معرفة العدو نصف الطريق إلى الانتصار عليه
سلسلة مقالات "مترابطة جدا" حول
"سايكولوجيا الشخصية الإسرائيلية"
كيف تفكر الصهيونية لتصهينَ اليهود وتُؤَسْرِلَهم؟! وكيف تواجهنا بهم يهودا تصهينوا فتأسرَلوا؟!
2 من 15
بداية عصر التنوير اليهودي وظهور "الهكسالاه"
إن للتاريخ منطقه، وللتطور رغم كل مظاهر الانكفاء والعزلة والجمود والتحجر التي مَيَّزَت اليهود عن غيرهم، سطوته القاهرة على الحركة.
فرويداً رويداً بدأت الآراء الجديدة حول حرية الإنسان من تلك التي ظهرت في أوروبا، تدخل متسللة إلى الحارات اليهودية الضيقة. وحينئذ بدأ اليهود في الجيتو يشعرون بجو "بيت همدراش"، الضيق الخانق، "وهو مركز للعبادة والدراسة في آن واحد"، وبعالم "الربانيم"، القاسي والمتزمت، "وهم الحاخامات التلموديون".
ولم يعد الكثير من اليهود يرون أيَّ معنى لبعدهم الزائد عن الشعوب التي تشربت بحب الإنسان وبالحرية، وتفجرت في كل ناحية داخل الجيتو هتافات عالية مؤداها:
"لنخرج من الجيتو"، و"لنتقرب من الشعوب"، و"لنتعلم لغاتهم"، و"لنتثقف ونتعلم الحكمة والمعرفة"..
لتبدأ حركة تثقيف عصرية بين اليهود كانت بدايتها في ألمانيا، تم التعبير عنها بما يسمى بحركة التنوير اليهودية أو "الهكسالاه"، ولقد كان هذا المصطلح هو الذي استخدمته "يهودا جيليتس"، لأول مرة عام (1832) للدلالة على عصر النهضة الثقافية اليهودية الذي استمر من عام (1750) إلى عام (1880).
ولكن ما هو جوهر دعوات عصر "الاستنارة اليهودي"؟
كم يبدو الأمر غريباً ومثيراً عندما نعلم أن غضب التنويريين اليهود "المسكيليم"، انصب بشكل خاص على الدين اليهودي بكل أبعاده الانعزالية، فقد أعلنوا غضبهم من المعبد اليهودي، لأنه كان مُشبعا بالجو القومي اليهودي. وهاجموا التراث الشفوي "التلمود"، وكتاب "شولحان عاروخ"، مُبْقين فقط على التراث المكتوب "العهد القديم/التوراة"، بعيداً عن هجومهم الشرس، وقاموا بمحو كلمات "صهيون"، و"أورشليم"، من كتاب الصلوات، وحذفوا كل الصلوات التي تدعو للعودة إلى صهيون أو لإحياء "مملكة إسرائيل"، بل إن الأمر قد وصل بالكثيرين من دعاة الاستنارة اليهودية إلى حد إنكار الدين اليهودي ذاته.
وفي معابد كثيرة مُنِعَ استخدام اللغة العبرية، واعتمدت الصلوات بالألمانية والفرنسية، كما كانت هناك محاولات لاستبدال يوم السبت بيوم الأحد.
لقد آمن دعاة الاستنارة اليهود بالعقل وبضرورة تقبل الواقع التاريخي المُتَعَيِّن، لذا فهم قد وجهوا سهام نقدهم إلى التراث القومي الديني اليهودي المغرق في الغيبية واللاتاريخية، فهاجموا فكرة "الماشيح"، "أي المسيح المُخَلِّص"، وأسطورة "العودة"، وحولوا فكرة "جبل صهيون" إلى مفهوم روحي أو إلى اسم للمدينة الفاضلة التي لا وجود لها إلا كفكرة مثالية في قلب الإنسان.
لقد أصبح الخلاص لديهم يتمثل في انتشار العقل والعدالة وليس مرهوناً بانتظار المُخَلص في عزلة عن العالم ليحمل اليهود على أجنحته إلى أرض الميعاد.
ولعل جوهر هذه الدعوة التنويرية يلتقي مع جوهر الدعوات الأوروبية في ذلك الوقت حول الإنسان وحريته وحقوقه وإنسانيته وعقليته وحياته وإخضاع مصيره لإرادته الواعية.
إذن، فقد تجلت أفكار التنوير اليهودية في عهد جديد من الدعوة إلى الاندماج في الشعوب، فقد رسم "موسى مندلسن" (1729 - 1786)، الرائد الروحي لحركة "الهاكسالاه" البرلينية، وجهة نظر جديدة في الفكر اليهودي، عندما أسدى النصح لليهود كي ينبذوا عقلية الجيتو ويندمجوا في الشعوب التي يعيشون فيها، مؤكداً على أن اليهود يمكنهم أن يكونوا مواطنين مخلصين للوطن الذي يعيشون فيه.
ولقد طور اليهودي التنويري "يهودا ليف جوردن" (1830 - 1892) هذا الفكر معبرا عنه بمقولته الشهيرة التي وجهها إلى كل اليهود:
"كن يهودياً في بيتك وإنساناً خارج بيتك".
ولكن بالرغم من نجاح حركة التنوير إلى حد كبير في تحقيق أهدافها في غرب أوروبا، فإنها جوبهت بمقاومة شديدة في شرق أوروبا التي كانت أسوار الجيتو فيها أكثر سماكة، وكانت قوى معارضة التغيير فيها أكثر شراسة.
ولقد عبر عن هذه الثنائية القطبية المتنافرة في التوجه والتفكير لدى يهود أوروبا، المؤرخ اليهودي "ديفيد ونتز" قائلاً:
"لقد كان هناك بديلان لوضع اليهود، فقد رأى اليهود في غرب أوروبا أن الحل يكمن في تساوي الحقوق مع باقي المواطنين، أما اليهود في شرق أوروبا فقد تطلعوا إلى النموذج القومي، معتبرين أن من الممكن صياغة قدرهم داخل إطار أمة مستقلة لا تعتمد إلا عليهم".
ولقد كان هذا المؤرخ يعتبر "أن فكرة أن اليهود يمثلون أمة هي فكرة بغيضة، فهم لا يشتركون إلا في الدين".
وفي ظل هذا التجاذب الشديد بين رجعية يهودية تحاول الإبقاء على الوضع على ما هو عليه فكرياً ومعتقدياً داخل الجيتو انتظارا لمسيح مُخلص، يحقق انتظاره الأبدي مصالح طبقية لطبقة من اليهود أفرزتها ضرورات العزلة الجيتوية، وبين تقدمية يهودية تنويرية راحت تفعل ما تستطيع لتحول اليهودي إلى إنسان قابل للاندماج في المجتمعات الأوربية..
نقول: في ظل هذا التجاذب، حصلت منطقة فراغ هائلة لم يتمكن أحد من ملئها وردم الهوة التي أنشأتها سوى الحركة الصهيونية، فقلبت وجهة التنوير اليهودية رأساً على عقب بعد أن ساندها الاستعمار الأوربي وحقنها بمقومات الاندفاع لتحقيق أغراضها التي كانت أولاً وقبل كل شيء أغراضَه هو.