المفهوم. ومن نظر إلى الأول، فرق بينهما. ومن نظر إلى الثاني لم يفرق بينهما".(7)
وقد أورد السيد أحمد عبد الغفار تعريفا للترادف على أنه " عبارة عن توارد الألفاظ المفردة على مسمى واحد، بحسب أصل الوضع. فتدل على معنى واحد، من جهة واحدة، كالليث والأسد، يطلقان على الحيوان المعروف، وكل منهما يحمل الدلالة عليه من غير فرق. وهذا هو المعنى الحقيقي للترادف، إذا قلنا بأنه اتحاد تام في المعنى"(8)
ومنه أيضا إشارة الإمام الشافعي في قوله:"وقد تسمي العرب الشيء الواحد، بالأسماء الكثيرة. وهذا بين في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي لسان العرب" (9) وهذا التقسيم نجده موسعا شاملا عند الإمام الغزالي إذ يقول "إن الألفاظ المتعددة، بالإضافة إلى المسميات المتعددة، على أربعة منازل، ولنخترع لها أربعة ألفاظ، وهي: المترادفة، والمتباينة، والمتواطئة، والمشتركة"(10).
وبعد هذا التحديد لمفهوم الترادف عند علماء أصول الفقه، نذكر أقصوصة في الترادف، ذكرها السيوطي في المزهر قائلا:"عن أبي علي الفارسي قال: كنت بمجلس سيف الدولة بحلب، وبالحضرة جماعة من أهل اللغة، وفيهم ابن خالويه، فقال ابن خالويه: أحفظ للسيف خمسين اسما، فابتسم أبوعلي وقال: ما أحفظ له إلا اسما واحدا، وهو السيف. وقال ابن خالويه: فأين المهند، والصارم وكذا وكذا؟ فقال أبو علي : هذه صفات، وكأن الشيخ لا يفرق بين الاسم والصفة"(11)
فالمتأمل لهذه الطريفة، يجد أن مفهوم الترادف قد تحدد عند العلماء بطريقة علمية دقيقة، تجعله لا يختلط بغيره من الدلالات عند التعدد- منذ بداية جمع اللغة العربية- إلى درجة تمييزه عن الصفة، والتوكيد، والتابع. ويزداد هذا التحديد وضوحا في النص الذي أورده الإمام فخر الدين الرازي حين عرف الترادف بقوله "الألفاظ المترادفة: هي الألفاظ المفردة الدالة على مسمى واحد، باعتبار واحد، واحترزنا بقولنا المفردة عن الرسم والحد، وبقولنا باعتبار واحد عن اللفظتين، إذا دلا على شيء واحد، باعتبار صفتين، كالصارم والمهند. أو باعتبار الصفة، وصفة الصفة، كالفصيح والناطق، فإنهما من المتباينة. واعلم أن الفرق بين المترادف والمؤكد، أن المترادفين يفيدان فائدة واحدة، من غير تفاوت أصلا. وأما المؤكد، فإنه لا يفيد عين فائدة المؤكد، بل يفيد تقويته. والفرق بينه وبين التابع، كقولنا شيطان ليطان، أن التابع وحده لا يفيد، بل شرط كونه مفيدا تقدم الأول عليه" (12).
وقد أشار ابنجني إلى هذه القضية تحت عنوان( باب في تلاقي المعاني على اختلاف الأصول والمباني) فقال " هذا فصل في العربية حسن كثير المنفعة، قوي الدلالة على شرف هذه اللغة، وذلك أن تجد للمعنى الواحد أسماء كثيرة، فتبحث عن أصل كل اسم منها، فتجده مفضي المعنى إلى معنى صاحبه"(13)
ومن أقدم الكتب العربية التي حملت اسم الترادف، كتاب أبي الحسن علي ابن عيسى الرماني (ت384هـ) (الألفاظ المترادفة والمتقاربة في المعنى) ومن أقدم من أطلق اسم الترادف على هذه القضية اللغوية، أحمد ابن فارس في كتابه (الصاحبي في فقه اللغة، وسنن العرب في كلامها) في (باب الأسماء كيف تقع على المسميات) لكنه لم يضع له حدا جامعا مانعا كما رأيناه عند فخر الدين الرازي سابقا(14). وقد اختلف اللغويون العرب القدماء، اختلافا كبيرا في إثبات الترادف وإنكاره في العربية، مما سنبينه في الفقرات الآتية.
2- أحكام الترادف بين الإثبات والإنكار:
أ – عند علماء أصول الفقه:
لما كانت الدلالة ركيزة العمل الأصولي، فقد جال علماء الأصول وراءها أيا كان مكانها، وعرضوا لها سواء كان ذلك على مستوى اللفظ المفرد، أو على مستوى التركيب. فالدلالة التي لا لفظ لها، لا وجود لها عندهم. ومن هنا فلا إشكال في وقوع الترادف عند علماء الأصول، بل ثمة من لا يرى منهم حاجة إلى الاستدلال على وقوعه، ولا يرى معنى لإقامة البرهان على جوازه في اللغة، وذلك بعد التحقق من وقوعه، كالبر والقمح، والقعود والجلوس، وغيرها مما لم يجعله نقلة اللغة محل خلاف. كما أن العقل لا يحيل جواز الوقوع، وأن الواقع يؤيد الوقوع. ولذا فالاشتغال بإثبات ذلك ودفع هذا عبث، فلا يصغي إلى مقالة من أنكره، لأن ذلك مكابرة ومباهتة. (15)
وبالرغم من ذلك كله، فقد وجد بين الأصوليين من ينكره، كما وجد من يؤيده. بل قد أثير بينهم خلاف كبير فيما إذا كان الترادف قد وقع في اللغة أم لا. أما الذين ذهبوا إلى عدم وقوعه، فيستندون إلى أن ذلك يعتبر تساهلا في التفرقة بين دلالات الألفاظ، وتهوينا لأمر الدقة في الاستعمال. وأول ذلك الإخلال بالفهم: كما عبر عنه فخر الدين الرازي في سياق إيراده لأسباب المانعين له قائلا: "ومن الناس من قال الأصل عدم الترادف لوجهين: الأول أنه يخل بالفهم التام، لاحتمال أن يكون المعلوم لكل واحد من المتخاطبين، غير الاسم الذي يعلمه الآخر. فعند التخاطب لا يعلم كل واحد منهما مراد الآخر، فيحتاج كل واحد منهما إلى حفظ تلك الألفاظ حذرا عن هذا المحذور فتزداد المشقة. الثاني أنه يتضمن تعريف المعرف وهو خلاف الأصل" (16) ومن هؤلاء الرافضين لوجوده في اللغة، الراغب الأصفهاني في مقدمة مفرداته، لموانع أهمها: الاختلاف في الذات والصفة، كالإنسان والناطق، أو الزجاج والخشب. وإن كان الأول قريب الشبه بالمترادف، إلا أنه ليس منه. -كما يقول الغزالي- أو الصفة وصفة الصفة، كالمتكلم والفصيح. (17) فمن قال بالترادف في ذلك على حد قول الشوكاني، فهو " تكلف ظاهر وتعسف بحت، وهو وإن أمكن تكلف مثله في بعض المواد المترادفة، فإنه لا يمكن في أكثرها. يعلم هذا كل عالم بلغة العرب. فالعجب من نسبة المنع من الوقوع، إلى مثل ثعلب، وابن فارس، مع توسعهما في هذا العلم"(18)، فلو وقع الترادف في مثل هذه الأمور، لضاعت الفائدة في تحديد الدلالة، إذ الغرض من وضع الألفاظ، هو اختصاص كل لفظ بمعنى معين.
وقد رد الآمدي على المانعين لوقوعه مبينا كيفية حدوثه قائلا: "ذهب شذوذ من الناس، إلى امتناع وقوع الترادف في اللغة، مصيرا منه إلى أن الأصل عند تعدد الأسماء، تعدد المسميات، واختصاص كل اسم بمسمى غير مسمى آخر… وجوابه، أن يقال: لا سبيل إلى إنكار الجواز العقلي، فإنه لا يمتنع عقلا، أن يضع واحد لفظين على مسمى واحد، ثم يتفق الكل عليه. أو أن تضع إحدى القبيلتين، أحد الاسمين على مسمى، وتضع الأخرى له اسما آخر، من غير شعور كل قبيلة بوضع الأخرى، ثم يشيع الوضعان بعد ذلك، كيف وأن ذلك جائز. بل واقع بالنظر إلى لغتين ضرورة، فكان جائزا بالنظر إلى قبيلتين".(19)
وفي هذا السياق، أورد السيوطي قول تاج الدين السبكي، في شرح المنهاج، وهو يسفه فيه حجج المنكرين للترادف، ويصفهم بالتكلف في إظهار الفروق بقوله: "ذهب بعض الناس إلى إنكار المترادف في اللغة العربية، وزعم أن كل ما يظن من المترادفات، فهو من المتباينات التي تتباين بالصفات، كما في الإنسان والبشر، فإن الأول موضوع له باعتبار النسيان، أو باعتبار أنه يؤنس. والثاني باعتبار أنه بادي البشرة. وكذا الخندريس والعقار، فإن الأول باعتبار العتق، والثاني باعتبار عقر الدن لشدتها، وتكلف لأكثر المترادفات بمثل هذا المقال العجيب".(20) وقد اختار هذا المذهب أحمد ابن فارس في كتابه فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، وهو مذهب منقول عن أستاذه ثعلب.
إلا أنه وبرغم قول أهل الأصول بوقوع الترادف في اللغة، والقرآن الكريم، والسنة النبوية، فقد اختلفوا في وقوع كل من المترادفين مكان الآخر. فذهبت طائفة منهم إلى القول بالجواز، وذهبت أخرى إلى المنع، ولكن المحققين منهم أجازوا ذلك، وقيدوه بالمانع الشرعي.
ورغم إقرار الأصوليين بوقوع الترادف في ألفاظ القرآن الكريم، إلا أنهم لم يجوزوا أن يحل لفظ مكان لفظ، مهما كان الترادف تاما وقويا، وذلك لأن القرآن الكريم، لفظه ومعناه من عند الله تعالى، وكلاهما متعبد بتلاوته، والمانع هنا شرعي. (21)
بينما ذهب آخرون، إلى منع التوارد بين الألفاظ المترادفة، في سائر اللغة، سواء كان ذلك في القرآن الكريم، أو في غيره من مصادر العربية، لأن القصد من وضع اللغة واحد. ومن هؤلاء فخر الدين الرازي، الذي علل عدم جواز ذلك، بمسوغات من صميم العلاقة بين اللفظ ومعناه، وباعتراضات في أغلبها ناتجة عن طبيعة الألفاظ نفسها قائلا: هل تجب صحة إقامة كل واحد من المترادفين مقام الآخر أم لا؟ فجاء الجواب على لسان السائل قائلا:"الأظهر في أول النظر ذلك، لأن المترادفين لا بد وأن يفيد كل واحد منهما عين فائدة الآخر.فالمعنى لما صح أن يضم إلى معنى، حينما يكون مدلولا لأحد اللفظين. لا بد وأن يبقى بتلك الصفة، حال كونه مدلولا للفظ الثاني. لأن صحة الضم من عوارض المعاني، لا من عوارض الألفاظ. والحق أن ذلك غير واجب، لأن صحة الضم قد تكون من عوارض الألفاظ. لأن المعنى الذي يعبر عنه في العربية بلفظ، يعبر عنه في الفارسية بلفظ آخر. فإذا قلت: (خرجت من الدار)، استقام الكلام. ولو أبدلت صيغة (من) وحدها، بمرادفها من الفارسية لم يجز. فهذا الامتناع ما جاء من قبل المعاني، بل من قبل الألفاظ. وإذا عقل ذلك في لغتين، فلم لا يجوز مثله في لغة واحدة." (22)
أما المسوغ الثاني الذي علل به الرازي عدم جواز ورود لفظ مكان آخر، فيرجع إلى ما يلي: "أن أحد المترادفين إذا كان أظهر، كان الجلي بالنسبة إلى الخفي شرحا له. وربما انعكس الأمر بالنسبة إلى قوم آخرين، وزعم كثير من المتكلمين، أنه لا معنى للحد إلا ذلك. فقالوا: الحد تبديل لفظ خفي، بلفظ أوضح منه، تفهيما للسائل. وليس الأمر كما ذكروه على الإطلاق، بل الماهية المفردة، إذا حاولنا تعريفها بدلالة المطابقة، لم يكن إلا على الوجه الذي ذكروه"(23) ومن الأصوليين من جعل الترادف أقساما، فجوز وقوع بعضها مكان الآخر، ومنع الباقي من ذلك. (24)
ويمكن إجمال أهم أسباب وجود الترادف في اللغة عند الأصوليين إلى:
تعدد الوضع.
توسيع دائرة التعبير.
تكثير وسائل التعبير: (وهوما يسمى بالافتنان في التعبير، أو تسهيل مجال النظم والنثر) ويرجع فخر الدين الرازي هذا السبب إلى "التسهيل والإقدار على الفصاحة، لأنه قد يمتنع وزن البيت وقافيته، مع بعض أسماء الشيء، ويصح مع الاسم الآخر، وربما حصل رعاية السجع، والمقلوب، والمجنس، وسائر أصناف البديع، مع بعض أسماء الشيء، دون البعض. (ثم) التمكين من تأدية المقصود بإحدى العبارتين عند نسيان الأخرى"(25).
أما أكثر الأسباب احتمالا لوقوع الترادف في اللغة، فيرجع في نظره إلى: "اصطلاح إحدى القبيلتين على اسم لشيء، غير الذي اصطلحت القبيلة الأخرى عليه، ثم اشتهار الوضعين بعد ذلك." (26) وهو ما سماه الآمدي بتعدد الوضع.
وقد أجمل الشوكاني أسباب إثبات جمهور الأصوليين للترادف في اللغة العربية في" تعدد الوضع، أو توسيع دائرة التعبير، وتكثير وسائله، وهو المسمى عند أهل هذا الشأن بالافتنان، أو تسهيل مجال النظم والنثر، وأنواع البديع. فإنه قد يحصل أحد اللفظين المترادفين للقافية، أو الوزن، أو السجعة، دون الآخر، وقد يحصل التجنيس والتقابل والمطابقة، ونحو ذلك "(27)
ب - عند علماء اللغة: نجمل رأي علماء اللغة العربية في الترادف، بالخلاصة التي قدمها السيوطي في المزهر، لكونه استطاع كعادته في مؤلفاته أن يجمع جميع الآراء الواردة في الموضوع. ويظهر مما أورده فيه، أن رواة اللغة وجامعيها في القرن الثاني الهجري، كانوا يسلمون بوجوده في اللغة، ولا يرونه محلا لنزاع أو جدل، فقد روي أن أبا زيد الأنصاري سأل أعرابيا ما المحنبطىء؟ قال هو المتكأكىء: قال أبو زيد، وما المتكأكىء؟ قال هو المتآزف، قال وما المتآزف؟ فسئم الأعرابي من مساءلته فقال له أنت أحمق.
ألا ترى إلى قول أبي زيد الأنصاري، أنه كان لا يرى غضاضة في التعبير على المعنى الواحد، بأكثر من لفظ، وهذا ما يدعم إيمانه، بأن الأعرابي قد يحتفظ في ذاكرته بألفاظ عدة، للتعبير عن معنى واحد.(28)غير أن بعض العلماء في أواخر القرن الثالث الهجري، بعدما أخذوا في تصنيف المادة اللغوية في أنماط شتى، بدءوا يتلمسون فروقا بين الكلمات التي عدها من سبقوهم من المترادفات مثل ثعلب. وفي القرن الرابع الهجري، احتدم الصراع بين أنصار الترادف ومنكريه، فبالغ بعضهم في جمع تلك الألفاظ وحشدها بين طائفة كبيرة، لا تمت بصلة إلى الترادف، كما فعل الأصمعي وابن خالويه.(29)وإن مال بعضهم، إلى الاعتدال في حصر الكلمات المترادفة، مثل الإمام الرازي، الذي رأى وجوب تقييد الترادف بعدم التباين في المعنى، وبعدم الإتباع. فالسيف والصارم، ليسا من الترادف. ففي الثانية زيادة في المعنى. وليس منه كذلك (عطشان نطشان)، إذ لا معنى للكلمة الثانية. على الرغم من أن هناك من قال: إن الترادف لا يكون إلا في العبارات، بينما يكون في الألفاظ التوارد. وهذا ما ذكره السيوطي في المزهر حين ذكر أن الكيا الهراسي كان يقول بالتوارد في الألفاظ، مثل سبع، وأسد، وليث. وبالترادف الترادف في العبارات والجمل، مثل قولنا " أصلح الفاسد ولم الشعث ورتق الفتق وشعب الصدع "(30) في حين كان بعض المؤيدين للترادف من أمثال أبي الفرج الأصفهاني يرى الترادف في اللهجة الواحدة وينكره في لهجتين مختلفتين، وهذه وجهة نظر سليمة -كما يقول إبراهيم أنيس – تتجه إلى ما يتجه إليه المحدثون في نظرتهم إلى الترادف. (31)
أما المؤيدون لفكرة الترادف، فكانوا يرون أن الاستعمال أكبر مؤيد لهم في ذلك، (فلا ريب) لا تعني شيئا أكثر من (لا شك). وهذا ما دفع الكثير من علماء اللغة، إلى الافتخار بما يحفظونه من أسماء متعددة للشيء الواحد، فابن خالويه، يفخر بأنه يحفظ للسيف خمسين اسما، وعشرات من أسماء الأسد، شأنه في ذلك شأن الأصمعي، الذي صرح بأنه يحفظ للحجر سبعين اسما، وقد ألف الفيروزابادي كتابا في أسماء العسل.(32) وقد أدت مبالغة هؤلاء العلماء في تأييد وجود الترادف في اللغة، إلى ظهور طائفة معارضة لوجدوه فيها، معلنة رفضها التام لها. ونذكر من هؤلاء على سبيل التمثيل لا الحصر، أبا عبد الله محمد بن زياد الأعرابي(ت 231هـ) وأبا العباس أحمد بن يحيى ثعلب (ت 291هـ) وأبا محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه (ت 377هـ) وأبا الحسين أحمد بن فارس (ت 395هـ) وغيرهم..قال ابن فارس: "ويسمى الشيء الواحد بالأسماء المختلفة، نحو السيف والمهند والحسام"(33) . وقد يتراءى لنا أن ابن فارس قد أقر باشتمال اللغة العربية على الترادف، والصحيح أنه إلى إنكاره أقرب، وعلى معارضته أحرص. يقول: "والذي نقوله في هذا، أن الاسم واحد وهو السيف، وما بعده من الألقاب صفات. ومذهبنا أن كل صفة منها، فمعناها غير معنى الأخرى. وقد خالف في ذلك قوم، فزعموا أنها وإن اختلفت ألفاظها، فإنها ترجع إلى معنى واحد، وذلك قولنا: سيف، وعضب، وحسام. وقال آخرون: ليس منها اسم ولا صفة، إلا ومعناه غير المعنى الآخر، قالوا: وكذلك الأفعال، نحو مضى، وذهب، وانطلق، وقعد، وجلس، ورقد، ونام، وهجع. قالوا: ففي قعد، معنى ليس في جلس. وكذلك القول فيما سواه. وبهذا نقول، وهو مذهب شيخنا أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب." (34)
ويوضح ابن فارس مذهبه في تفصيل أدق حينما يقول:" إن في قعد معنى ليس في جلس، ألا ترى أنا نقول: قام ثم قعد، وأخذه المقيم والمقعد. وقعدت المرأة عن الحيض. ثم نقول: كان مضطجعا فجلس، فيكون القعود عن قيام، والجلوس عن حالة هي دون الجلوس. لأن الجلس المرتفع، والجلوس ارتفاع عما هو دونه، وعلى هذا يجري الباب كله".(35) وكانوا يصفون تلك الكلمات الكثيرة، التي قيل إنها أسماء للجمل، أو للثعلبان، أو للأسد أو للعسل، بأنها صفات يلحظ في كل منها أمر معين. وتلك كانت حجة أبي علي الفارسي في جدله مع ابن خالويه. (36)
ويتفق الأصوليون واللغويون، في إبعاد طائفة من الألفاظ، التي قال بعض اللغويين بترادفها، وذلك كاسم الشيء وصفاته، نحو السيف، والحسام، والصارم، والمهند. فالسيف عند الأصوليين اسم للذات، والبواقي صفات له. وهي وإن دلت على مسمى واحد، ولكن باعتبارات مختلفة.(37) وليس من الترادف، الصفة، وصفة الصفة، كالناطق والفصيح. وتسمى المتباينة المتواصلة، يقول الشيخ عز الدين بن جماعة في شرح جمع الجوامع، مبينا خلاف العلماء في هذه الألفاظ قائلا:"والحاصل أن من جعلها مترادفة ينظر إلى اتحاد دلالتها على الذات، ومن يمنع، ينظر إلى اختصاص بعضها بمزيد من الصفات"(38) وعلى أية حال فان الكثير منهم لم يقولوا بترادفها كالآمدي والرازي والغزالي وغيرهم، إلا أن بعض المتأخرين ذهبوا إلى جعلها قسما آخر سموه (المتكافئة، كأسماء الله تعالى وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم ) (39) وقد تابع علماء أصول الفقه معظم اللغويين القدامى عندما توهموا الترادف في ألفاظ ليست مترادفة حقا، وذلك نحو البهتر والبحتر للقصير. (40)
ومن العلماء الذين أنكروا الترادف، نذكر بعض الأدباء والنقادأمثال: أبي هلال العسكري الذي ألف كتابا سماه "الفروق اللغوية" لإبطال الترادف، واثبات الفروق بين الألفاظ التي يدعى ترادفها. وقد بدأ كتابه بمبحث عنوانه (باب في الإبانة عن كون اختلاف العبارات والأسماء، موجبا لاختلاف المعاني في كل لغة، والقول في الدلالة على الفروق بينها) قال: "الاسم كلمة تدل على معنى دلالة الإشارة، وإذا أشير إلى الشيء مرة واحدة فعرف، فالإشارة إليه ثانية وثالثة، غير مفيدة، وواضع اللغة حكيم لا يأتي فيها بما لا يفيد،"(41)
3- موقف اللغويين المحدثين من الترادف:
لقد اختلف اللغويون المحدثون حول الترادف، كاختلاف القدماء فيه، غير أن نظرتهم إليه اختلفت عن نظرة القدماء إليه. ويرجع ذلك إلى الأشواط التي قطعتها العلوم اللغوية، وإلى التطور الكبير الذي عرفه الدرس اللغوي، بما توصل إليه علم اللغة الحديث من حقائق ومعلومات، ولاسيما في مجال علم الدلالة. فتهيأ بهذه الوسائل للباحث اللغوي الحديث، ما لم يتهيأ للباحث القديم، وكان من نتائج ذلك، أن نظر المحدثون إلى الترادف نظرة مغايرة للنظرة السابقة. وأصبح الترادف عندهم أكثر تشعبا وأشد إثارة للجدل، لارتباطه كما يقول -أحمد مختار عمر- بتعريف المعنى من ناحية، ومن ناحية أخرى بنوع المعنى المقصود.(42)فأصبحوا يميزون بين أنواع مختلفة من الترادف وأشباه الترادف(43)
وتتمثل نظرة المحدثين للترادف، في تلك الشروط اللغوية التي وضعوها، ورأوا أنه لابد من تحققها حتى يمكن القول بالترادف في الألفاظ، وتتلخص فيما يلي:
الاتفاق في المعنى بين كلمتين اتفاقا تاما، على الأقل في ذهن الكثرة الغالبة لأفراد البيئة اللغوية، ويكتفي اللغوي الحديث، بالفهم العادي لمتوسطي الناس حين النظر إلى مثل هذه الكلمات، فإذا تبين بدليل قوي، أن العربي كان يفهم حقا من كلمة جلس، شيئا لا يستفيده من كلمة قعد، قلنا حينئذ ليس بينهما ترادف(44).
الاتحاد في البيئة اللغوية: أي أن تكون الكلمتان تنتميان إلى لهجة واحدة، أو مجموعة منسجمة من اللهجات، ويتفق هذا الكلام، مع مذهب أبي الفرج الأصفهاني الذي يرى عدم تلمس الترادف في لهجات العرب المتباينة، من نحو لغة أهل الحجاز، ولغة أهل اليمن القديمة. فالترادف بمعناه الدقيق، أن يكون للرجل الوحيد في البيئة الوحيدة، الحرية في استعمال كلمتين أو أكثر في معنى واحد، يختار هذه حينا، ويختار تلك حينا آخر. وفي كلتا الحالتين، لا يكاد يشعر بفرق بينهما، إلا بمقدار ما يسمح به مجال القول.
ولعل المغالين في القول بالترادف، لم يفطنوا إلى مثل هذا الشرط، حين اعتبروا كل اللهجات وحدة متماسكة، وعدوا كل الجزيرة العربية بيئة واحدة. ولكننا كما يقول رمضان عبد التواب، وإبراهيم أنيس، نعد اللغة المشتركة، أو الفصحى الأدبية، بيئة واحدة. ونعد كل لهجة أو مجموعة منسجمة من اللهجات بيئة واحدة(45).
الاتحاد في العصر: حين ينظر المحدثون إلى الترادف، ينظرون إليه في عهد خاص، وزمن معين، وتلك النظرة يعبرون عنها بكلمة (Synchronique) لا تلك النظرة التاريخية التي تتبع الكلمات المستعملة في عصور مختلفة، ثم تتخذ منها مترادفات، وهي النظرة التي يعبرون عنها بكلمة( Diachronique ) فإذا بحثنا عن الترادف يجب ألا نتلمسه في شعر شاعر من الجاهليين، ثم نقيس كلماته بكلمات وردت في نقش قديم يرجع إلى العهود المسيحية مثلا(46) فهذا لا يسمى ترادفا.
أن لا يكون أحد اللفظين نتيجة تطور صورة للفظ آخر، فحين نقارن بين (الجثل) و( الجفل)، بمعنى النمل، نلحظ أن إحدى الكلمتين يمكن أن تعتبر أصلا، والأخرى تطور لها. فالجفل صيغة حضرية، نشأت في بيئة حضرية، تراعي خفوت الصوت، والتقليل من وضوحه. والجثل صيغة بدوية، نشأت في بيئة بدوية، تميل إلى الأصوات الأكثر وضوحا في السمع. فالجفل والجثل إذن، ليستا في الحقيقة إلا كلمة واحدة. وقد أخرج المحدثون من الترادف، جميع الكلمات التي حدث فيها تطور صوتي، وعدوها مترادفات وهمية(47).
ويرى إبراهيم أنيس، أن هذه الشروط، لو طبقت على اللغة العربية، لن يكون هناك ترادف في اللهجات العربية القديمة، وإنما يمكن حسب رأيه تلمسه في اللغة النموذجية الأدبية. وعلى هذا الأساس يقر بوجود الترادف في القرآن الكريم، لأنه نزل بلغة قريش المثالية، التي يجري على أساليبها وطرق تعبيرها، يقول: "أما الترادف فقد وقع بكثرة في ألفاظ القرآن، رغم محاولة بعض المفسرين أن يتلمسوا فروقا خيالية، لا وجود لها إلا في أذهانهم، للتفرقة بين تلك الألفاظ القرآنية المترادفة"(48). ويذهب إلى هذا الرأي صبحي الصالح حين قال "وبهذا نفسر ترادف أقسم وحلف، في قوله تعالى " أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم"(49) ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر"(50). وترادف بعث وأرسل، في قوله تعالى" وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا"(51). وقوله تعالى "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"(52)
وقد شن إبراهيم أنيس حملة ضاربة على المنكرين للترادف، وقد وجد نقده اللاذع لهذه الفروق حينما قال: " نتشكك في كثير من تلك الفروق، التي ساقها هؤلاء المؤلفون، ولا نكاد نرى في كتب هؤلاء العلماء شواهد، أو نصوصا قديمة، نستدل بها على ما يمكن أن يكون بين الدلالات من فروق، وأغلب الظن أن ما التمسوه من تلك الفروق، لم يكن إلا من وحي خيالهم، أو لعلهم قد عز عليهم أن يروا تلك الكثرة من الألفاظ المترادفة في اللغة العربية، وحسبوها مما يشوه اللغة، أو يوقع فيها اللبس والإبهام، فعمدوا إلى بعضها، وفرقوا بين دلالاتها، دون أن يكون لهم فيما صنعوه أي سند، من نصوص اللغة واستعمالاتها"(53).
وبعد هذا النقد الحاد، يخلص إلى القول: إن الألفاظ إذا كانت مختلفة الصورة، وبينها فروق في الدلالة، مهما كانت تلك الفروق طفيفة، لا يصح أن تعد من المترادفات، لأن شرط الترادف الحقيقي، هو الاتحاد التام في المعنى. ومرجع الحكم في هذا أولا وأخيرا، إلى الاستعمال، لا إلى ما يتكهن به بعض أصحاب المعاجم(54).
وهذا لا يعني أن جميع اللغويين المحدثين متفقون، بل منهم من يذهب إلى أن المعنى الحديث للترادف إنما هو في الألفاظ ذات الدلالة المتقاربة، وليس في اتفاق المعاني(55).
وخلاصة القول، إن المحدثين لا يشترطون الاتفاق التام في المعنى فحسب، وإنما يرون أن مقياس الترادف في ألفاظ اللغة، يقوم على مبدأ الاستعاضة الذي يعني استبدال الكلمة بما يرادفها في النص اللغوي، دون أي تغيير في المعنى. وهو المفهوم الدقيق للترادف في فقه اللغة المعاصر، ويتوافق قول المحدثين إلى حد كبير، مع ما ذهب إليه ابن جني في الترادف حين قال: "وإذا كثر على المعنى الواحد ألفاظ مختلفة، فسمعت في لغة إنسان واحد، فإن أحرى ذلك أن يكون قد أفاد أكثرها أو طرفا منها…" (56).
وعموما فإن شروط المحدثين في جوهرها، إنما هي حد لكثرة الترادف والغلو فيه، لكي تصير المترادفات بقدر مقبول.
4- أثر التطور الدلالي في حدوث الترادف: من نافلة القول أن نعرض لموضوع التطور الدلالي في الألفاظ، التي تناولها الباحثون بالدراسة والتحليل، وفصلوا القول فيها، وأصبحت هذه المسألة، كما قررها علماء اللغة المحدثون، حقيقة لغوية لا يختلف فيها اثنان، مثل تعميم الخاص، وتخصيص العام، وانتقال مجال الدلالة وتغيرها.
وعلى ضوء هذه الحقيقة، يمكن تفسير حدوث الترادف في كثير من الألفاظ، بسبب التطور الذي يحدث للألفاظ خلال أطوار حياتها، فقضية الترادف في جوهرها تبقى مسألة دلالية قبل كل شيء، وهي نتيجة للتطور الدلالي في الألفاظ. وبهذا التفسير يمكن أن نرد كثيرا من المترادفات إلى هذه الحقيقة في التطور والاستعمال(57). ومما يساعد على هذا الأمر، توافر تلك الألفاظ ذات المعاني المتقاربة، والمعاني العامة والخاصة للشيء الواحد. ولعل هذا أبرز سبب دعا أبا هلال العسكري إلى القول بالفروق اللغوية بين المعاني المتقاربة، أو التي صارت بمعنى، فهو يقول: " ثم إني ما رأيت نوعا من العلوم، وفنا من الآداب، إلا وقد صنف فيها كتب تجمع أطرافه، وتنظم أصنافه، إلا الكلام في الفروق بين معان تقاربت، حتى أشكل الفرق بينها، نحو العلم والمعرفة، والفطنة والذكاء، والإرادة والمشيئة، والغضب والسخط، والخطأ والغلط، والكمال والتمام، والسنة والعام"(58).
والعسكري في هذا، إنما قام بالتفريق بين الألفاظ، معولا على معانيها الأصلية، ودلالتها القديمة، كما وردت عند فصحاء العرب القدماء. ثم يذكر بعد ذلك أنها استعملت بمعنى واحد، مشيرا إلى التوسع فيها، ألا ترى إلى الفوائد التي سجلها السيوطي في المزهر، مبينا الأسباب التي تدعو إلى وقوع الترادف في اللغة، وهي فوائد علمية تتفق مع ما تقتضيه طبيعة اللغة، من اتساع وتطور، يقول السيوطي: " قال أهل الأصول: لوقوع الألفاظ المترادفة سببان: أحدهما أن يكون من واضعين، وهو الأكثر بأن تضع إحدى القبيلتين أحد الاسمين، والأخرى الاسم الآخر للمسمى الواحد، من غير أن تشعر إحداهما بالأخرى، ثم يشتهر الوضعان، ويخفى الواضعان. أو يلتبس وضع أحدهما بوضع الآخر، وهذا مبني على كون اللغات اصطلاحية. والثاني أن يكون من واضع واحد وهو الأقل، وله فوائد منها: أن تكثر الوسائل – أي الطرق – إلى الإخبار عما في النفس، فإنه ربما نسي أحد اللفظين أو عسر عليه النطق به، فقد كان بعض الأذكياء في الزمن السالف ألثغ، فلم يحفظ عنه أنه نطق بحرف الراء. ولولا المترادفات تعينه على قصده، لما قدر على ذلك. ومنها التوسع في سلوك طرق الفصاحة، وأساليب البلاغة، في النظم والنثر، وذلك لأن اللفظ الواحد قد يتأتى باستعماله مع لفظ آخر السجع والقافية، والتجنيس والترصيع، وغير ذلك من أصناف البديع، ولا يتأتى ذلك باستعمال مرادفه مع ذلك اللفظ. (59) وقد أوردنا سلفا، كلاما لعلماء الأصول، شبيه بهذا الذي أورده السيوطي على لسانهم أيضا، مما يدل على رجاحة ما ذهبوا إليه في الموضوع.
وبفعل التطور الدلالي، نجد في القرن الثالث الهجري العديد من الألفاظ، التي أصبحت مترادفة في لغة ذلك العصر، بعد أن أمكن الاستعمال لها. واختلفت تلك الفروق الدقيقة بين دلالتها، وهذا ما صرح به ابن قتيبة في كتابه (أدب الكاتب) حيث جعل ذلك من أسباب تأليفه له حين قال:"فما رأيت أحدا منهم يعرف فرقا، بين الوكع والكوع، ولا الحنف من الفدع، ولا اللمى من اللطع. فلما رأيت هذا الشأن كل يوم إلى نقصان، وخشيت أن يذهب رسمه، ويعفو أثره، جعلت له حظا من عنايتي وجزء من تأليفي"(60)
وإنها لعظيمة تلك الفائدة التي كشف لنا عنها المؤلف، بسبب تسجليه للألفاظ بحسبمعانيها، التي آلت إليه في عصره، وكما يجري بها الاستعمال فعلا. وليس بحسب معانيها النقلية والمروية. ونحب بعد هذا، إجمال بعض أسباب الترادف، كما ذكرها بعض اللغويين المحدثين:
أولا: تعدد أسماء الشيء الواحد في اللهجات العربية المختلفة.
ثانيا: أن يكون للشيء الواحد في الأصل اسم واحد، ثم يوصف بصفات مختلفة، وفي ضوء هذا السبب يمكن النظر إلى السيف وأسمائه المختلفة في العربية.
ثالثا: التطور اللغوي في اللفظة الواحدة، يقول ابن جني: "ومن ذلك قولهم: هتلت السماء وهتنت، هما أصلان. ألا تراهما متساويين في التصرف، يقولون هتنت السماء تهتن تهتانا، وهتلت تهتل تهتالا، ومن هن سحائب هتن وهتل"(61)
رابعا: استعارة كلمات من لهجة من اللهجات، أو لغة من اللغات بسببالغزو أو الهجرات (62).
نخلص من هذا كله، إلى أن الترادف هو كما قرر القدماء، تلك الألفاظ المختلفة التي تدل على معنى واحد على سبيل الانفراد معولين على الواقع اللغوي ومهتدين إلى ما قرره المحدثون من شروط واعتبارات وجيهة في تحققه، وإن كانت هذه الشروط صعبة التحقق لافتقار اللغة إلى المعجم التاريخي الذي يفيد استعمال الألفاظ بالزمان والمكان المعينين ويعنى بالتطور الصوتي والدلالي للألفاظ.
الهوامش:
* أستاذ علوم اللغة العربية واللسانيات، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال، جامعة القاضي عياض. وأستاذ زائر، بجامعة الحسن الأول، بسطات. المغرب.
(1)- رمضان عبد التواب، فصول في فقه العربية، دار الجيل للطباعة، مصر، الطبعة الثالثة. ص:308. - حسن ظاظا، كلام العرب، من قضايا اللغة العربية، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية، 1410هـ1990م. ص: 85.
(2)- سيبويه، الكتاب، تحقيق عبد السلام هارون، دار الكتب، بيروت، لبنان1403هـ/1983م. ص: 1/7.
(3)- أحمد مختار عمر، علم الدلالة، عالم الكتب، مصر، الطبعة الثانية، 1988م. ص:145.
(4)- قطرب، الأضداد، ص: 243-244.
(5) انظر مقدمات كتب علماء الأصول مثل، الرسالة للشافعي. الإحكام للآمدي.
(6)- ابن مظور، لسان العرب، دار صادر بيروت. 1374هـ/1955م. مادة (ردف).
(7)- الجرجاني: التعريفات الجرجاني، ضبط مجموعة من العلماء، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان،1403هـ/1983م. مادة (ردف).
(8)- السيد أحمد عبد الغفار، التصور اللغوي عند الأصوليين، دار المعرفة الجامعية، الطبعة الأولى، 1401هـ/1981م. ص:99.
(9)- الشافعي: الأم، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية. 1393هـ. 2/ 82.
(10)- الغزالي، المستصفى من علم أصول الفقه، ضبط، محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 1413هـ/1993م.1/31.
(11)- السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، تحقيق:محمد أحمد جاد المولى، علي محمد البجاوي، محمد أبو الفضل إبراهيم. المكتبة العصرية، بيروت، 1408هـ/ 1987م. ص:1/405.
(12)- فخر الدين الرازي، المحصول في علم أصول الفقه، تحقيق،جابر فياض العلواني، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية،1412هـ/1992م.1//347-348
(13)- ابن جني، الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ص: 2/113.
14- أحمد مختار عمر، علم الدلالة، عالم الكتب مصر، الطبعة الثانية، 1988م. ص: 216.
غازي مختار طليمات، نظرات في علم دلالة الألفاظ عند أحمد ابن فارس اللغوي، حوليات كلية الآداب، جامعة الكويت، الحولية، 11.مطبعة الرسالة. 1410هـ/1990م. ص:44.
15- محمد الخضري، أصول الفقه، ص: 157.
(16)- فخر الدين الرازي، المحصول في علم أصول الفقه،1/ 351-352.
(17)- الغزالي: المستصفى، ص: 27.
(18)- الشوكاني، إرشاد الحق إلى تحقيق الحق من علم الأصول، دار الفكر، ص: 45.
(19) الآمدي الإحكام في أصول الأحكام، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 1403هـ/ 1983م. 1/30-31.
(20) تاج الدين السبكي، الإبهاج في شرح المنهاج: 1/241.
(21) مالك حاكم الزيادي، الترادف في اللغة، دار الحرية للطباعة، بغداد العراق، 1980م. ص:56.
(22)- المحصول في علم أصول الفقه، 1/352-353.
(23)- المحصول1/353-354.
(24)- الزركشي، المنثور في القواعد، تحقيق تيسير فائق أحمد محمود، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الكويت، الطبعة الثانية، 1405هـ. 1/ 183 وما بعدها
(25)- المحصول، 1/350-351
(26)- المحصول، 1/ 351.
(27)- إرشاد الفحول، ص: 45.
(28)- المزهر:1/403.
(29)- رمضان عبد التواب، فصول في فقه العربية، دار لجيل، مصر، الطبعة الثالثة. ص:315.
(30)- المزهر، 1/33.
(31)- إبراهيم أنيس، في اللهجات العربية، المطبعة الفنية الحديثة، الطبعة الثالثة، 1965م. ص:175.
(32)- فصول في فقه العربية، ص: 310.
في اللهجات العربية، ص: 114.
(33)- أحمد بن فارس، الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، تحقيق أحمد حسن يسبح، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى. 1418هـ/1997م. ص: 109
(34)- الصاحبي، ص: 109- 110.
(35)- الصاحبي، ص:111.
(36)- المزهر: 1/405.
(37)- المستصفى:27
(38)- المزهر 1/405.
(39)- المزهر: 1/405.
(40)- الإحكام في أصول الأحكام:1/24.
(41)- أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية، ضبط حسام الدين القدسي، دار الكتب العلمية،بيروت لبنان،1401هـ/1981م. ص: 10-11.
(42)- الترادف في اللغة، ص:65.
وعلم الدلالة، ص:220.
(43)- علم الدلالة، ص: من 220 إلى 224.
(44)- الترادف في اللغة، ص:66.
في اللهجات العربية، ص:178.
(45)- الترادف في اللغة، ص:66. و
في اللهجات العربية، ص:178-179.
(46)- الترادف في اللغة، ص:66.
في اللهجات العربية، ص: 179.
(47)- الترادف في اللغة، ص:66-67.
في اللهجات العربية، ص: 179.
(48)- إبراهيم أنيس، دلالة الألفاظ، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثانية، 1963م. ص: 215.
(49)- سورة المائدة، الآية:53.
(50)- سورة التوبة، الآية:74.
(51)- سورة الإسراء، الآية: 15.
(52)- سورة الأنبياء، الآية:107.
(53)- عبد العال سالم مكرم، جلال الدين السيوطي وأثره في الدراسات اللغوية، مؤسسة الرسالة، الكويت، الطبعة الأولى. 1409هـ/1989م. من ص:531 إلى ص:535 .
إبراهيم أنيس، دلالة الألفاظ، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثانية، 1963م، ص:216-217.
صبحي الصالح، دراسات في فقه اللغة، دار العلم للملايين، بيروت، ص:299-300.
(54)- دلالة الألفاظ، من 219 إلى 224.
(55)- فهمي حجازي، علم اللغة بين التراث والمناهج الحديثة، ص:97-98.
(56)- ابن جني، الخصائص تحقيق محمد علي النجار، دار الكتاب العربي، بيروت لبنان:1/373.
(57) الترادف في اللغة، ص:80
في اللهجات العربية، ص:171.
(58) أبوهلال العسكري، الفروق اللغوية، ص:7.
(59) المزهر، 1/405-406.
(60) ابن قتيبة، أدب الكاتب، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، مصر، الطبعة الرابعة، 1382هـ/1963م. ص:9.
(61) الخصائص: 2/82.
(62) يرجع لمعرفة أسباب الترادف مفصلة الكتب الآتية:
رمضان عبد التواب، فصول في فقه العربية، من 316 إلى 322.
حسن ظاظا ، كلام العرب من قضايا اللغة العربية، ص:من 86 إلى 89.
إبراهيم أنيس، في اللهجات العربية، من 181إلى 184.
المصدر
http://www.diwanalarab.com/spip.php?article27850