من وحي الوطن
محمد بن عبدالله الحميِّد
بموقع هذه الصحيفة على الإنترنت.. علق الأخ علي البشري على ما ورد بزاويتي الأحد 9/9/1430 عن كتب كمال الصليبي الثلاثة التي صدرت بالعقود الماضية بطبعات عالمية محشوّة بالأكاذيب والترّهات مؤداها أن (التوراة وإسرائيل) نشأتا بمنطقة عسير.. وليس بأماكنها الحقيقية بلاد الشام (فلسطين) استناداً إلى تشابه مسميات هنا مع نظائرها بتلك الديار وجدها المؤلف المزوّر مدرجة بمعاجم جغرافية لبعض الباحثين السعوديين.
وتساءل لماذا أردد دائما استنكاري ما أقدم عليه (الصليبي) ومناشدتي المؤرخين والباحثين بخاصة من أبناء المنطقة تقديم دراسات أكاديمية تستند إلى الواقع.. ويرغب مني شرح وجهة نظري.
ولعلمه أنني ولا فخر كنت الوحيد الذي تصدى بإخلاص لأغاليط (الصليبي) في حين توارى الآخرون.. والتزموا الصمت المريب فاستكتبت العشرات من رواد التاريخ بالمملكة والبلدان العربية وعلى رأسهم علاّمة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر وعشرات غيره شاركوا مشكورين بما يعرفون.
كل أولئك الأفاضل أوردوا الأدلة الدامغة على بطلان ما أقدم عليه (الصليبي) وجمعتها بكتاب صدر في حينه ضمن مطبوعات نادي أبها الأدبي.
وبالمناسبة لا أنكر أن اليهودية السليمة من التحريف.. دين سماوي اعتنقه قبل الإسلام فئام من البشر ومن بينهم من كان بالمدينة المنورة ونجران وظهران الجنوب وغيرها .. ولكن أن تكون قرى أو أسر معروفة من أعمال مدينة أبها مثل: آل باللشرم والمصرمه والبتيلة بدائل لأورشليم ومصر وبيت أيل، فهذا والله الزيف والدجل اللذان لا يمكن قبولهما بأي حال من الأحوال.
وبذات السياق فاجأني بالعقود الماضية صدور مؤلفات اختلفت بالعناوين والطبعات واتفقت على أنها بأسماء أموات وتتحدث عن تاريخ منطقة عسير عبر قرون خلت شملت القليل من المعلومات الصحيحة والكثير من الأساطير لغاية بنفس يعقوب!.
ولأن الحقيقة ضالة المؤمن.. وأن تاريخ الأمة أمانة بأعناق من فتح الله عليه بالعلم وأعانه على البحث والاستقصاء.. فإنني أكرر الرجاء لإخوتنا الأكاديميين المؤرخين وبخاصة أهل المنطقة الإفصاح عما لديهم وتبرئة ذممهم بإقرار الصحيح ونفي الباطل خدمة لثقافة الأجيال المعاصرة والقادمة على حد سواء...
=========
13 ديسمبر
كتاب اليوم
محمد بن عبدالله الحميِّد
من وحي الوطن
قبل حوالي عقدين من الزمن أثار (كمال الصليبي) من الجامعة اللبنانية فرية أن التوراة جاءت من جزيرة العرب وتحديداً من جنوب (الطائف) إلى نهاية حدودنا مع (اليمن) واستند في نظريته المتهافتة على معاجم جغرافية ألفها عدد من الباحثين السعوديين فأخذ منها بعض الأسماء للجبال والأودية والقرى المشابهة إلى حد ما لأسماء أماكن في أرض (فلسطين) المحتلة وحاول الضحك على عقول من يجهل الحقائق لكي يثبت أنها هي ما ورد في (التوراة) وليست الموجودة في الواقع وما ورد في المراجع الصحيحة وعلى رأسها (القرآن الكريم)..
وأصدر ثلاثة كتب متوالية للترويج لأباطيله وتبنت طباعتها ونشرها بست لغات حية منها العربية مؤسسات غربية مشبوهة وبإمكانات مادية ضخمة لا يحتملها أستاذ راتب جامعي في لبنان!.
وأعانني الله تعالى لاستنهاض همم الباحثين في علوم التاريخ والجغرافيا في الداخل والخارج لإبداء آرائهم فيما زيّفه (الصليبي) من معلومات لا وجود لها بل هي خيالات عاشت في عقله ومن دفعه للإعلان عنها لغاية في نفس (يعقوب) وبالعربي الفصيح لا أشك مطلقاً في أن (الصهيونية) وراء ذلك كله، وقد عودنا حكماؤها أنهم يذيعون الكذبة ثم يحصدون ثمارها ولو بعد مئة عام!
والدليل قائم على ثرى (فلسطين) الجريحة إذ شردوا أهلها واستولوا عليها ظلما وعدوانا منذ ستين عاما ونيف تحت سمع العالم ونظره، وهاهم الآن يحاولون توسيع الدائرة والتأصيل لسرقات قادمة يحققون بها حلمهم في دولة كبرى تمتد من (النيل إلى الفرات) وهي ما وضعوها شعاراً يتصدر برلمانهم (الكنيست) أبطل الله كيدهم وجعل تدبيرهم تدميراً لهم.
وبعد أن كتبت عن الموضوع في صحيفة (الشرق الأوسط) عدة مقالات تجاوب معي مشكورين باحثون فضلاء من المملكة وخارجها وفي مقدمتهم علامة الجزيرة العربية (حمد الجاسر) رحمه الله ليس بينهم بكل أسف مثقف أو أكاديمي من المناطق التي شملتها مهزلة (الصليبي) وبخاصة من (عسير) وقمت بجمع ما حبّره أولئك العلماء وأصدرته في كتاب (افتراءات الصليبي) وتبنى طباعته (نادي أبها الأدبي) وناشدت المؤسسات الحكومية والأهلية إعادة طباعته وترجمته باللغات التي صدرت بها كتب (الصليبي) الثلاثة وتوزيعها بواسطة سفارات المملكة وملحقياتها الثقافية لنقول للصهاينة وأعوانهم (نحن هنا) ولكن لا حياة لمن تنادي!
الجديد في الأمر أن موقعاً ناشطاً في الإنترنت بعنوان (أرض الميعاد) يعمل بقوة ليلاً ونهاراً على تكريس ما بدأه (الصليبي) واستقطاب الأعداء والأصدقاء معاً للتطبيل والتزوير من أجل إثبات أن لـ(إسرائيل) جذوراً في قلب (جزيرة العرب) فهل بقي لدينا من يملك الشهامة والنخوة والإيمان والمعرفة ليتقدم ويتصدى.
فهذا الفرس وهذا الميدان وحرام أن نتركه لشذاذ الآفاق كي يصولوا ويجولوا بدون مقاومة.
===========
العتيبي : زياد منى يستهين بمعلومات التاريخ الموثقة ويبحث في الأسطورة ليستخرج منها التاريخ الحقيقي
د. محمد بن سلطان العتيبي*
لقد استمتعت بما ورد في جريدتكم الرصينة في العدد 8832 ليوم الأحد الموافق 2/2/ 2003 من حوار مع الدكتور زياد منى، أجراه سعود السرحان وكان تحت عنوان «جغرافية التوراة أو استخراج التاريخ من داخل الأسطورة»، وتناول فيه عددا من القضايا التاريخية التي أرى أنها تستحق التوقف عندها طويلاً وأول هذه الوقفات كانت عن إجابته على السؤال عن تسمية كتابه «مقدمة في تاريخ فلسطين القديم». وكانت إجابة الدكتور تفيد بقناعته بأن تاريخ فلسطين منذ أقدم العصور إلى الفتح العربي الإسلامي لم يكتب حتى الآن، ولا أدري كيف نصنف أبحاث ومؤلفات الكثير من علماء الآثار والتاريخ عن أجزاء من تاريخ فلسطين منها ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ أبحاث الأستاذ الدكتور زيدان كفافي عن العصور الحجرية، وكتاب الدكتور حسن ظاظا «القدس مدينة الله أم مدينة داود»، وكتاب جاك كوفان «القرى الأولى في بلاد الشام من الالف التاسع حتى الالف السابع ق.م»، والذي تناول فيه أريحا وموقع أبو سالم في النقب الأوسط وتل الفرح والبيضاء في فلسطين وغيرها من المواقع العائدة للعصر الحجري الحديث في سورية والتي تعود لهذا الزمن المبكر في تاريخ بداية القرى في العالم القديم. وأي تحزب يراه الدكتور زياد في الأبحاث المتصلة بالالف التاسع والثامن والسابع ومرحلة ما قبل الكتابة؟! أما قوله بأن ما كتب عن تاريخ فلسطين هو تاريخ طوائف؟ فهل تاريخ فلسطين في العصور الحجرية وما قبل الديانات السماوية الثلاث تاريخ طوائف؟
أما حديث الدكتور زياد عن قدرته على كتابة مجلدات في التاريخ السياسي القديم لفلسطين فهو ولا شك استعراض في غير محله ولقد ذكر في هذه النقطة أنه يستطيع أن يكتب مجلدات مستنداً في ذلك على المراجع فالحمد لله انه اقر بأن هناك مراجع يمكن الرجوع إليها في تاريخ فلسطين القديم.
وأشار الدكتور الفاضل إلى اتباعه المدرسة الألمانية التي تؤثر الاختصار في رسائل الدكتوراه، ولكن ألا يعتقد الدكتور زياد أن تاريخ فلسطين يكفي لأن يكون مادة لرسائل دكتوراه وليست رسالة واحدة.
ولعل من الغريب أن يذكر الدكتور زياد نجاحه في استخراج التاريخ من الأسطورة وما أعجب، ذلك فهو يشكك في معلومات التاريخ الموثقة التي يكون أغلبها حقائق ويضرب بها عرض الحائط، ثم يبحث في الأسطورة ليستخرج منها التاريخ الحقيقي.
أما ما تناوله الدكتور زياد في حديثه عن كمال الصليبي وجغرافية التوراة ومباركته وتأييده له فأرى أن الصواب قد جانبهما في هذا الموضوع لعدة أسباب منها على سبيل المثال:
1 ـ إن كمال الصليبي اعتمد كلياً على المقاربات اللغوية، وهذه حجة ليست كافية حتى لو تطابقت الأسماء، فهناك الكثير من الأسماء المتطابقة في أنحاء مختلفة من الشرق الأدنى القديم والتكرار شيء معروف وله أسباب بسيطة مباشرة، لا أود الخوض فيها، ولكن على سبيل المثال هناك أماكن كثيرة في جزيرة العرب لها نفس الاسم تماماً ومتعاصرة مثل ظهران الجنوب والظهران وتربة في منطقة الطائف وتربة شمال حائل والجوف في شمال المملكة العربية السعودية والجوف في اليمن وباحة ربيعه والباحة التي سميت بها المنطقة المعروفة في المملكة وظفار حضرموت وظفار عمان وغيرها من الأمثلة الكثير، ولكن الصليبي يعتمد على التشابه غير الدقيق في بعض الأسماء ولا مجال هنا لذكر كثير من الأسماء التي يلوي الصليبي حروفها كي تتوافق مع ما يراه مقارباً لها في التوراة.
2 ـ إن نظرية كمال صليبي في أن عسير هي موطن بني إسرائيل الأوائل وأن التوراة خرجت منها وأن الديانة اليهودية نشأت فيها قول يبتر أعضاء الجسد التاريخي القديم ويشوهه تشويها كاملاً فكيف نفسر الأحداث التاريخية الجسام التي تعرض لها اليهود في ذلك العصر مثل علاقتهم بمصر الفرعونية وعلاقتهم بآشور والسبي البابلي، فهل كان مثلاً السبي البابلي لليهود في عسير؟
ولكن مما لا شك فيه أن السبي البابلي حدث للشعب اليهودي الذي كان في مكانه في فلسطين قبل هذا السبي بمئات السنين، وإذ سلمنا بأن الخلط حصل في التوراة بين فلسطين وجنوب الجزيرة العربية. فهل كانت النصوص المصرية الفرعونية والنصوص الآشورية لا تميز أيضاً بين فلسطين وجنوب جزيرة العرب؟
3 ـ يأتي كمال الصليبي في نهاية القرن العشرين ليستند على أسماء أماكن بعضها حديث وأسماء أفخاذ قبائل عربية بعضها لا يعود إلى أكثر من قرنين من الزمان ليلصقها بأسماء توراتية تسبقها في القدم بأكثر من ثلاثة آلاف عام.
4 ـ يفترض كمال الصليبي بأن عسير هي موطن بني إسرائيل والتوراة والديانة اليهودية التي يتفق على انها كانت في القرن الثاني عشر قبل الميلاد أيام موسى عليه السلام بل ويرى ان منطقتهم «جنوب الجزيرة العربية» كانت مزدهرة في ذلك الزمن، إلا أننا نقف حيارى أمام هذا الازدهار الذي لم يعثر على أي من آثاره في جنوب الجزيرة العربية أو يرد أي من النصوص العربية القديمة «السبئية، الحضرمية، القتبانية، المعينية، الأوسانية» والتي تنوف على العشرة آلاف نص يتحدث لا من قريب ولا من بعيد عن بني إسرائيل ولا عن التوراة ولا اليهود ولا اليهودية ولا موسى عليه السلام ولا أنبياء بني إسرائيل ولا دولهم ولا تاريخهم، وان قال الصليبي وزياد منى أن زمن هذه النصوص العربية الجنوبية متأخر عن موسى، فلا شك انهما لا يستطيعان أن ينكرا بإنها أقدم من القرن العشرين بحوالي ألفي عام وانها أقرب إلى حفظ أسماء الأماكن والشعوب لقربها الزمني منها، والنصوص السبئية منها على وجه الخصوص التي تحدث بعضها عن غزوات شنها ملوك سبأ على أنحاء مختلفة من الجزيرة.
5 ـ أن نظرية كمال صليبي المذكورة تتعارض كلياً مع ما ورد في القرآن الكريم بربط موسى عليه السلام بفرعون مصر «الذي لم يحدد حتى اليوم من هو بشكل قاطع»، وقصة العبور للبحر أو اليم (والذي هو بلا شك مفهوم بعربية القرآن ولا يعني السراة كما يقول صليبي) ولا ما ورد في القرآن عن سيناء ولا مصر، وكذلك تعارض هذه النظرية مجمل الأحاديث الواردة في موسى عليه السلام والتي لا تفيد بأنه كان في جنوب جزيرة العرب.
6 ـ لم يعثر على أي أثر توراتي واحد في عسير أو جيزان أو اليمن وإن اتفقنا مع الدكتور زياد بأن الحفريات الآثرية لم تكشف الكثير من مناطق الجزيرة العربية سواء في الجنوب أو غيره، وبلقيس التي أفرد لها أحد كتبه معتمداً في دراسته لها على الأساطير ليس لها أي وجود لا جنوباً ولا شمالاً، ذلك بخلاف غيرها من الملكات العربيات فقد ذكرن في شمال الجزيرة العربية في بعض النصوص العربية القديمة وفي بعض النصوص الآشورية التي تحدثت عن غزوات لبعض ملوك بلاد ما بين النهرين على مناطق معروفة في شمال غربي الجزيرة العربية.
وخلاصة القول ان نظرية الدكتور كمال الصليبي وآراء الدكتور زياد منى لا تعتمد المنهجية العلمية المعروفة وإنما تستند على صروح من الخيال والهوى وتوجيه النصوص بما يحقق توجهاتهم التي لا تقوى على النقد العلمي الجاد.
* أستاذ آثار وتاريخ الجزيرة العربية القديم ـ جامعة الملك سعود
moh_sultotaibi @hotmail.com
============
بسم الله الرحمن الرحيم
نظرية الدكتور كمال الصليبي وتاريخ فلسطين القديم
د. أسامه محمد أبو نحل
الأستاذ المشارك في التاريخ الحديث والمعاصر
ورئيس قسم التاريخ
كلية الآداب والعلوم الإنسانية
جامعة الأزهر-غزة
--------------------------------------------------------------------------------
في دراسةٍ ليست بجديدة لتاريخ فلسطين القديم، قام الدكتور كمال الصليبي بتأليف كتاباً اسماه "التوراة جاءت من جزيرة العرب". والحق يقال، فإن هذه الدراسة جيدة، حاول فيها المؤلف نفي صلة بني إسرائيل أولاً واليهود ثانياً بفلسطين، وقام بسرد عدد من الوقائع والمعلومات ليدعم بها نظريته إزاء هذه القضية، ولم يكن بوسعي تجاهل عملٍ كهذا، رغم أنني قرأت هذا الكتاب منذ سنوات عدة، لكن اختلاف بعض الباحثين حول نظريته ما بين مؤيدٍ ومعارض، فإنني وجدت لزاماً علىَّ مناقشة الباحث عن بعض ما أورده في كتابه.
ومع اختلافي مع بعض أراء الدكتور الصليبي الواردة في كتابه، فإنني لا أتهمه بتغيير مسار التاريخ لهذه البقعة من الأرض ـ أي فلسطين ـ فهو باحث، والباحث يحاول دوماً دراسة الظواهر التاريخية للوصول إلى الحقيقة المجردة البعيدة عن أي أهداف دنيوية، لذلك نجده قد اجتهد قدر إمكانه، والمجتهد قد يصيب وقد يخطئ، غير أنه في النهاية حاول الوصول إلى نتيجةٍ ما، وكانت النتيجة التي وصل إليها، أن حركة تاريخ الكنعانيين وبني إسرائيل ثمَّ اليهود لم تكن أساساً في فلسطين، بل في جنوب غرب الجزيرة العربية، خاصةً فيما يحيط بمنطقتي عسير وجيزان، ودلل على صحة نظريته هذه بوجود عدد كبير من أسماء المدن الموجودة في تلك المناطق شبيهةً بأسماء المناطق الموجودة في فلسطين، أو بمعنى آخر أن الكنعانيين والإسرائيليين لمَّا هجروا موطنهم الأول في غرب شبه الجزيرة العربية إلى فلسطين، حملوا معهم أسماء مدنهم كنوعٍ من احتفاظ المهاجر الجديد بما يربطه بموطنه الأصلي.
وفي هذه الدراسة التي بين أيدينا سوف نقوم بذكر ما ذهب إليه الدكتور الصليبي والرد عليه إن اقتضى الأمر الرد، ونكرر القول إننا بذلك لا نبخس الرجل حقه فيما ذهب إليه، بل هو مجرد مجتهد، وعلى كل حال فكما يقول المثل العربي "لكل مجتهد نصيب".
يقول الدكتور كمال الصليبي في كتابه ص27: "لقد كان الأمر عبارة عن اكتشاف تمَّ بالصدفة، كنت أبحث عن أسماء الأمكنة ذات الأصول غير العربية في غرب شبه الجزيرة العربية عندما فوجئت بوجود أرض التوراة كلها هناك، وذلك في منطقة بطول يصل إلى حوالي 600 كيلو متر وبعرض يبلغ حوالي 200 كيلو متر، تشمل ما هو اليوم عسير والجزء الجنوبي من الحجاز، وكان أول ما انتبهت إليه أن في هذه المنطقة أسماء أمكنة كثيرة تشبه أسماء الأمكنة المذكورة في التوراة، وسرعان ما تبين لي أن جميع أسماء الأمكنة التوراتية العالقة في ذهني، أو جلها، ما زال موجوداً فيها، وقد تبين لي أيضاً أن الخريطة التي تستخلص من نصوص التوراة في أصلها العبري، سواء من ناحية أسماء الأمكنة أو من ناحية القرائن، أو من الإحداثيات، تتطابق تماماً مع خريطة هذه الأرض. وهي حقيقة ذات أهمية أولية، نظراً لأنه لم يثبت بعد إطلاقاً تطابق الخريطة الموصوفة في التوراة مع خريطة الأرض بين "النيل والفرات" التي اُعتبرت حتى اليوم أنها كانت بلاد التوراة.
وأكثر من ذلك، فإني لم استطع العثور على مثل هذا التجمع لأسماء الأمكنة التوراتية، وفي صيغها الأصلية عادة، في أي جزء آخر من الشرق الأدنى. وهنا قدم الاستنتاج المذهل نفسه بنفسه: فاليهودية لم تولد في فلسطين، بل في غرب شبه الجزيرة العربية، ومسار تاريخ بني إسرائيل، كما رُوى في التوراة العبرية، كان هناك، في غرب شبه الجزيرة العربية، وليس في أي مكان آخر".
إن المؤلف يعتمد هنا على إثبات صحة نظريته بالمواقع الجغرافية، وهو تشابه أسماء عدد من المدن الموجودة في التوراة بأسماء مدن موجودة في غرب الجزيرة العربية، وهذا وحده لا يكفي لإثبات صحة ما وصل إليه، فمن المعلوم أن اسم مدينة واحدة ربما يتكرر في عدة بلاد وتحمل المسمى نفسه، فعلى سبيل المثال يوجد على سطح هذه الأرض ثلاث مدن تحمل اسم مدينة غزة، الأولى في جزيرة العرب في بلاد بني سعد بن زيد بن مناة بن تميم، وقد نسب الأخطل الشاعر المشهور الوحش إلى غزة الموجودة في جزيرة العرب. والثانية ببلاد المغرب، بينها وبين القيروان نحو ثلاثة أيام، والثالثة في فلسطين.
وفيما يخص قول المؤلف، أنه لم يثبت بعد إطلاقاً تطابق خريطة التوراة مع خريطة الأرض بين النيل والفرات، والتي اعتبرت حتى يومنا هذا على أنها بلاد التوراة، فقد ثبت بالفعل أنه لم يكن لبني إسرائيل ثمَّ لليهود وجود أو سيطرة على تلك البقعة الكبيرة من الأرض، فأقصى توسع أو امتداد كان لبني إسرائيل لم يتجاوز جبل الكرمل وتل القاضي في شمال فلسطين، إلى بئر السبع في صحراء النقب الفلسطينية، وكان هذا أعظم اتساع لأي مملكة إسرائيلية حتى في زمن داوود وسليمان أعظم ملوك بني إسرائيل، لدرجة أن الساحل الفلسطيني الممتد شمالي يافا إلى جنوب غزة كان تابعاً للحكم المصري، ولم يدخل أبداً تحت الحكم الإسرائيلي، وهذا يدلل لنا أن كل فلسطين لم تقع تحت حكم الإسرائيليين حتى في ذروة فتوحاتهم.
كما أكّد بعض الباحثين أن مدينة القدس نفسها لم تدخل تحت الحكم الإسرائيلي، إلاَّ بعد عودة بني إسرائيل الذين اعتنقوا الديانة اليهودية من السبي البابلي زمن الحكم الفارسي للمنطقة، فلم يثبت بعد أن داوود صاحب أعظم توسع للمملكة الإسرائيلية قد تعبَّد في مدينة القدس ولا الذين حكموا من بعده، ولكن لكون أن التوراة كُتبت على يد بعض الكتبة المتأخرين أثناء وجودهم في السبي البابلي، فقد حاولوا جمع الذين سيعودون إلى فلسطين على مدينةٍ يقدسونها مع تبرير حق لهم فيها، الأمر الذي لم يتم إلاَّ بعد دمار القدس وقتل سكانها الكنعانيين الأصليين على أيدي البابليين.
أما بخصوص قول الدكتور الصليبي ص29-30، بأن اليهودية لم تولد في فلسطين، فهو بالفعل محق بذلك، لأن الديانة اليهودية ولدت في بابل أثناء فترة السبي وليس قبل ذلك، وذلك على يد الكاهن عزرا، فجماعة السبي البابلي كانوا يمثلون بقايا جماعة موسى، ثمَّ اختلط بهم ممن اعتنق ديانتهم من مختلف الأجناس، وقد جاءت تسميتهم باليهود نسبةً إلى مملكة يهوذا المنقرضة.
ويقول الدكتور الصليبي، إن الدراسة اللغوية لأسماء الأمكنة في الشرق الأدنى، إذا أخذت في اعتبارها التوزيع الجغرافي لهذه الأسماء، توحي بأن لغة الكتب اليهودية المقدسة، المسماة تقليدياً اللغة العبرية، هي عبارة عن لهجة من لغةٍ سامية كانت منتشرة في الأزمنة التوراتية في أنحاء مختلفة من جنوب شبه الجزيرة العربية وغربها ومن الشام (بما فيها فلسطين). ونظراً لعدم وجود تعبير أفضل، فإن هذه اللغة تسمى في يومنا هذا "الكنعانية" نسبةً إلى شعبٍ توراتي كان يتكلمها، وإلى جانب الكنعانية كانت هناك لغة سامية أخرى منتشرة في الوقت ذاته في شبه الجزيرة العربية والشام، هي الآرامية، التي سُميت كذلك نسبةً إلى الآراميين التوراتيين. وبغض النظر عمن كان الكنعانيون، ومن كان الآراميون، في الحقيقة، فإن اللغتين الكنعانية (العبرية) والآرامية كانتا تستخدمان بالتأكيد لدى مجتمعات مختلفة في غرب الجزيرة العربية، في مرحلةٍ واحدة، وفي الوقت نفسه، كما كان الأمر عليه في الشام.
والرد على ذلك، أن لغة أهل جنوب الجزيرة العربية لم تكن بالتأكيد الكنعانية أو حتى الآرامية، بل كانت لغة أهل اليمن، كما إن اللغة الكنعانية ليست بالتأكيد اللغة العبرية، فمن المعروف أن بني إسرائيل لمَّا دخلوا فلسطين كانوا يتكلمون اللغة المصرية الهيروغليفية، ونتيجة لاختلاطهم بالكنعانيين تكلموا باللغة الكنعانية التي أسموها "شفة كنعان"، كما أنه من المعروف أن اكتشاف اللغة الكنعانية تمَّ في مدينة أوغاريت الكنعانية شمال سوريا وليس في غرب أو جنوب الجزيرة العربية.
وبالنسبة للغة الآرامية، فهي متأخرة نسبياً بالنسبة للغة الكنعانية، فمن المعروف أن موجة الهجرة الآرامية إلى بلاد الشام تمت بعد الهجرة الكنعانية بنحو ألف عام، كما أن بني إسرائيل تكلموا باللسان الآرامي أثناء وجودهم في بابل ومنها اقتبسوا اللغة العبرية الخاصة بهم، وبما أن جميع اللغات العربية السامية مقتبسة أصلاً من اللغة العربية الأم، فمن الطبيعي أن تكون جميع هذه اللغات عبارة عن لهجات مستقاة من اللغة الأم، وندلل على ذلك بأن جميع اللهجات العربية اليوم والتي تتكلم بها الشعوب العربية منبثقة من اللغة العربية الفصحى، كما الحال بالنسبة للغة اللاتينية القديمة التي انبثق عنها عدة لغات مثل الإسبانية والإيطالية والبرتغالية وغيرها.
ولا يعقل أساساً أن يتحدث أهل غرب الجزيرة العربية وجنوبها بنفس اللغة أو اللهجة التي يتحدث بها أهل الشام، نظراً للبعد الجغرافي بينهما، فمن المحتم أن يتحدث كل منهما لهجة مغايرة للأخرى.
وما نهدف الوصول إليه من نتيجة، أنه أينما كان موطن بني إسرائيل الأول سواء في غرب الجزيرة العربية أو غيره، فهو لا يعني بحالٍ من الأحوال أحقيتهم بفلسطين،لأن أقواماً أخرى عاشت على ثراها قبلهم، وظل أحفاد هذه الأقوام يحيون فوق ثراها إلى اليوم، بينما كان بقاء بني إسرائيل في فلسطين مؤقتاً انتهى تماماً باستيلاء العراقيين سواء آشوريين أو بابليين على فلسطين، ومن تمَّ أخذ القبائل الإسرائيلية كسبايا إلى بلادهم، وعندئذ انتهى الوجود الإسرائيلي كليةً من على أرض فلسطين، أما بنو إسرائيل الذين عادوا فيما بعد إلى فلسطين تحت مسمى اليهود زمن الحكم الفارسي للبلاد، لم يكونوا أبداً من نسل يعقوب، بل ممن تهودوا في بلاد بابل.
ويضيف الدكتور الصليبي ص29-30 (الحاشية): أن أرض كنعان التوراتية كانت تقع في الجانب البحري من عسير، وليس في فلسطين والساحل الشامي.
والحقيقة، فإن هذا الكلام خطير للغاية، إذ يعني أن موطن الكنعانيين والإسرائيليين الأصلي هو واحد، سواء كان في الجزيرة العربية أو إن الكنعانيين هاجروا إلى فلسطين فيما بعد وأعطوها اسمهم، فأصبحت بلاد كنعان، وهنا يصبح الاثنان أصحاب حق في هذه البقعة من الأرض حتى ولو كانت هذه البقعة في غرب الجزيرة العربية؛ إذ إنه من الثابت تاريخياً أن وجود الكنعانيين سبق الوجود الإسرائيلي بما لا يقل عن ألف وأربعمائة عام تقريباً، وبما أن الإسرائيليون قدموا إلى فلسطين عبر القوافل التجارية كما يقول الدكتور الصليبي، فهذا يعطيهم حقاً فيها، لأن الدكتور الصليبي لم يشر ولو إشارة صغيرة لتاريخ فلسطين قبل هجرة بني إسرائيل إلى موطنهم الجديد (أي فلسطين)، رغم التناقض الذي يبديه الدكتور الصليبي عن هجرة أقوام آخرين إلى فلسطين قبل الإسرائيليين مثل الفلسطينيين الذين وصلوا إليها حسب قوله من غرب شبه الجزيرة العربية أيضاً، وهو بذلك يؤكد نسبهم السامي الصريح، كما هاجر إليها الكنعانيون ليعطوها اسمهم على امتداد الساحل الشامي شمال فلسطين.
ونحن لا نرى أي مبرر لِما أورده الدكتور الصليبي لإثبات حق هو في الواقع ثابت للكنعانيين في وجودهم في فلسطين قبل مجيء بني إسرائيل إليها، فالكنعانيون بالفعل هاجروا إلى فلسطين من الجزيرة العربية قبل أي شعبٍ سامي آخر، ولم تعرف البلاد شعباً سامياً استوطنه قبلهم. أما بنو إسرائيل فقد قدموا إلى فلسطين كمحطة توقف لا أكثر ثمَّ رحلوا عنها زمن يعقوب إلى مصر وعاشوا في مصر فترة طويلة من الزمن تجاوزت الأربعمائة عام، ممَّا يدلّل على إن فلسطين لم تكن آنذاك مناسبة لإقامتهم بها، وإلاَّ لِما تركوها ورحلوا عنها طيلة هذه المدة.
ويضيف الدكتور الصليبي أن: الفلسطينيين أطلقوا على عددٍ من مستوطناتهم مثل غزة وعسقلان أسماء هي في الأصل أسماء لأماكن في غرب شبه الجزيرة العربية جاءوا منها، وفي شمال فلسطين، أعطى الكنعانيون أيضاً أسماء من غرب شبه الجزيرة العربية لبعض مستوطناتهم، وهي أسماء مثل صور وصيدون (صيدا) وجبيل وأرواد ولبنان، وعندما بدأ إسرائيليو غرب شبه الجزيرة العربية (وربما يهود آخرون من غير بني إسرائيل من غرب شبه الجزيرة) بالهجرة باتجاه الشمال للاستيطان في فلسطين، كائناً ما كان زمن الهجرة، أطلقوا بدورهم أيضاً أسماء من غرب شبه الجزيرة العربية على بعض مستوطناتهم الفلسطينية (وليس كلها بالتأكيد)، أو على أوابد دينية محلية استولوا عليها وعرّفوها بأوابد يهودية في غرب شبه الجزيرة العربية، وهي أسماء مثل يهوده (يهوذا) ويروشليم (القدس) وبيت لحم وحبرون (الخليل) وشمرون (السامرة) وجرزيم وعيبل والكرمل وربما الجليل وحرمون والأردن.
ويضيف قائلاً ص34-36: أن هذه الظاهرة مرتبطة بالهجرة في كل زمن، وفي كل أنحاء العالم، فالمهاجرون يحنّون دائماً إلى أوطانهم الأصلية، وكثيراً ما يسمون البلدات والأقاليم والجبال والأنهار، وحتى بلداناً أو جزراً بكاملها، بأسماء مألوفة حملوها معهم من مواطنهم القديمة.
والواقع أن ما ذكره الدكتور الصليبي لا يمكننا الاعتداد به، لأن مدينتي غزة وعسقلان أصلاً مدن كنعانية ولم يكن الفلسطينيون سوى قاطنين لهما، أما المدن التي ذكرها الدكتور الصليبي على أن الإسرائيليين قد أعطوا أسمائها لها في فلسطين على أنها موجودة أصلاً في بلادهم الأصلية، فتلك زلة لسان وقع بها، فهو بذلك يعطي اليهود الحق في إدعاءاهم بأحقيتهم بمدينة أورشليم وجرزيم والكرمل وغيرها من المدن، لأنه من الثابت أن جميع هذه المدن مدن كنعانية صِرفة، أسسها الكنعانيون بأنفسهم، كما أننا لو سلّمنا جدلاً بإدعاءات الدكتور الصليبي، فهذا يعني أن فلسطين قبل ذلك التاريخ لم يكن لها تاريخ، وهو يساوي بذلك بين بلدٍ كفلسطين معروف على مستوى الشرق الأدنى وبين أماكن أخرى تمَّ اكتشافها لأول مرة، فأعطاها المهاجرون أسماء مدنهم التي هجروها، فعلى سبيل المثال نجد بلداً كالولايات المتحدة الأمريكية وكندا، تعتبر جلّ أسماء مدنها أسماء لمدنٍ قديمة وعريقة موجودة أصلاً في بلدان المهاجرين إليها مثل مدينة لندن في إقليم أونتاريو الكندية المأخوذ عن مدينة لندن البريطانية العريقة، والمعروفة منذ زمنٍ بعيد، ومدينة فيلادليفيا في الولايات المتحدة الأمريكية المأخوذ عن مدينة فيلادليفيا (عمَّان) في شرق الأردن، ومدينة الإسكندرية الموجودة أصلاً في مصر وغيرها من الأسماء كثير مثل مقاطعة ويلز الجديدة في أستراليا المأخوذ عن أسم مقاطعة ويلز البريطانية.
إذن، فأسماء المدن التي ينقلها المهاجرون إلى مواطنهم الجديدة ليست دليلاً على ما ذهب إليه الدكتور الصليبي، لأن بلداً كفلسطين كما أسلفنا القول ليس بلداً حديث النشأة تمَّ اكتشافه بالصدفة من قِبل المهاجرين إليها، بل سكنته الشعوب عن طريق الإزاحة وهزيمة الشعوب التي كانت موجودة فيها أصلاً، فالكنعانيون عندما قدموا إليها وجدوا بها شعوباً تمكنوا من هزيمتها والاستيلاء على أراضيهم، وهكذا فعل بنو إسرائيل وغيرهم.