الفنان التشكيلي/ الفوتوغرافي "سمير قريطبي"
--------------------------------------------------------------------------------
جريدة الاسبوع الادبي العدد 1026
فن تشكيلي: العين الثالثة للإنسان الحجارة وعبق التاريخ ـــ
آثر الفنان التشكيلي/ الفوتوغرافي "سمير قريطبي" أن ينأى بموضوعاته عن الحياة الاجتماعية المعاصرة، ويذهب بعيداً نحو التاريخ، محاولاً أن يستلهم منه مرئياته الجمالية وإيحاءاته الثقافية. فكانت الصورة/ اللوحة بالألوان.
إن الصورة بطاقة تعريف، للتعبير عن الهوية والانتماء، فضلاً عن كونها بلورةً تلخص حدثاً بأكمله، أو تختزل ما يدلّ على حقبةٍ بأسرها، فجماليات الفن تتجسد في إبداع لمسة إبداعية، تترسخ في الجوانح..
لقد استطاعت الصورة الفوتوغرافية للأثر القديم أن تتحدث عن إنجازات إنسانية حضارية تضرب جذورها في أعماق التاريخ، وربما جاءت الصورة لتعبّر عن إحدى الجولات المظفرة في صراع الإنسان مع الزمن الذي اخترع (الكاميرا) وسيلةً يخلّد بها الفنان اللحظة الزمنية، يحيطها بجو طبيعي ومتلازم من شعور الحنين، وشجن ذكرى ماتلبث أن تتجمع وتتراكم، ويجري تصنيفها وفرزها وتبويبها تبعاً للشغف بالتراث، حيث تسجّل كل صورة لحظة من لحظات الماضي، سواء استدعت مطالعتها زهواً في النفس، أو استثارت دمعة على الماضي، أو زفرة تنهيد من أعماق الصدور.. أو حتى زمّ الشفتين تجاه مايلحق بهذه الآثار من تسفيه أو تشويه بسبب عدم اكتراثنا بها، وقد عبّر الفنان عن إدانته للزمن الراهن وأهله، من خلال تجسيد واقع هذه العاديات، وقد شوّه الإنسان المعاصر جمالياتها بنشر غسيله عليها، كما تحوّلت في بعض المواقع إلى مأوى للماعز.. في تعبير الفنان المرهف عن غضب وحنق، لأنه أرادها أن تبقى سجلاً للذاكرة الجماعية الجميلة لتلك المجتمعات التي أبدعت هذه الآثار الخالدة.
في عالم الصورة، هناك –على الدوام- ماهو خفي، ويحتاج إلى التنقيب، وكل لقطة أثرية تحتوي على أشياء سحرية تثير في المخيلة أسئلة تقود إلى أسرار وكشوفات جديدة، وتدفع الفنان لمواصلة البحث والتجريب بغية الوصول إلى الأسلوب الأمثل، الذي يسعى إليه، مادام العالم يتغير من حوله، فتتعمّق التجربة ويزداد الوعي بها. وإن تعدد اللقطات وتنوعها يعبر عن ميل الفنان الشديد لإغناء التجربة حتى ينمّ التركيز على تصوير الأثر دون غيره، لالتقاط انطباعات تدوم وتستمر، وتستوطن الوجدان، فتستقر معها دلالات الصورة التي ارتضاها الفنان واختارها بنفسه بعد أن عرفها وعاينها عن كثب، فتأثّر بأبعادها وظلالها ودلالاتها الحضارية، وجسدها في لوحة إنسانية.
لقد عكس الفنان شغفه من خلال معارض فوتوغرافية، أظهرت اهتماماته بجماليات الطبيعة، فالتناغمات اللونية التي تومض، تحدث في اللوحة تلك العلاقة الجدلية في أكثر درجاتها شفافية، فتتسلل إلى الروح، ويمكن أن نقرأ في لوحاته الآثار المنتشرة في السهول، كبصرى الشام، وتدمر، والبادية، أو تلك المنتصبة بين الجبال في إدلب وحلب واللاذقية، عبر مقاربات وجدانية تعبر عن حب للأرض وانتماء للوطن، وهي في دلالتها الرمزية كتجربة صور حافلة بكل ألوان الطيف وألوان الطبيعة التي تعبق بنكهة التاريخ، وتشعّ بالحضارة. حيث تنبض الأرض والحجر بالحياة، لأن التعبيرات الجمالية وتقاطيع الحجارة الخارجية وملامحها العمرانية، حين نحسن قراءتها جيداً تقودنا إلى داخل الإنسان الذي بناها.. وتتغلغل إلى أعمق توهّجات الروح، بمعنى أنها تجسّد مهد الأحلام السعيدة حيث الفطرة، والميلُ الواضح إلى الطفولة والبراءة، وملاذ النفوس التي أتعبها الحاضر بانكساراته...
لقد سعى الفنان من خلال هذه الأوابد إلى إيجاد رابطة بين الذكريات الناطقة تاريخياً، وبين ما ترصده العين الباصرة من أماكن تنبض بالدفق الإنساني، وما يشعر به من نقلات روحية تصله بالتراث. وهذا ما جعل لقطات سمير قريطبي الفنية تحتفي بالمكان وجمالياته، وهي بألوانها الطبيعية تنطوي على سحرٍ خاص، يظهر في اختيار اللقطات المنسجمة بموضوعية تريح العين وتبهج النفس، نظراً لما تحققه من خصوصية تتفرّد بالجمال، تغدو معه اللوحة بألوانها عملاً إبداعياً، يضفي على الرمز الحي ظلالاً تزيده جمالاً وتألقاً وعمقاً. حيث تتحوّل الصور الجميلة إلى رسائل ذات معاني تنطق فيها الحجارة والصنعة الفنية بكل تكويناتها وأشكالها وألوانها وإيحاءاتها بالحضارة..
لقد أدرك الفنان أن آلة التصوير هي العين الثالثة للإنسان، يشاهد بها ما لا يشاهده بعينيه الاعتياديتين. وهذا ما يجعل اللقطة الفنية تنطلق ببعدها الجمالي قبل أن تنطلق ببعديها الزماني والمكاني؛ إذ ترهف الحساسية تجاه الموضوع وإيحاءاته، فيرى في الحجر والقوس والمقرنصات التي يتسرب الضوء بين تكويناتها حياةً زاخرةً بالدلالات والتشابكات والرموز الفنية، ويسعى عبر تحديد الزاوية إلى الكشف عن تلك المثيرات الوجدانية. فضلاً عن الإحساس بتلازم مؤطّرٍ بالهوية والانتماء المحدّدين، حيث لا يمكن الفصل بين الزمان والمكان لأنهما يسيران في خطين منسجمين، وفق المعطيات الطبيعية للأثر في الواقع، فيصبح ذلك التلازم المحور الناظم الذي تقوم عليه اللوحة/الصورة، حيث الروح الواحدة هي المسيطرة، وهي الزاوية التي من خلالها تقرأ اللوحة الفنية التي تحمل رسالتها، وتؤدّي مهمتها بصورةٍ سلسةٍ عذبةٍ تجعلها تتسرّب إلى الروح والوجدان وفق انسيابية نادرة.
والفنان حين يهجر الفرشاة وعلبة الألوان لصالح الكاميرا، لم يتخلّ بأيّ حالٍ من الأحوال عن تأثيرات الرسم التي تظلّ ملاصقةً لأعماله الفوتوغرافية، حتى إن كثيراً من الصور تبدو لوحات فنية، لأن الفارق بين الرسم والتصوير ليس سوى فارقٍ في الأداة فقط..
يذكر أن الفنان سمير قريطبي من مواليد إدلب، عام 1954 ومتخرّجٌ من مركز الفنون التشكيلية في اللاذقية عام 1975.
أقام عدداً من المعارض الفردية والمشتركة في المحافظات السورية، كان آخرها معرض (مدن حية باقية في الذاكرة) في حلب، بوصفها عاصمةً للثقافة الإسلامية عام 2006.