المحادثة الأولى
منى العمد
شاب في تأمل
قصة قصيرة
لم تجد عيناها إلى النوم سبيلاً هذه الليلة، ربما أكثرت من شرب القهوة عصر اليوم، غادرت علياء سريرها وجلست إلى جهاز الحاسوب، أجرت اتصالاً بإنترنت وأخذت كعادتها تتصفح بعض الدوريات المحببة إليها، وأثناء ذلك تفقدت بريدها، فإذا مربع حوار يبرز فجأة أمامها، شخص ما، اسم لا تعرفه، يبلغها أنه أضافها إلى جهات اتصاله وينتظر إذنها. ترددت، من هذا الطارق بابها المخترق كل حجبها! هي لم تعتد على محادثة الغرباء.
ولكن شيئاً ما يدفعها، ربما كان الفضول، تنظر من جديد إلى الشاشة أمامها، ماذا لو....؟ تصورت أنه واقف هناك ينتظرها، وأخذت الأصوات تناديها من داخلها، فتقدم ثم تحجم، فهي ( وقور وريعان الصبا يستفزها)، وجدت نفسها أخيراً تضغط (موافق)، وما كادت تفعل حتى فاجأها المربع الصغير برسالة: مساء الخير سمر.
ترددت ثانية، وأخذت تتساءل: ترى من يكون؟ أو ربما من تكون؟ من يدري؟ ولكن من يعرف أنها تسمي نفسها سمر؟ أعاد التحية مرة أخرى: مساء الخير سمر، ردت: من المتحدث؟
ألا تردين التحية؟ أنا ماجد.
وكيف عرفت بريدي.. هل أنت تعرفني؟
أخشى ألا تصدقيني إن أنا أخبرتك.
جرب، ربما تقنعني.
أنا لا أعرفك، هل تصدقين إن قلت لك إنني اخترعت بريدك وحاولت فنجحت؟
غريب.
أرأيت؟ قلت لك بأنك لن تصدقي، هل أقسم لك؟
تقسم أو لا تقسم، هذا لا يشكل فرقاً كبيراً.
هل لي أن أسألك عن اسمك؟
ألم تنادني به منذ برهة؟!
أهو اسمك فعلاً؟
ربما، وربما اخترعته أنا كما اخترعته أنت.
سأناديك به على أي حال. وسوف أبدأ حديثي بتكرار تحيتي، مساء الخير.
مساء أم صباح؟ تجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل!
أحياناً يتساوى عندي المساء والصباح.
أتشاؤم أم فلسفة؟
ألا ترين أن النور والظلام.. كلاهما ينبعثان من نفس الإنسان، وتتحكم بهما إرادة الإنسان؟
خاطرة تستحق التفكير. لكن من لطف الله بنا أن جعل النور والظلام يتعاقبان علينا، وكما قيل "بأضدادها تعرف الأشياء".
هذا يعني أنك ترين في الليل فرصة فقط لاستشعار نعمة النهار؟
هذا قليل من كثير.
هل تأذنين أن أتجول في فكرك فأسألك: ماذا يعني لك الليل والظلام؟
أجد في الليل هروبا من ضجيج النهار، وفرصة ألتقي فيها مع نفسي وخواطري وأفكاري وحواراتي.
هلا أفصحت؟
كاد الليل أن ينقضي، وأود حقيقة أن أخلو بنفسي، قبل أن يتنفس الصبح.
إذا فقد أدرك شهرزاد الصباح.
قد أوشك.
هل من وعد بتكرار الحوار؟
لا أعد بشيء. قد لا أعود.
وإن رجوتك أن تفعلي؟ أشعر أن بيننا توافقاً في الرؤى، عديني بمواصلة الحوار غداً.
غداً؟ ترى ماذا يخفي غد؟ من يدري؟؟
تعبت أمها وهي تحاول إيقاظها ضحى ذلك اليوم، كانت مرهقة طوال النهار، ومحادثتها ليلة أمس تارة تشيع في نفسها البهجة، وأخرى تثير فيها التوجس والريبة، ترى من هذا الغريب الذي حاورها؟ وماذا وراءه؟ ترى كيف هو شكله؟ ولكن ماذا لو كان شخصاً يعرفها، ربما كانت إحدى صديقاتها تمازحها، ربما.. كل شيء ممكن، كم من قصة سمعت!
مكثت أياماً كلما اقتربت من الجهاز ترددت وتراجعت، تفكر، لا بد أنه يحاول أن يجدها، بل لابد أنه كتب لها فيضاً من الرسائل، تصوره عواطفها يجلس أمام جهازه حزيناً يفتقدها ويفتقد حديثها، تتخذ لنفسها أعذاراً شتى، وتقترب من الجهاز، ثم يصوره عقلها يهزأ بها ويتندر بحديثها، فترجع، إنها مغامرة غير محسوبة النتائج، وهي أعقل من أن تورط نفسها، وهكذا بقيت عدة أيام في تردد حتى كان يوم جاءتها فيه أمها والبشاشة مرتسمة على وجهها، تخبرها أن أحد أصدقاء والدها سيأتي مساء اليوم مع أسرته لطلب يدها لولده، تضاربت مشاعرها، هذا يوم حلمت به كثيراً، ولكن ماجد؟ ومن ماجد؟ وما أدراني إن كان ماجد شاباً أم شيخاً، بل ما أدراني إن كان رجلاً أو امرأة، ثم شغلها أمر الخاطب الجديد، فأراحها من التفكير بالحوار وصاحبه.
في غضون أيام قليلة تم عقد زواجها على أيمن. وكان أول عمل تقوم به بعد عقد زواجها هو التخلص من ذكرى محادثة تلك الليلة ومسحها من الجهاز لعل الأيام القادمة تمسح آثارها من فكرها وقلبها. مسحتها دون تردد، تفقدت بريدها، وتعجبت لم يرسل ماجد لها أية رسالة، قالت في نفسها: هذا أفضل، هي لم تكن لترد عليه بعد أن أصبحت زوجة لأيمن، لكنها مع ذلك لم يعجبها أنه لم يرسل لها شيئاً. لا بأس هذا سيساعدها على النسيان سريعاً، ومنعا لأية محاولة جديدة من قبل ماجد قامت بإلغاء بريدها تماماً. تمنت فعلاً لو أنها لم تدخل في حوار معه لكان ذلك أسلم لقلبها.
وسط مشاركة الأهل والأحبة زُفت علياء إلى زوجها وكانت سعادتها عظيمة، فقد رأت فيه مثالاً للرجل العاقل الودود، ونما الحب بسرعة بين العروسين وظلل أسرتهما الصغيرة جو من الألفة والمودة.
ذات ليلة، دخلت علياء على زوجها في غرفة مكتبه وهو يجلس أمام جهاز الحاسوب، قالت مداعبة: ماذا يفعل زوجي الحبيب؟ تلعثم قليلاً ثم قال: أفتح بريداً جديداً مشتركاً لنا فما رأيك؟ قالت وقد هربت خواطرها إلى تلك الليلة مجدداً: بريد مشترك؟ إنها فكرة رائعة، قال أيمن وهو يحاول إبعادها بلباقة: هل تتكرمين بإعداد القهوة لنا يا عزيزتي؟ قالت: حباً وكرامة.
أخذ أيمن يحمد الله تعالى كثيراً على أن عروسه لم تلمح الشاشة أمامه، ماذا سيقول لها لو رأت الحوار على الشاشة؟ هل كانت ستصدق أن سمر هي فتاة لا يعرف عنها شيئاً، وأنه حاورها مرة واحدة فقط في ليلة مسه فيها الأرق، وأن ذلك كان قبل عزم أهله على خطبتها له بيوم واحد، وأنه ما فتح جهازه الليلة إلا ليمسح تلك المحادثة ويتخلص من ذكراها؟!