المسافة بين الله وميكافيللي..
هذه خاطرة أرجو ألا يسألني أحد عن كيفية تكونها في داخلي، ولا عن كيفية تدفقها من قلمي، لأني لا أعرف بخصوصها إلا أمرا واحدا، هو أن الألم الإنساني المزلزل وحده، هو الذي جعلها تنزف مني، بعد أن تخيلت نفسي مكان هؤلاء الذين يموتون ويموت أحباؤهم كل يوم، وكل ساعة "أبناؤهم، أمهاتهم، آباؤهم، أصدقاؤهم، جيرانهم، أزواجهم"، في أيِّ مكان على سطح هذا الكوكب، دون أن يعرفوا لماذا يجب أن يقبلوا فكرة أنهم وقود حتمي وضحايا ضروريون لحسم صراع لا يفهمونه..
إن المسافة التي تفصل بين التعنيف الذي انطوت عليه عبارة النبي "محمد بن عبد الله" الموجهة إلى "أسامة بن زيد" عندما قَتَلَ (بفتح القاف) في معركة مع الأعداء، بالشك والظن، عدوا نطق بالشهادتين، والسيف يهوي على رقبته، فسمع من نبيه ما تمنى لو أن الأرض انشقت وابتلعته قبل أن يسمعه منه وهو يردده بذلك القدر من الإدانة والتقريع: "هلا شققت عن قلبه يا أسامه، كي تعرف إن كان قالها أم لا"، وبين ما يتردد صباح مساء على ألسنة براجماتيي السياسة المعاصرين ببرودِ الشياطين: "إن لكل حرب ضحاياها من الأبرياء".. هي ذاتُها المسافة التي تفصل بين الله وميكافيللي..
إن أول مكوِّن من مكونات البوصلة الأخلاقية لأيِّ حرب، لأيِّ صراع، لأيِّ مواجهة، لأيِّ معركة، هو الموقف من الدم المراق..
فعندما يتجسَّد الخلاف، أيُّ خلاف، وعندما ينزلق الصراع، أيُّ صراع، إلى حمامات الدم، أيا كان السبب، وتحت أيِّ ذريعة، وبأيِّ طريقة، وكائنا من كان صاحبُ الدم المُراق، وصاحب السلاح المُريق، فإن أيَّ حجة يقدمها من يريد تبرير موقفه، أيا كان هذا الموقف، تفقد قيمتَها الأخلاقية والحقوقية، ونكون بصدد شياطين تتحدث وتتحاور لتبرر قوتَها الذي تغتذي به، ألا وهو ذلك الدم المراق..
في ظل التنافس المحموم على اصطياد الحجج، إما لتبرير إراقة الدماء، وإما لتسبيبها، وإما للتنصل من مسؤوليتها، يتناسى الجميع، أن الأم التي تنازع الثَّكل وهو يطرق باب قلبها، وأن الزوجة التي تقاوم الترمُّل الذي تسمعُ صوتَ عويله خارج بيتها، وأن الطفل الذي يحاصره اليُتم وهو يحبو في غرفته منتظرا حليب أمه، وأن الجريح الذي يحاصره جرح نازف يقترب به من لحظة الموت، تمثل الحياة بالنسبة لهم "مركز الكون"، وليسوا مطالبين بأن يفهموا أو يتفهموا أو يقبلوا أو يتقبلوا أيَّ تفسير أو تبرير أو تسبيب لنزيف دم يخطف منهم ومن أحبائهم ومن ذويهم حياةً يرون الحفاظ عليها حقا مشروعا على كل البشر أن يكفلوه لهم، لأنه يساوي بالنسبة لهم الكون، كلَّ الكون، ماداموا يرونه يراق ظلما ودون أن يستحقوا إراقته من أجسادهم، ودون أن يفهموا لتلك الإراقة سببا..
عندما يصبح همّ السياسي هو فقط أن يدافع عن نفسه كي يبرئها من تحمل مسؤولية دمٍ يراق بلا حساب في صراعٍ ما، بدل أن يفعل المستحيل كي يوقفَ موت من يجب ألا يموتوا، حتى لو كان ذلك على حساب نفسه وعلى حساب ما يتصوره حقا له، فهو دجالٌ ينتحل السياسة، حتى لو كان نبيا مرسلا. فمن لا تكون رسالته في الحياة، حماية الدم من أن يتدفق إلى خارج مأواه الطبيعي بالدرجة الأولى، فهو لا يحمل رسالة، بل يمثل الشيطان..
وعندما يتحول السياسي إلى باحثٍ عن دمٍ جديدٍ يراق هنا أو هناك، في هذا الخندق أو في ذاك – لا يهم – ليستعطف ويُشرعنَ موقفه، فإنه قاتل محترف يغطي سيفه بوردة كي تلجأ إليه الضحية فيقتلها على حين غرَّة، وهو بالتالي ومرة أخرى ممثلٌ للشيطان..
وعندما تتحول طموحات السياسي إلى أحلام أكبر من دماء الناس الذين يدعي أنه حَلُمَ لأجلهم، ولأجل مستقبلهم وراحتهم، فيسترخص تلك الدماء في سياق تحقيق أحلامٍ يريد إقناع العالم بأنه يريق لأجلها دماء من هم موضوعُها، ليس سياسيا ولا إنسانا، بل هو جندي من جنود الشيطان تمَّ اختياره ليطحن تحت دواليب أمراضه وعقده "القيمَ الإنسانية" بكل معانيها..
إن السياسي الذي لا يفهم ولا يدرك ولا هو مستعد لأن يتصور أن "الدم البشري" هو الشيء الوحيد الذي لا نملك حق نقله من مكانه محكم الإغلاق إلى مكان آخر مهما كان السبب، وأنه لا يمكن قبول مغادرته لذلك المكان إلا رغما عنا ودون أن نخطط له، بل ومن قلب التخطيط لعدم مغادرته لمكانه الطبيعي، هو مرة رابعة شيطان، ولا شيء غير الشيطان..
وبين سياسة تجعل الدمَ مقدسا هدفها حمايته تحت كل الظروف، وأخرى تجعله أداة تحقق به مبتغاها أيا كانت الظروف، تمتد المسافة لتصبحَ في امتداد تلك التي تفصل بين "الله" خالق الدم وحافظه في الجسد، و"ميكافيللي" وكل سوابقه وكل لواحقه، ممن برروا إراقة الدم مادامت تخدم إرادة السياسي وتحقق مشاريعه التي اعتبروها رباًّ خُلِقَ الدم ليُقدَّم على الدوام قربانا لها..