"أنا من اليهود" شظايا القهر الثقافي
...محمد عبّود



احترت كثيراً في نقل قصة "أنا من اليهود" إلي اللغة العربية. القصة بديعة، ومهمة، وفي ظننا أنها خطيرة أيضا، من حيث ما تقدمه من ممكنات لفهم الواقع الإسرائيلي المعاصر. ناهيك عن فوزها بجائزة "أحسن قصة قصيرة في "إسرائيل" لعام 2005"، تلك الجائزة التي تمنحها صحيفة هآارتس كبري دور النشر الإسرائيلية، والتي تحظي، وتحظي جوائزها باحترام النخبة المثقفة في "إسرائيل".

احترت رغم أن المؤلف اختار عنوانا باللغة العربية، لقصته العبرية، "أنا من اليهود"، ورغم أن القصاص الإسرائيلي "ألموج بهر" (35 سنة) حظي باعتراف جمعي في "إسرائيل"، وصار نجماً في سماء الثقافة هناك، ومن أبرز كتاب هآارتس نفسها تلك الصحيفة العصية علي الأقلام،إلا إذا كانت موهوبة بحق.

وزاد قلقي من أن نتناول معطيات القصة التي تناقش إشكالية هوية اليهود الذين "هاجروا" لإسرائيل قادمين من الدول العربية بمنطق معنا أم علينا؟ لما تنطوي عليه القصة من طاقات تأويل متعددة، وهو منطق تبسيطي كفيل بأن يحول هذا القاص العبري إلي شيطان رجيم، أو يحوله إلي صديق ونصير الثقافة العربية. لمجرد أنه أشار إلي قمع الدولة الإسرائيلية والموقفين يجانبهما الصواب حتما.


لكن بتشجيع من أصدقاء أعزاء، وثقة في أهمية القصة، ومقدار الوعي المتراكم عن الأدب العبري بجهود أساتذة أجلاء مثل د. رشاد الشامي أستاذ الأدب العبري بجامعة عين شمس، قررت أن أنقل هذه القصة المهمة والملهمة للقارئ العربي، مزودة بدراسة عنها، أرجو أن تكون بمثابة إضاءة للنص الذي ينطوي علي قدر من الخصوصيات الثقافية، التي تميز المجتمع الإسرائيلي. وهو مجتمع هجرة يحتضن جماعات سكانية من مشارب، وثقافات متعددة، أخضعوا منذ عام 48 لسياسة "بوتقة الصهر" التي سعت بكل قوة لدمجهم قسريا في نسيج ثقافي - اجتماعي واحد علي مدي أكثر من نصف قرن (كل ذلك لكي ننتج كلنا نغمة واحدة، صداها مبحوح، وننتحل لغة أخرى غير موجودة- أنا من اليهود). وتأتي هذه القصة التي حظيت باعتراف رسمي إسرائيلي لتفضح هذه السياسة، وتتمرد عليها، وتقدم بُعداً أدبياً لحركات احتجاج سياسي أسسها اليهود النازحون من الدول العربية مثل حركة الفهود السود في الـ80، ومظاهرات ضد التمييز الاجتماعي لصالح اليهود الأوربيين في "وادي صليب" التي رفعت شعار "إشك- نازي" في إتهام صريح للإشكناز بالنازية، والتعامل الفوقي مع اليهود الشرقيين مواطني الدرجة الثانية في إسرائيل. والآن إلى قصة "أنا من اليهود".



***

أن تقص، أو تحكي، يعني أن لديك "خبراً" يهم الآخر -كما يهمك- أن تنقله إليه، ولأن أهمية هذا الخبر محض افتراض في ذهنك أنت، وقد يكون بال الآخر فارغاً منه، فلابد من أن ينطوي قصك الخبر علي سمات خاصة به، تعمل كضامنة لإيجاد تلك الأهمية. وكلما تداخلت سمات القص الأدبي، وإعلام الخبر إلي حد الالتباس الماهوي بينهما، وانعدمت أي إمكانية لتمييز أحدهما من الآخر، هنا نكون أمام "أدبية" القص. وقد عرف الإنسان "القص" منذ دخل في علاقة اجتماعية مع الآخرين، ومن ثم كان القص بمفهومه العام متغلغلاً في لحمة النسيج الاجتماعي، وبفضله انتقلت المعارف والخبرات، والأخبار من جيل إلي آخر.


وليس هناك شك في أن الأدب يشكل واحداً من أهم السجلات المعرفية التي يمكن الاستناد إليها في استقاء المعلومات عن التكوينات الباطنة في مجتمع من المجتمعات، والتي يصعب في كثير من الأحيان رصدها عبر سائر المصادر المعرفية المباشرة من كتابات سياسية واجتماعية وفلسفية، وما شاكلها.وذلك لأن الأديب بوصفه فنانا أي كائنا ذا حساسية شعورية خاصة .. مؤهل بهذه الحساسية لالتقاط خفايا الحركة الباطنة من محيط المجتمع، وتسمع نبضاتها الهامسة عبر آذان رادارية، وعين مجهرية. الأمر الذي يوفر للعمل الأدبي ثراء وفيراً من الحقائق والمعلومات التي يمكن للباحثين التقاطها وجمعها وتنسيقها وربطها بمعارفهم السابقة عن الواقع الاجتماعي موضوع العمل الأدبي، ومحل البحث. ولكل هذه الأسباب، ولغيرها يمكننا الاعتماد علي قصة "أنا من اليهود" في كشف أحد الجوانب الخطيرة في المجتمع الإسرائيلي، متمثلاً في إشكالية الهوية التي تهدد بتفجير صراعات وتمردات علي محاولات تسييد ثقافة معينة في هذا المجتمع علي حساب ثقافات فرعية أخري (subcultures).


- تدور القصة باختصار شديد حول شخص "يهودي شرقي" من أبناء الجيل الثالث أو الرابع، أي أنه لم يتعلم اللغة العربية في القاهرة، ولا صنعاء ولا "بغداد" التي تعود جذوره إليها. اندمج آباؤه وأجداده في المجتمع الإسرائيلي الذي تحتل فيها ثقافة اليهود الأوربيين المرتبة الأولي، وتعرف بالثقافة الاشكنازية أو الغربية. فقد كان لقاء المهاجرين القادمين من بلاد الشرق إلى المجتمع الإسرائيلي لقاء صدمة. فقد تكشف لهم فجأة أن ثقافتهم اليهودية الأصيلة بدلا من أن تكون جسرا، شكلت حاجزا بينهم وبين المجتمع الجديد. فهي تثير الاحتقار والعداء، كما أن حاملي هذه الثقافة يوصفون بأنهم أقل شأنا وغرباء على المجتمع الجديد. فظهر لديهم ما عرف بـ "أزمة هوية".


غير أن هذا الشخص ذو الملامح الشرقية، كان يسير في الشارع، عندما بدأ يشعر بشعور غريب، لقد انقلب لسانه تجاه الحلق، وتغير نطقه للكلمات، وصار ينطق العبرية، بلهجة عراقية، وهي كارثة عظيمة، خاصة أن ملامحه تثير ارتياب رجال الشرطة، فهو دائما في نظرهم فلسطيني في طريقه لتنفيذ عملية "إرهابية"، فما بالك بطريقة نطقه التي تغيرت فجأة، لتصبح أقرب ما تكون لطريقة نطق جده أنور (عليه السلام). ذلك اليهودي العراقي الذي قدم لإسرائيل محملا بثقافة عربية إسلامية نهل منها في بغداد، لكنه اكتشف أن الثقافة العربية عملة غير قابلة للصرف في "إسرائيل". وكما يقول العالم الإيطالي الشهير جرامشي:"الثقافة السائدة هي ثقافة الطبقة السائدة". لذلك فضلت "إسرائيل" تسييد الثقافة الأوربية، فالدولة الناشئة في المنطقة بعد 48 تعتبر نفسها طليعة الحضارة الغربية. ولا تريد أن تكون نقطة عربية تذوب بسهولة في محيط عربي أوسع، ومن ثم أصبح من الضروري أن يتخلص "اليهود الشرقيون" من الثقافة العربية التي حملوها معهم إلى "إسرائيل" لكي يتمكنوا من الاندماج في المجتمع.


وكان القرار الرسمي إتباع ما يسمي بسياسة "بوتقة الصهر" دمج المجتمع كله في نسيج واحد. وأبرز تجليات هذا النسيج هو اللغة، وطرق النطق، لا يصح أن تكون هناك طرق نطق بولندية، ومجرية، وأوكرانية، وبلجيكية، وعراقية، ومصرية، ومغربية، وإلا أصبح المجتمع على حافة الانهيار.



وإذا كان اليهود القادمون من الدول العربية يمتلكون جهاز نطق قادرا علي أداء الحروف الحلقية (ع. ح. أ. هـ.) بعكس اليهود الغربيين، فإن الغرب أحق أن يتبع، ومن لا ينطق العين همزة مخففة، ومن لا ينطق حرف الخاء بديلا عن حرف الحاء صعب النطق، فليتحمل السخرية، ونظرات الاحتقار، وربما التضييق في مصادر الرزق (أمي فعلت ذلك في صباها، تفاديا لغضب المدرسين ونظرات التلاميذ الساخرة).

قد يندهش القارئ العربي، والمصري خصوصا من أن تكون طريقة النطق معيارا للكفاءة والكفاية الاجتماعية، لكن الواقع أن العلاقة بين اللغة والهوية في "إسرائيل" كانت ومازالت واحدة من مظاهر القهر، والتمييز الثقافي الذي تجاوب معه اليهود المهاجرون من الدول العربية في البداية، فما أن يفتح اليهود الشرقي فمه حتى ينكشف المستور. لكن الجدير بالملاحظة أن أبناء الجيل الثالث والرابع رفعوا لواء التمرد، وجاهروا برغبتهم في الحفاظ علي خصوصيتهم الثقافية، وقد فجرت هذه الرغبة جدلاً واسعاً في الساحة الثقافية والفكرية الإسرائيلية منذ سنوات حول هوية "اليهود" القادمين من الدول العربية. هل هم يهود شرقيين، أم يهود سفاراديم أم "اليهود العرب" نسبة إلي الدول التي قدموا منها؟!


اليهود العرب

بداية من المهم أن نعرف أن علماء الاجتماع يقسمون المجتمع الإسرائيلي إلي يهود غربيين مواطنون من الدرجة الأولي، ويهود شرقيين (سفاراديم) مواطنون من الدرجة الثانية ومصطلح اليهود الشرقيين يوضع في مقابل اليهود القادمون من الغرب (أوروبا) أما اليهود السفاراديم، فنسبة إلي يهود الأندلس في القرون الوسطي الذين انتشروا بعد ذلك في الدول العربية.



وقد أثار مصطلح "اليهود العرب" ضجة هائلة في الساحة الثقافية العبرية، خاصة أن تياراً نخبوياً من "اليهود الشرقيين"، وبخاصة العراقيين، بدأ يكرس لهذه الفكرة. فكتب عالم الاجتماع "الإسرائيلي" يهودا شنهاف، (وهو أيضا من أصول عراقية) كتاباً بعنوان "اليهود العرب"، يرفض فيه جميع التسميات السابقة، ويصل فيه لنتيجة مفادها أن مصطلح "اليهود الشرقيين" مرفوض جملة وتفصيلاً لأن اليهود القادمين من مصر أو العراق أو المغرب أو اليمن أو تونس أو ليبيا أو غيرها من الدول هم أصحاب ثقافة عربية محضة. كما أن مصطلح "اليهود الشرقيين" غير دقيق لا اجتماعيا ولا جغرافيا، فهم شرقيون بالنسبة لأي بقعة جغرافية، فلسطين لا تقع شرق اليمن، ولا شرق مصر، ولا شرق العراق.


ويصل "يهودا شنهاف" إلي أن اليهود القادمين من الدول العربية ورثوا عاداتهم وتقاليدهم من الحضارة العربية والإسلامية، فكتبوا أدبا باللغة العربية، ومنهم من حفظ القرآن، والشعر العربي، ومنهم من حمل أسماء عربية خالصة، وظلت ثقافتهم عربية حتى في أبسط تجلياتها. فاليهود المغاربة يمارسون السحر والشعوذة، ويقبلون علي زيارة الأضرحة، ويتناولون الأطعمة المغربية. ويهود العراق ثقافتهم مازالت بابلية، ومنهم أدباء كتبوا بالعربية مثل شمعون بلاس، وسامي ميخائيل، وسمير نقاش الذي توفي مؤخراً.



وقد افرز النقاش العام في "إسرائيل" حول هوية اليهود القادمون من الدول العربية، علي الصعيد الثقافي حركة القوس الشرقي التي تنادي بجميع الأفكار السابقة، وعلي الصعيد السياسي أفرز أحزاب، وحركات احتجاج سياسي، وعلي الصعيد الفني أفلام روائية ووثائقية تسجل معاناة هذه الشريحة الاجتماعية.لكن علي الصعيد الأدبي أفرز هذا النقاش العام قصة بديعة حظيت باعتراف جمعي عندما فازت بجائزة صحيفة هآارتس التي تتمتع باحترام عريض من النخبة الإسرائيلية.



حيلة أدبية
- يستخدم مؤلف القصة ألموج بهر حيلة أدبية مشهورة، سبق أن استخدمها "سارماجوا" في "بحث حول العمي" 1995، ففي هذه القصة الإسرائيلية يفقد البطل قدرته علي النطق، ولكنه لا يصاب بالخرس، فهو فقط يفقد لكنته الإسرائيلية، ويشرع في الحديث بلكنة عراقية، كان يتحدث بها جده، وتتسبب هذه العودة إلي الجذور في زيادة شعوره بالتهميش (هامشيته).

- يشك اليهود في كونه عربيا (يعتقله رجال الشرطة مراراً وتكراراً)، ويتنكر له العرب، أما زوجته فتصاب بعدوي طريقة النطق القديمة، لكن لأن أبيها من اليمن، وأمها من تركيا، فتختلط علي شفاها اليمنية بالتركية. وتنجح هذه الحيلة الأدبية البسيطة في فضح مؤسسة القمع الإسرائيلية ممثلة في (الشرطة، وهيئة الإذاعة) التي تراه عربيا، في الوقت الذي يراه العرب (وجهاء فلسطين قبل 48) مجرد يهودي، غريب في بلادهم. وتحول لشخص "ثقافته العربية" هي العدو اللدود "لقوميته اليهودية".

وتتطور القصة، التي تفتقر لعنصر الحبكة، لكنها تقوم علي "الموقف" المتدفق والمتصاعد. ويصل الموقف إلي ذروته بأن تتحول العدوى إلي "وباء" يقتنص إسرائيليين آخرين، يعودون للحديث بلكنات آباءهم وأجدادهم، ولا يتوقف الأمر علي اليهود الشرقيين، بل تصل العدوي لليهود الإشكناز. وتبدأ الثقافات الفرعية (subcultures) في التمرد علي الثقافة السائدة، وتشق عصا الطاعة علي المؤسسة الإسرائيلية التي تبذل أقصي جهد ممكن باستخدام أدواتها (الشرطة - الإذاعة - التجسس علي بطل القصة مصدر العدوى).

لكن يتضح فجأة أن الأمر ليس ثورة اجتماعية، لكنها الزيارة الأخيرة التي تقوم بها الصحة قبل الوفاة، أنها "حلاوة الروح" والسبب ليس مثيراً، وهذا ما يجعله أكثر قوة أدبية. لقد نجحت السلطات في إيقاف الطوفان، وهدم برج بابل قبل بناءه، بالتأكيد علي اللغة العبرية السليمة كشرط للحصول علي عمل ومصدر رزق، وبذلك حاصرت الثقافة العربية وهو ما حدث في الواقع بالفعل عندما احتل الاشكناز المناصب القيادية المهمة، وتركوا للشرقيين الوظائف الحقيرة.


وعلى الرغم من ذلك لا يبدو الراوي مستعداً للعودة إلي لكنته السابقة، التي بذل والداه جهداً مضنياً ليكتسبوها، هم وآبناؤهم. وبناء علي نصيحة جده الذي يتجلي له بصوته فقط، يختار الصمت، ليؤكد أن هذا الصمت لا يشعر من حوله بالأمن، فيقتادوه إلي المعتقل مرة أخري. وإذا كان الصمت ليس حلا، فربما تقوم الكتابة بهذا الدور. (ها أنا اكتب قصائد احتجاجية ضد العبرية باللغة العبرية).

فاعلية العنوان

اختار الأديب ألموج بهر أن يصك عنوان قصته باللغة العربية، وهو اختيار صادم للقارئ العبري لا محالة، لكنه اختيار موفق أدبيا إلي أبعد الحدود كما أنه معبر للغاية عن توجه القصة. فغني عن البيان أن للعنوان دور مهم في سيميوطيقا الاتصال الأدبي. وهو بهذا المعني ليس زائدة لغوية للعمل، ولا هو عنصر من عناصره انتزع من سياقه ليحيل إلي العمل كله، وإن كان كذلك في حالات متعددة. ونحن في غني عن التأكيد علي أن كاتب / مرسل العمل يعطي عنوان قصته نفس ما أعطاه للعمل من عناية، واهتمام. بل ربما كانت "عنونة" العمل أكثر مما نظن إشكالا، فمقاصد "المرسل" منها تختلف جذريا عن مقاصده من عمله، وتتنازعها عوامل أدبية، وأخري براجماتية، وربما أضفنا العامل الاقتصادي (التسويقي). وهكذا تتعقد وظائف العنوان، وتتعدد، ونكون أمام إشكاله الرئيسي وخاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار تمتعه بأولية التلقي. فلا شك أن فاعلية القارئ (المتلقي) تنصب أول ما تنصب علي العنوان الذي يمثل أعلي اقتصاد لغوي ممكن، وهذه الصفة علي قدر كبير من الأهمية، إذ أنها في المقابل ستفترض أعلي فاعلية تلق ممكنة، باعتباره مرتكز التأويل رقم (1).



إذن لقد أراد "ألموج بهر" أن يودع في العنوان أعلى إنتاجية دلالية قادرة علي توريط المتلقي في العمل الأدبي، وقد نجح في ذلك إلى أبعد مدى، خاصة أن العنوان مصاغ بلغة عربية يفهمها القارئ العبري نتيجة التقارب الشديد بين اللغتين سواء في ضمير المتكلم (أنا) العربي، و(إنِي) العبري، وتطابق حرف الجر (من)، والتناظر الملحوظ بين مفردة (هايهوديم) العبرية، و(اليهود) العربية. أضف إلي ذلك أن الكاتب / المرسل "يهودي شرقي" أو "يهودي عربي" مشكوك دائما في ولائه، وظل في خانة الطابور الخامس فترة طويلة بسبب ملامحه الشرقية، وثقافته العربية.والأهم من ذلك المفارقة الأدبية في العنوان، والصدمة التي سيخلفها في ذهن القارئ الإسرائيلي الذي يسمع دائما في بعض المظاهرات الفلسطينية الشعار الأشهر (اذبح اليهود). والذي ينقل للعبرية كما هو دون ترجمة حتى دخل في صميم مفردات اللغة.



- حاول الأديب على صعيد البناء اللغوي أن يطابق بين واقع حال بطل القصة وراويها الذي انقلب لسانه، فصار معقوداً، وبين مستوي الكتابة وطبيعة اللغة المسكوبة علي الأوراق، وقارئ القصة بالعبرية يدرك ذلك بسهولة، اللغة متلعثمة..متناثرة، والكاتب يلجأ أحيانا إلي جمل تقترب من تركيب الجملة العربية ليقترب الشكل من المضمون في هذا العمل الأدبي المتكامل (بحلول شهر تموز...).



تبدو ملامح السخرية قوية في القصة من الثقافة السائدة، أو الثقافة الاشكنازية، وأحفاد اليهود الغربيين المتنفذين في "إسرائيل"، ويتغطرسون بثقافتهم، ومع ذلك يقعون أسرى الثقافة الأمريكية الأرقى من وجهة نظرهم، والنموذج الذي يجب احتذائه (إيقاع التغيير عندهم سيسير ببطء، لأن أولادهم المتغطرسين يظنون أن لكنات آباءهم وأجدادهم كانت في الأصل أمريكية!!). وكذلك السخرية من رجال الشرطة القساة الغلاظ علي يهودي شرقي مثلهم، رغم أن هذه المهنة"الحقيرة" في "إسرائيل" والتي لا يقبل عليها الإشكناز بسبب مخاطر العمليات الفدائية، يحتلها اليهود الشرقيون. والمفارقة أن الشرطي الشرقي يقمع المواطن الشرقي!


- تخلو القصة من الحبكة، ولكنها تقوم علي الموقف الدرامي المتصاعد الفائض بالتفاصيل التي تخدم علي الفكرة الرئيسية، ومع ذلك لا تفتقر القصة لجمال اللغة، وشعرية الأسلوب وهو ما يكسبها صفة الأدبية، ويخرج بها عن إطار المقال الاحتجاجي، خاصة وأن سائر عناصر القصة القصيرة كالزمان والمكان والشخصيات متوفرة بها بشكل جلي.
- تحتفل "إسرائيل" هذا الشهر بالذكرى 58 لتأسيسها، وتأتي هذه القصة لتشكل صرخة احتجاج عاصفة ضد سياسة "بوتقة الصهر". ومن المفيد أن نعلم أن "يهودا شنهاف" يرصد في الفصل الأخير من كتابه "اليهود العرب" ما يسميه: "وقائع عملية "تطهير اليهودي العربي من عروبته"! موضحا أن اللقاء بين الصهيونية وبين اليهود العرب تميز منذ بدايته ( أو منذ نقطة الصفر، إذا ما اقترضنا اصطلاحاته) بتداخل المنطقين القومي والكولونيالي فيه. ومن أجل شمل اليهود العرب في "المشروع القومي" ( على المقاس الصهيوني الحصري) كان على هؤلاء المرور في سيرورة إلغاء لعروبتهم أو حسب تسمية المؤلف كان عليهم التعرّض لعملية "تطهير اليهودي العربي من عروبته". صحيح أن هذا الإلغاء أو التطهير جرى تبريره، من طرف الصهاينة أنفسهم، بأحاديث عن العصرنة والتقدم (بالنسبة لهؤلاء اليهود)، لكن الذي هدّد القومية الصهيونية لم يكن "تخلف" أو "تقاليد" اليهود العرب وإنما عروبتهم المشدّد عليها من قبلهم هم أنفسهم كما يقول "شنهاف". فقد هدد الماضي العربي ليهود الشرق بمسّ وحدة الصف الإسرائيلية المتجانسة ظاهريًا وأن يموّه الخط الفاصل الضروري (سياسيًا) بين اليهود والعرب. وفي هذا الشأن ردّد بن جوريون المقولة التالية: "نحن لا نريد بأن يكون الإسرائيليون عربًا. يتوجب علينا أن نكافح روح الشرق التي تخرب أفرادًا ومجتمعات".



- تؤكد القصة علي أن أسلوب التعامل الفوقي والعنيف الذي يسلب الهوية، هو السبب الرئيسي لتوالد الأحزمة الناسفة، التي تنشأ في العقول والقلوب أولاً، وقد لا يكون هذا دافع للمبالغة بالقول أن الأديب يدافع عن العمليات الاستشهادية، ولكنه درس ينبغي تأمله والوقوف أمامه، والدرس هنا موجه للقارئ العبري المستهدف بالعمل الأدبي، ويجره للتفكير في الممارسات العنيفة التي يقوم بها جنود الاحتلال ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع وداخل الخط الأخضر.


- تعد القصة صرخة متأخرة ضد القهر الثقافي والاجتماعي الذي يمارسه الإشكناز ضد السفارديم، بذريعة أنهم قادمون من بلاد عربية "متخلفة" وبالتالي لا يحق لهم تولي المناصب القيادية. وإن أرادوا الحصول علي تذكرة الدخول في الهوية "الإسرائيلية" عليهم احتذاء الثقافة الإشكنازية، وأبرز تجلياتها طريقة نطق اللغة العبرية، "اليهود العرب" ينطقون الحاء، والعين، والصاد، والإشكناز لا يستطيعون إلي ذلك سبيلاً، والحل علي الترتيب نطق الخاء، والهمزة المخففة، والسين، وتخفيف القاف إلي كاف. ومن ثم من لا يفعل ذلك يصبح سفارادي متخلف.وعلي ذلك فهذه القصة صرخة ضد سياسة بوتقة الصهر التي انتهجتها "إسرائيل" منذ تأسيسها، لإفراز نسيج اجتماعي واحد منسجم وبعد 58 سنة تثبت هذه السياسة فشلها ويستفيق المارد الشرقي، والروسي، والإثيوبي، وهناك نبوءات حول يقظة بطيئة داخل الثقافات الإشكنازية الفرعية.


- يدس الأديب في قصته مفردات ذات دلالة قوية، فعند تحديد زمن القصة يستخدم شهر تموز هو الشهر الرابع في السنة العبرية، وقد جلب يهود العراق هذا الاسم معهم من بابل في القرن الخامس ق.م، ويرجع هذا الاسم إلي الإله البابلي القديم "تموز"..رب الخصب والنماء الذي يموت وقت الحصاد كل عام ويبعث مع الربيع. وذكر الإله تموز في العهد القديم بسفر حزقيال ..(جلست النساء يبكيين تموز). حزقيال 8:14


______________________
*مترجم وباحث في الشئون الإسرائيلية
aboud13@hotmail.com

عن واتا-أبوبكر خلاف
سفير واتا في مصر

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي