«عندما تقرأ ندرة اليازجي يجب أن تمتلك معرفة فلسفية إنسانية مختلفة المشارب منذ أقدم العصور وحتى زماننا الحاضر، ويجب أن تكون ملماً ببعض علم اللاهوت والأديان، لأن هذه الأديان تضع الإنسان في قمة أغراضها، فلا غرابة أن ترتكز دراسات اليازجي على اللاهوت، مع أنه يخرج هذا اللاهوت إلى الإطار الإنساني بما يخدم الإنسان وحياته».
قرأت هذا الكلام في كتاب (كما عرفتهم) للأستاذ إسماعيل مروة فوجدته أصدق تعبيراً عما يمكن أن يجول في نفس المرء عندما يلتقي بالأستاذ الدكتور ندرة اليازجي، لأن الدكتور اليازجي عالم عاش في عالم سام لا يرقى إليه إلا ذوو الهمم الخلاقة وأصحاب القدرات القوية. أن تجالس رجلاً قرأ أربعة آلاف كتاب، فهذا أمر صعب، وأن تجاذبه أطراف الأحاديث في علومه الكثيرة فهذا أمر أصعب.. لكن أن يفاجئك بتواضعه البليغ الذي يملي عليه أن ينصت إليك وكأنك أنت العالم، وينظر إليك بشغف ويرجوك بأن تتكلم أنت ليستمع هو، على حين أنه هو في حقيقته نبع لا ينضب من المعرفة، فهذا هو الأمر المذهل... هكذا كان الأستاذ الدكتور ندرة اليازجي، علم غزير وثقافة واسعة وأدب جم يصحبه هدوء بالغ وتواضع كبير يتوج ذلك كله صمت بليغ وحكمة وافية.
اليازجي محب للإنسانية، تنبئ كلماته عن شغف دائم بالمعرفة، تفيض نظراته بأجمل آيات الحنان، روحه البراقة تجعله يتلقى بالإغماضة رؤية وبالصمت يتكلم، لذلك كانت مجالسته تأسر القلوب وكلامه يستحوذ على الشعور والوجدان؛ لأنه ينبع دوماً من المحبة والوفاء والإخلاص.
ولد ندرة اليازجي في مرمريتا، عام 1932، درس المرحلة الابتدائية في مرمريتا، وحصل على الشهادة الابتدائية الفرنسية؛ ثم تابع دراسته في لبنان فحصل على الثانوية ثم أتبعها بشهادة سياسة واقتصاد، لكن ميله الجارف للدراسات الإنسانية والفلسفية والاجتماعية غلب عليه لذلك أعاد النظر في شهادته واتجه إلى دراسة الفلسفة السياسية.
ملأ الأستاذ ندرة حياته بالمحاضرات المختلفة، كما ساهم في مؤتمرات خارج سورية، وقد كان يهدف من نشاطه الدؤوب إلى تأسيس بنية عقلية منفتحة تصلح لإقامة حوار بين الثقافات والحضارات، وكان يقول دوماً إنه ما من عقيدة تستطيع أن تدعي أنها تملك الحقيقة المطلقة، ودعا إلى ضرورة الاعتراف بالآخر، بشرط التخلص من التفاسير الحرفية التي احتجزت العقل الإنساني وحالت دون تطوره.
هذا العلم الغزير وتلك العقلية المتفتحة جعلته يقبل على العلوم تأليفاً وترجمة، ما أثرى المكتبة العربية إثراء بالغاً، من مؤلفاته:
1- الكتب المترجمة:
فقد ترجم لـ(تياردي شاردان) عن الفرنسية كتابين هما:
1- موضع الإنسان في الطبيعة عام 1982.
2- ظاهرة الإنسان عام 1973.
كما ترجم أيضاً:
- الفكر الفلسفي الهندي عام 1969.
- علم نفس يونغ.
- فكرة مقابل فكرة لـ(ألدوس هكسلي) عام 1979.
- التطور النفسي في الألف القادمة لـ(روبير لانسون).
2- الكتب المؤلفة:
ألف الأستاذ ندرة كتباً عديدة جمعها ضمن مجلدات هي:
المجلد الأول: الرسائل الإنسانية، ويضم:
- رسائل في حضارة البؤس 1961.
- رسائل في مبادئ الحياة 1991.
- رسائل في مبادئ الحياة، وهي مجموعة رسائل سعى فيها إلى تحقيق الكمال في الحياة، وقد تحدث فيها إلى أصدقائه الذين تجاوزوا مرحلة الشباب إلى مرحلة الرجولة عن القضايا المهمة، التي تتطلب منهم الحكمة والوعي، والتأمل العميق في حقيقة حياتهم وفي مغزى وجودهم.
المجلد الثاني: دراسات في الحياة النفسية والاجتماعية:
- تأملات في الحياة النفسية: صدر عام 1988.
- دراسات في المثالية الإنسانية: صدر عام 1977.
المجلد الثالث: دراسات في فلسفة المادة والروح، ويضم:
- المبدأ الكلي: صدر عام 1989.
- المادة والروح: صدر عام 1978.
مقالة في العقل والنفس والروح: صدر عام 1965.
المجلد الرابع: دراسات حضارية- أخلاقية- معرفية، ويضم:
- بحوث فلسفية: صدر عام 1967.
- تنوع الحضارات ووحدة الفكر الإنساني: صدر عام 1990.
- فلسفة الإنسان الثائر: صدر عام 1967.
المجلد الخامس: ويضم:
1- رد على التوراة: صدر عام 1972.
2- رد على اليهودية واليهودية- المسيحية: 1969.
المجلد السادس: الطريق إلى الحوار.
المجلد السابع: دراسات في الفلسفة العلمية محاضرة في فلسفة العلوم وتعالج الموقف الإنساني والطبيعي والكوني.
المجلد الثامن: الذي سيصدر فيما بعد ويضم.
- الاشتراكية ومفهوم العدالة.
- النقد الفلسفي للماركسية.
هذا بعض مما غاص فيه الأستاذ اليازجي، ولا يسعني إلا أن أقول إنني عندما كنت أقرأ في كتب اليازجي أشتم عبق معجزات حقيقية، وأحس كأن عقلي الصغير يعجز عن إدراك تلك المعاني العميقة حتى إذا ما تعمقت في القراءة والتمعن ينشرح صدري وتحضر المعاني إلى نفسي لأن قراءة ندرة اليازجي تجعل القارئ يشعر أن اليازجي يعبر عن معانٍ طالما حاولنا أن نجد لها كلمات وتركيبات لغوية فلم نفلح.
ولقد ذكرتني صوفية د. ندرة اليازجي بصوفية الشعراء الفلاسفة الكبار من أمثال حافظ شيرازي وعمر بن الفارض.
وبعد...
إن رسائل اليازجي ملأى بالأفكار الإنسانية السامية، والقائمة على شمولية في طرح المواضيع وعمق في المعالجة، يحب الإنسانية المتمثلة في جميع الناس، يعتبر الكل أصدقاءه.
وقد كان يسعى من خلال أحاديثه إلى تكوين إنسان يظل دوماً أهلاً للسمو بإنسانيته من خلال القواعد والمبادئ المبينة في هذه الرسائل.
شكراً لك أيها العالم الفيلسوف والأستاذ العظيم الذي أتحفتنا بكنوز من المعرفة الراقية، ونرجو أن تثمر فينا نصائحك القيمة وتوجيهاتك السديدة، علنا نصل إلى الخصال الإنسانية التي تزخر بالفضائل وترقى بالحياة الإنسانية.
نرجو لك طول العمر ودوام الصحة والعطاء الخلاق.