ليلة الطائرة الشراعيّة
مقالات ملفّقة (10\3)
بقلم – محمد فتحي المقداد
يموت الأبطال وتبقى ذكراهم ماثلة شامخة لا تنحني، و لا تنمحي بتقادم الزّمان. لا أدري على وجه الدقّة ما الذي استدعى ذكرى ذلك الشّاب العربي السوريّ البطل (خالد محمد أكر) من مرتّبات صفوف الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، رغم تراكمات كثيرة كادت أن تذهب بذكرى رحلته التاريخيّة بـ (ليلة الطائرة الشراعيّة)، عندما انطلق ليلة الخامس والعشرين من نوفمبر عام 1987م، مع ثًلّة من المقاتلين، اثنان منهما تعطّلت طائرتيْهما فهبطتا في المنطقة العازلة في جنوب لبنان، وسقطت الأخرى.
استطاع خالد السّيطرة بإحكام على طائرته الصغيرة مُتفاديًا الرّادارات الصهيونية ونقاط مراقباتهم، بتحليقه الصّامت ببراعة وصل، منطقة الهدف (معسكر غيبور) قرب (بيت هيلال) والذي يضمّ نخبة القوّات الخاصّة الإسرائيليّة، هبط البطل في هدوء، حاملًا رشّاش كلاشنكوف، ومسدس كاتم للصوت، توجّه نحو بوابة المعسكر. فاجأ الجنود الإسرائيليين، وتمكّن من قتل عشرين جنديًّا، وجرح عشرين آخرين قبل استشهاده.
و الشّراع هو سطح مصنوع عادة من القماش أو الموّاد البلاستيكيّة المقاومة للتمزّق، و يتمّ نشره وتثبيته على صارية خشبيّة فيأسر الرياح، لغرض دفع قارب السفينة، أو أيّة مركبة أخرى في الماء، و قد تستخدم الأشرعة أيضاً في دفع المركبات البريّة، و للتحليق بالطائرات الشراعيّة.
أمّا الشّرعَة و الشريعة فهي ما شَرَع و سّنّ الله لعباده من الدّين، من خلال الأنبياء و الرّسل من أجل خير البشرية، والارتقاء بها روحيًّا و اجتماعيًّا و اقتصاديًّا وسياسيًّا، لإعمار الكون بطريقة تليق بكرامة الإنسان، بعيدًا عن سيطرة الأقلية على الأكثرية ونهب مقدّراتها، وخسفها ونفيها، ومنه قوله تعالى: (لكلٍّ جعلنا شِرْعةً ومنْهاجًا).
و سنّ القوانين تعتبر تشريعًا وضعيًّا لتنظيم التعاملات وفق رؤية ربّما تكون صائبة أو خاطبة، ولكنّها في العموم تتلّمس المصلحة العامة، وفيها الكثير من الثغرات و القصور التي ينفذ منها المحامون للدّفاع عن مُوكّليهم لتحصيل حق ضائع أو اغتصاب شيء ما. وفي الدولة البابلية قديمًا جاءت شريعة حمورابي وفق هذا المنظور، ويقال أنّها من أقدم القوانين النّاظمة للحياة آنذاك. ويتضادّ مع هذا المنحى مفهوم (شريعة الغاب) القائمة على الأقوى يأكل الأضعف، ويستخدم المصطلح على نطاق واسع على ألسنة النّاس إذا ما اغتصبت حقوقهم وضاعت، بغياب العدالة بكافة أشكالها.
كثيرّا ما تحدث المشاجرات الاجتماعية، ومن يُشهر سلاحًا حادًّا أو ناريّا، يُحكم عليه بالشُّروع بالقتل، حيث أن كافّة القوانين الجنائيّة تُجَرّم من يفعل ذلك، وينال جزاءه من السّجن وربّما تترافق مع الأعمال الشّاقة، ومن شَرعَ في الأمر أي خاض فيه.
وكذلك جاءت الشّريعة وهي الماء مورد الشّاربة، وإذا شَرَعَتِ الدّواب في الماء أي دخلت فيه، فهي شُرُوع وشًرّع، ومن هناك جاءت (نهر الشّريعة) المُتكوّن من التقاء ثلاثة روافد هي بانياس القادم من سوريا، واللَدّان القادم من شمالي فلسطين، والحاصباني القادم من لبنان مُشكّلا نهر الأردن العلوي، يبلغ طوله حوالي 251 كم، تصبّ مياهه بعد اجتماع الفروع الثلاثة في بحيرة طبرية، وما بعد بحيرة طبرية يُطلق عليه نهر الأردن وهو الحدّ بين فلسطين والأردن، ومن ثمّ يصب في البحر الميّت.
يؤخذ التاريخ جُملة وتفصلًا، من خلال القرائن و الدلائل، وبني اسرائيل لهم شرائعهم الخاصة بهم، فيوم السّبت هو يومهم الأسبوعيّ المقدّس، يمتنعون فيه عن الإتيان بأي عمل مهما كان، فكان اعتداؤهم في السبت بعد أن حرَّم الله عليهم كَسبَ السّبت, فكانوا يصطادون فيه السمك، وورد في القرآن الكريم الكثير من الآيات عن بني اسرائيل وأطباعهم ومكائدهم واحتيالهم، فجاءت الآية في خصوص السّبت: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) 163سورة الأعراف، ودلالة الآية من التفسير، واسأل: يا محمّد، هؤلاء اليهود، وهم مُجاوروك, عن أمر القرية بحضرة البحر، أي بقرب البحر وعلى شاطئه، وذلك لأخذ العبرة و العظة من الأمم الأخرى.
أمّا الشّارع، فهو الطّريق الأعظم، فالشّوارع المَمَهّدة الواسعة النظيفة المُعبّدة من أساسيّات المدن الكبيرة قديمًا و حديثًا، وجُعِلَت لها الأسماء و الأرقام من خلال الشّاخصات الدّالة؛ لتسهيل الوصول إلى الوجهة المقصودة، حيث اتّخذت أشكالًا هندسية جميلة تتوخّى سلامة سالكيها من المسافرين على مدار السّاعة، وحاليًّا أصبح برنامج الـ ( ( gpsيستخدم على نطاق واسع من خلال أجهزة الهواتف الذكيّة؛ للوصول إلى الوجهة المطلوبة بدقّة وسهولة ويُسرٍ.
كما أنّ مجلّة الشراع اللبنانيّة السياسيّة الأسبوعيّة هي أحد أعمدة الصحافة العربيّة، ففي فترة سابقة من حياتي كنتّ مُداومًا على مطالعتها، وأهمّ إنجاز لها، نشر تحقيق عن صفقة الأسلحة الأميركيّة إلى إيران عام 1986 التي عرفت باسم (ايران - غيت)، وهي الحادثة التي أدّت الى وقف الحرب العراقيّة الايرانيّة عام (1980 \ 1988)، بعد أن خسرت إيران الحرب، وقال الإمام الخميني مقولته الشهيرة: (لو أنّي تجرّعت كأسًا من السُمّ أهون عليّ من ذلك). كما أورد الكاتب البريطاني باتريك سيل في كتابه (الأسد - الصراع على سوريا)، على إثر ذلك تعرّض حسن صبرا رئيس تحرير المجلّة لمحاولة اغتيال نجا منها.
ومن أجمل ما قرأت، كتاب (النّباهة و الإستحمار) للدكتور علي شريعتي (1933 - 1977م)، وهو مفكر إيراني إسلامي مشهور يعتبر مُلهم الثورة الإسلامية الإيرانيّة بأفكاره وتنظيراته، تخرّج في كليّة الآداب من جامعة طهران، ليُرشح لبعثة لفرنسا عام 1959 لدراسة علم الأديان وعلم الاجتماع، حصل بعدها على شهادتيْ دكتوراه في تاريخ الإسلام وعلم الاجتماع.
أمّا آية الله شريعة مداري يعتبر مرجعيّة دينيّة إيرانيّة من طراز مختلف، كان يدعو إلى إجراء تعديلات جوهريّة على النّظام الملكيّ دون اللّجوء إلى الثورة المسلّحة، فالحلّ الأفضل في نظرة قيام ملكيّة دستوريّة، لكنّه أيّد الجمهورية الإسلامية بعد قيامها، وظلّ يدعو إلى قيام نظام ديمقراطيّ، وتميّز دائما بمواقفه المعتدلة، وربّما كان هذا هو السبب في إبعاده عن دائرة الضوء رغم شعبيّته الدينيّة الواسعة، وتعمقت هُوّة الخلاف بين شريعة مداري و الخميني، فأُبعِدَ شريعة مداري عن المسرح السياسيّ الإيرانيّ.
مُحلّلون سياسيّون يعتبرون تنظيم أنصار الشريعة في ليبيا هو ميليشيا إسلام سياسيّ متطرّفة، تأسّست في شهر أبريل من عام 2012 بعد نهاية الثورة الليبيّة بشهور وتدعو إلى تحكيم الشريعة الإسلاميّة في ليبيا حسب وصفها، وتنظيم أنصار الشريعة في تونس، يُعدّان تنظيمًا واحد من حيث الأفكار الجهاديّة. والتنسيق بينهما والدعم المالي واللوجيستي.
و بالانتقال إلى عالم الثقافة تأتي رواية (الشراع والعاصفة) للكاتب حنّه مينه، الصادرة 2006 في المرتبة14 ضمن أفضل 105 روايات عربيّة، وترجمت إلى اللغة الروسيّة، الشّراع والعاصفة، قصّة مدينة سوريّة ساحليّة أثناء الحرب العالميّة الثانية، صوّر فيها الكاتب ببراعة مدهشة أثر الحرب، وما تركته من عواصف في بلاد يحتّلها الفرنسيّون، وأبرَزَ التناقضات التي كانت تفترس مجتمعًا غير متجانس، لكنّها أوّلاً قصّة رجال البّحر وانتصارهم على الطبيعة القاسية، قصة الارادة البشرية والمغامرة.
وها أنا أشرعتُ أمري في مخاضات شتّى، بعد أن أشرعت نوافذ كلماتي لعموم القرّاء و النقّاد، ليشرعوا سهام أقلامهم حمدًا وتجريحًا في باخرة مُلفّقاتي؛ للوصول بأمان على متن أشرعتهم إلى برٍّ ثقافيّ واضح برؤيته.
عمّان - الأردن
1 \ 3 \ 2017