تقفز للذهن من خلال العنوان رواية الروائي الكبير: واسيني الأعرج، : سيرة المنتهى، وتحتها: عشتها كما اشتهتني[1]، وعبارة اشتهتني، توحي بأن الحياة لم نعشها كما تمنينا, لكن عنوان كتابنا هنا:
مدن تشبهني، فأنا في رحلة البحث عن ذاتي..، فتظهر هكذا عناوين مدى لرغبة بالدفء بالافتقاد، بالوصول إلى اللا وصول، وهذا ديدن الطموحين الذين يحملون أمانيهم في جناحهم .
***********
رأيته يوما وقبل 5 سنوات خارجا من اتحاد الكتاب العرب...وكان لوقع كلماته في روحي وحي غريب يصيب الهدف دوما:
-نعم أنا أقرأ لك كل ما تكتبينه في موقعك...
كنت حينها أمسك قلم النقد الاجتماعي لأذيل معظم ما أكتب.. فلربما أصاب سهمي من لا يستحق ذلك...
كنت تواقة للحصول على ديوان من دواوينه، لأحصل عليه من الأستاذ جهاد الشريف، في إحدى الامسيات الثقافية[2].
اعتبرته غنيمة صراحة، ورأيت فيه جراحات الشاعر الكبير الراحل: عبد الكريم عبد الرحيم..
جراحات أكبر منه حتما،وقد تراوح الديوان ما بين نثر وتفعيلي وعمودي، فألقيت عليه نظرة سريعة، جعلتني أتفهمه جيدا لغزارة ماأقرأ دوما:
هو عبارة عن شيفرة مواطن فلسطيني عربي حميم، يعتبر كل الوطن العربي وطنه، لكن جراحه لم تلتئم أبدا.. لذا كانت عناوين قصائده مدماه.. هكذا رأيتها.. تنزف دما وحريقا...
هو ديوان متوسط الحجم ، يحمل في غلافه صورة من القدس، طبع عام 2011 وهو من طباعة اتحاد الكتاب الفلسطينيين.
نقتبس بعض ما جاء فيه :
توكأت على ذاتي الهتون: ص 3
احملي صوتي إلى أوردة الماء
أبي يورق كالنجمة
يرخي الستر
يصطاد عصافير أغانيه من المرأة والطين
يطفئ المرآة كي لا يتجلى من غبار الدهر مرآه الحزين...
....
نرى أن شيفرة تمر في عباب القصيدة ،فهو الكريم المعطاء..(هتون) صوته المخنوق يريد أن يصل لأقصى مدار...ويذكر والده...يتذكر أغاني الطفولة...البيئة الأولى.. ونرى كلمات تتناوب: مرأة مرآة.. مرآه...
وكأن شيفرة تكتب بحرف قصيدة..وتبوح عن حطاية طويلة طويلة..
وتكاد تهزمني القصيدة:
عنوان لقصيدة تعطي أبعاد شخصية رقيقة ولا نقول كسيرة، بل شفافة وصادقة البوح.
نتكلم من جديد هذه القصيدة عن محبته لدمشق حبا أسيرا:
هذا الطريق يكاد يأخذني إليّ
أرى فروعي سبعة
وسحابة للياسمين فضاؤها
تحنو عليّ
وتستشير سذاجة الكلمات في وجد الغريب
أبصر سماء الفتح
تهطل فوق أضلاع المدينة عاشقا...
************
وتتالى القصائد يبوح عنوانها بصدق: مثال:
وهم إذن- شهيد-حب-أغصاني مئذنة الماء...بكت صفد
مخاوف المدن والقصائد..
الخروج من معطف الليل..
و ما يلفت النظر تقسيم الديوان حسب المواضيع التالية وهو تقيسم متفرد:
مدينة المدائن
مرايا مدن مقفلة
شجن المدينة
في المدن الغريبة
حضور المدن الغائبة.
**********
ونقرأ في قسم حضور المدن الغائبة:
قصيدة بشطرين[3]:
موالان في حضرة البحر:
يا بحر يا أبيض.. النايات في رئتي
سافر إلى مدني يا بحر واضطرم
كم زروق بدم البحّار مغتسل
يطفو كأرصفة العشاق في الحلم
باب المدينة قوس الروح مبتهج
مسحت عنه غبار الصمت والندم.
كأننا جزرٌ يا بحر ما التأمت
أو أننا مدن شاخت من الألم..
في هذا النمط المنظوم تتجلى صور جديدة ،لكنها لا تستفز عاطفتك بقوة فالعاطفة عقلانية هادئة رغم ثوران الموضوع تتجلى بالألفاظ:
أبيض-بحر-زورق- مغتسل
وتلك من الألفاظ الباردة الهادئة التي لا تناسب ربما الغرض الشعري.
ويبقى إبداع من نوع خاص، يقدم ذاتا عربية متفردة، قدمت للمواهب الجديدة خدماتها ودعمها، وهذا ما عهدناه في اتحاد الكتاب الفلسطينيين, ولن أنس نصيحته قبيل وفاته:
-أنت أديبة عنيدة فاستمري بثقة.
رحمك الله.
د. ريمه الخاني 21-4-2015
[1] رابط دراسة هذه الرواية:
http://omferas.com/vb/t53710/
[2] مثقف من فلسطين، عضو الاتحاد الفلسطيني.
[3] كانت هذه التسمية لان مصطلح العمودية كان يعبر عنه عند العرب بالغرض الشعري ، أي أن العمودية تعني أنها تجمع عدة أغراض معا: غزل وفخر ومديح مثلا, راجع كتابنا: دراسة في خصوصية الإبداع الأدبي.