(شاعر العدد) امرؤ القيس... ملك الشعر وضِلِّيل السياسة!
وهذا شاعر آخر، عاش شعريته الجميلة بين قيمه القبلية الموروثة، ونزقه الشخصي الأصيل، وبينهما كان له من المجد ما جعله أول عنوان في ذاكرة الشعر العربية على الإطلاق عبر جملة من الاستباقات الفنية والبلاغية والتاريخية أيضا.
إنه الملك الضليل، امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي، وارث المجد العائلي من طرفيه، فوالده ملك قبلي عندما كان للقبائل ملوك، وأمه شقيقة الزير سالم أبي ليلى المهلهل صاحب السيرة الشعبية الملحمية في ذاكرة العرب الجماعية ومن بين طرفي المجد، كان للشاعر أن يبني مجده الخاص حياة لاهية ترجمها شعرا غير مسبوق على الإطلاق . فقد نشأ امرؤ القيس-الذي تشير أغلب الروايات التاريخية إلى أنه ولد عام 694، وتوفي عام 445 للميلاد-شاعرًا صعلوكًا في ثياب أمير صغير، ولأن الشعر كان هويته الخاصة بعيدًا عن صيته العائلي التليد، فقد لجأ إليه في مجالس اللهو والطرب والصعلكة والشراب، بديلا عن حكايات الملك ودسائس السياسة، وألاعيب رجالاتها المحيطين بوالده، وكانت مغامراته العاطفية الكثيرة زاده الشعري والشاعري، وميدان شهرته الأول في إطار القبيلة، مما أحرج والده الذي سرعان ما أمر بإبعاده إلى اليمن (منبت العائلة الأول)، وهو لم يغادر عشرينياته بعد، لعله يرعوي عن تصرفاته التي لا تليق بمن يستعد لوراثة الملك بعد حين، على أن الملك الذي كان متوقعًا أن يرثه على طبق من ذهب لم يأت أبدا، وبدلا منه جاءه رسول من ديار الأهل يفسد عليه مجلس لهوه بين أصدقائه ويبلغه بمقتل أبيه على يد بعض المتمردين من بني أسد، وعندها فقط، أدرك امرؤ القيس ما هو مقبل عليه، فقال كلمته التي خلدت بين مرويات العرب: «ضيعني أبي صغيًرا وحملني دمه كبيرًا..اليوم خمر وغدا أمر». و«الأمر»، في نهاية الأمر، صار أمورا كثيرة أضافت لسيرة الشاعر اللاهي عناوين مريرة، بدأت منذ محاولته الأولى لأخذ ثأر والده واسترجاع فردوسه المفقود، وانتهت به غريبًا يموت بأرض غريبة إثر مرض غريب.
فقد بدأ امرؤ القيس رحلة الثأر مقسما ألاّ يأكل لحما ولا يشرب خمرا حتى يقتل من بني أسد مائة، ويحزن مائة آخرين. وفي سبيل تحقيق هذا القسم الدموي رحل مطوفا بين قبائل العرب مسنتصرها للأخذ بثأر أبيه من بني أسد، فأجابته إلى ذلك قبيلتا بكر وتغلب فأعانه أفرادهم وأوقعوا ببني أسد، وقتلوا منهم أكثر مما أقسم عليه الشاعر الثائر، واكتفوا بذلك، ولكنه - وقد استهوته لعبة الحرب وأحلام السلطة كما يبدو- لم يكتف، فتركوه وحيدا يبحث عن أنصار جدد. ولما لم يجد من يكمل معه لعبة الثأر يمم وجهه شطر القسطنطينية، حيث قيصر الروم جوستنتين طالبا المساعدة، لكنه وجدها على شكل خيانة غير مبررة من ملك مغرور وغيور، فبعد أن قدم ذلك القيصر ضيافته الملكية المعتادة لضيفه الشاعر وأتبعها بالوعد أن يساعده فيما يريده، بل وربما وعده أيضا بأن يعطيه إمارة فلسطين، استمع لبعض الهمسات التي راجت بين أرجاء القصر حول الضيف وابنة المضيف، ولم تكن سمعة امرئ القيس العاطفية القديمة إلا شاهد إثبات على الهمسات الجديدة، والتي تكفل بالترويج لها أحد ضحايا امرئ القيس وأصحاب الثأر لديه ممن أحزنهم على أهليهم في قتالاته المستمرة . ولم يفكر إمبراطور روما كثيرا قبل أن يقرر الخلاص من الشاعر بوسيلة أضافت لقبا جديدًا إلى سيرته فصار «ذا القروح»، إشارة إلى القروح التي أصيب بها عندما ارتدى ثوبًا منقوعًا بالسم أهداه القيصر لضيفه قبل رحيله، فقضى غريبًا شريدًا بعيدًا عن أرضه وأهله ووطنه ولسانه العربي، وحين قربت منيته وهو بأرض أنقرة نظر حوله فرأى قبرًا وحيدًا لامرأة غريبة، فقال معزًيا نفسه وهو يخاطب أطياف تلك المرأة التي توقع أن يكون جارها في المكان بعد قليل:
أجارتنا إن المزار قريب وإني مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا إنا غريبان هاهنا وكل غريب للغريب نسيب
ومات ليدفن في المكان ذاته، وتدفن معه أحلامه العصية في الثأر لأب أضاعه صغيرًا وكبيرًا أيضا، ربما لأن ذلك الأب لم يصدق أن ابنه شاعر - محض شاعر - لا يعرف أن يتعامل مع دسائس السياسة وإشاعاتها المتعارضة غالبًا مع روح الشعر وصعلكة الشاعر. لكن معلقته أٍرّخت لحقبة كاملة من تاريخ القصيدة العربية باعتبارها أقدم ما احتفظت به ذاكرة العرب الشعرية من قصيد باعتبارها مرجعية أولى لتقاليد المعلقة الشعرية في الوقوف على الأطلال وبكاء الديار والغزل والتشبيب ووصف الليل والخيل والطبيعة. وقد تراوحت أبياتها ما بين سبعة وسبعين بيتًا واثنين وتسعين بيتًا وفقًا للروايات المختلفة لها. وقد بلغت من الشهرة حًدا جعلها مثلاً، حتى قيل «أشهر من قفا نبك».
وتوافقًا مع هذه الشهرة، واحتفاء بها، اخترنا امرأ القيس شاعرًا لهذا العدد، واخترنا مجموعة من أبياته الخالدة لتكون رمزًا لهذا الاحتفاء بملك الشعر وضليل السياسة.
سعدية مفرح