مدينة البرك الآسنة


توجه بعض رجال الحي إلى المكان الذي اندفعت منه المياه, وأدى إلى انقطاع الماء عن منازلهم المبعثرة على جانبي الطريق.
وأبو محمود يتبعهم شارد الذهن.
مفلتا من وعورة الطريق المطرز حتى الثمالة بالبرك الآسنة التي غمرت الشوارع في مناطق المخالفات المحيطة بمدينة الرقة, بتتبع آثار الأقدام المحفورة في الطين تارة, أو القفز كالبهلوان على قطع الحجارة المتناثرة فوق الماء تارة أخرى..
تبا للمطر.
بكفرهم بآياته يجهرون.. وهم يحفرون الأرض بمعاولهم.
وأبو محمود شاردا في أرضه التي تركها هناك..

تبا للمطر مرة أخرى كان يقول في سره وهو يتحسس ثمن الأرض التي باعها ليسكن المدينة بعد سنوات القحط الطويلة..
لم يتبق لديه ما يبيعه بعد أن صرف ثمن الأغنام التي كانت تسد الرمق من لبنها, وتطعم الأطفال الجياع..
" احتباس المطر عقوبة من الله لفساد البشر في الأرض" هذا ما قاله لهم شيخ القرية, عندما لم تُجدِ صلوات الاستسقاء نفعا..

اتسعت الحفرة, وتبين الرجال مكان الخلل, الشق كان كبيرا هذه المرة, وأحلامهم صغيرة, وحياتهم قصيرة.. بالذل والفقر محاصرون..
روائح البرك الآسنة ومياه التصريف في الشوارع تعطل الحواس..
يعود أبو محمود لرائحة الأرض عندما تمتزج بحبات المطر حيث تمتصها بعشق, فتبعث رائحة كزهر الفول الأبيض, خفيفا. ناعما. ساحرا..

عندما كان البشر يستحقون نعمة الله عليهم, كان أبو محمود صبيا يركض في السهول, يطارد فراشات الربيع ويقطف الأزهار من كل لون.
وأجملها شقائق النعمان التي تغمر قلب حبيبته بالفرح, ويرتجف جسدها النحيل عندما يتعمد إمساك يديها وهو يقدم لها أزهار العشق عربونا للمحبة و الوفاء..

يشعل لفافة تبغ من النوع الرديء.. يأخذ نفسا عميقا, كأنه يمتع رئتيه بنكهة رائحة المطر في أرضه, وحنينا لداره التي بناها من الطين.. سقفها الخشبي كان حنونا, يضمهم شتاء بدفء, وفي الصيف تبعث الفتحات الصغيرة في الجدار السميك نسمات تشفي العليل..

تبا لعلب الأسمنت التي بنيت على عجل, لكي تتجاهل وجودها دوريات البلدية لسبب ما..!؟, مما أدى إلى انتشار مناطق المخالفات كالسرطان مطوقا المدينة بشكل يثير الاشمئزاز.. ويبعث على القرف و اليأس المجبول بمعاناة الوافدين إلى المدينة بعد سنوات القحط والتناسل المرعب, وتجاهل مجلس المدينة للتوسع العمراني الذي يفتقر لأبسط الشروط الصحية والإنسانية.. وانتفاخ جيوب الكثير منهم وتدلي كروشهم..
البعوض يمتص دمهم ليحيا.
ولكن هم ..... لماذا؟!
يجلس أبو محمود في ظل جدار, على بساط ملون, مصنوع من بقايا الأسمال البالية, يحتسي الشاي ويدخن تبغا ملفوفا يدويا.. وعيناه حائرتان وأفكاره مشتتة.. ترى ما مصيره؟ وماذا يخبئ له القدر؟.. لو لم يكن متزوجا ولديه ثلاثة أطفال لهان الأمر.. لكنه عقد العزم وتوكل على الله .. هذه هي إرادة الله .. هكذا كان يبرر لنفسه ..
حزمت هاجر وأخواتها الأمتعة, وحملنّهن في عربة الجرار الزراعي, وأبو محمود في عالم أخر..
تنبه لصوت الجرار عندما علا هدير المحرك, والأولاد يطلقون صيحات الابتهاج.. الفرحة تملأ قلوبهم الصغيرة.. سيسكنون المدينة..

كم حلموا بها.. إذ ارتبطت بالسكاكر الحمراء اللذيذة, والتي يطلق عليها سكان المدينة "سكر الشوايا".
يرقبون السيارات القادمة من المدينة عند نهاية الطريق الترابي في أول القرية بنزق ونفاذ صبر.
ويرقصون بفرح, وهم يرون أبيهم نازلا من "البوسطة" محملا بما قدر على حمله وما أسعفته به نقوده..
يحملون الأكياس ويسرعون إلى المنزل للاطمئنان على محتوياتها ..

يصعد أبو محمود بمحاذاة السائق على طرف الجرار. وزوجته تذرف الدمع وهي تودع قريباتها .. وأطفاله لا يأبهون إلا لاحتواء المدينة لهم تلهفا لطيباتها..

الشمس قاسية هذا الصباح.
وساطعة تلفح وجوههم.
يزأر المحرك ويعلو ليجر العربة, وكل شارد في خياله.. تتبعهم كلاب تنبح على جانبي الطريق المؤدي إلى المدينة..
كان الطريق ثقيلا على قلوبهم.
وكان المسار .
غرباء في أرض الغرابة..من كل جنس و لون.

يداري أبو محمود خيبته بالصراخ على زوجته بالإسراع في تفريغ حمولة العربة من محتوياتها.
وأولاد الحي يتجمعون كالذباب على مزبلة طازجة.
يستكشفون الوافدين الجدد.
وفضولهم يؤرق هذا القروي التائه, الحائر في مستقبل أطفاله, يغلق الباب ليبعد هؤلاء الصبية المزعجين.
بعد أن أفرغت أغراض المنزل طلب أبو محمود من زوجته إعداد الشاي بعد عناء الرحلة.

لم تغمض عين هاجر تلك الليلة.. :
- الحر شديد..؟!
- طبيعة الإسمنت يا هاجر.
- والبعوض..؟!
- رفيق البرك الآسنة.
- النجوم والقمر...؟!
- نسيناها هناك.
- ونحن ؟!
- لنا الله يا هاجر.. لا يترك أحدا من عباده.
نامي فالصباح رباح.

عندما التقيت به, كانت السنين قد تركت بصماتها على ملامح وجهه, والحسرة في قلبه والمرض يفتك به بتسارع شديد.
الألم في ظهره وركبتيه يشل حركته.. خارت قواه ولم يعد يقوى على حمل الأثقال.. وترك ساحة المتحف كبغل أجرب.. هزيلا.. ناحلا ..شاحب الوجه.
فالساحة التي اعتاد الذهاب إليها كل صباح مع بزوغ الفجر منذ سكنه في المدينة تحتاج لشاب قوي العضلات وليس لرجل تجاوز الخمسين من العمر وآثار المرض بادية على محياه.

تكسرت الأحلام وتشرد الأولاد, وكلما أنجبت هاجر طفلا ..كان أبو محمود يعزي نفسه ..الرزق من عند الله, يرزقنا وإياهم..

تزداد الحسرة في قلبه وهو يرى زوجته تفك "اللحف والفرش" المحشوة بالصوف لتغسل الوجوه وتنفش الصوف وتعيد "تنجيدها" مقابل أجر يطعم الجياع.

ينتقل الألم إلى المعدة وحرقة في الصدر.. وحسرة فتكت به عندما ترك محمود المدرسة وهو في الصف السابع.
لم يكن محمود متفوقا.. لكن أحلام أبا محمود كانت كبيرة..
كان يحلم بأن يراه يلبس بدلة أنيقة ويتوجه في الصباح إلى الوظيفة.. ولكن هيهات ..ضاعت الأحلام وتكسرت في مناطق المخالفات.. إذ الأحلام ممنوعة والآفاق مغلقة.. بيوت من الأسمنت والصفيح. دروب من الوحل والبرك الآسنة.
حشرات من كل صنف ولون..
ودوريات شركة المياه تجعلهم يسدون أبواب بيوتهم, كالأرانب عندما تهرب من الضواري, ويغلقون أفواههم خشية قطع الماء عنهم.

تزداد نوبات الألم كلما رأى ابنه البكر عائدا من العمل في المساء, والتعب على وجهه والجروح الناجمة عن مسمار صدئ حفر قدمه ,أو ضربة مطرقة طائشة على يده.
يزداد القهر, وتتمزق أحشاءه عندما يرى محمود يحمل في جيبه قطع" السكاكر الحمراء" يوزعها على إخوته سرا..

كلما ازداد ألمه زاد رفضه للذهاب إلى الطبيب.. فتكاليف المعاينة وثمن الدواء.. ناهيك عن التحاليل والصور قد تطعم العائلة شهرا كاملا.

في المساء وبعد عودة محمود من عمله تواصلت نوبات الألم ولم يعد أبو محمود قادرا على الاحتمال, زاغت عيناه فصاح بابنه البكر يوصيه إخوته وأمه.
الألم يفتك به , والندم ينهش جسده المتعب.
يهرع محمود ينادي جيرانه والدمعة تطفر من عينيه, يسرع بعض الجوار للنجدة ونساء يحملن أطفالهن على صدورهن يتبعهن بعض الصبية.. يهرع أحدهم لإحضار سيارة لنقل أبو محمود إلى المشفى الوطني ....

تتهادى الشاحنة الصغيرة وتخفق بنا وتتمايل, لتفادي الحفر التي تملأ الشوارع, وأبو محمود يتوسل أن نأخذه إلى هناك حيث الهواء العليل.. لا يريد الذهاب إلى المشفى, يريد أن يعود إلى هناك إلى حيث كان يركض في السهول, ويجمع شقائق النعمان.. يزداد أنينه كلما اجتازت الشاحنة المطبات التي ملأت الشوارع القذرة في المدينة, يدخل في غيبوبة ويزداد شحوبه ..

دخلت الشاحنة البوابة الكبيرة إلى مدخل الإسعاف, نسرع بحسده المسجى إلى غرفة الإسعاف, أنين وصراخ.. أطفال بائسون على الأسرة, رجال متعبون يفترشون الأرض, ونساء.

ننتظر أن يسألنا أحدهم ما به..؟! أبادر بالحديث ..

- الرجل يتألم, وقد دخل بغيبوبة:
- ............... ...........؟!
يتأمل الطبيب المقيم ببدلته الخضراء جهاز الموبايل, يبتسم قليلا ثم يعيد الجهاز إلى جيبه.
يسألني دون أن يرفع رأسه:
- ما به
- لست أدري ولكنه يتألم ...
يمسك بيده صورة شعاعيه لأحد المرضى, يكتب على ورقة بضع كلمات..
أحضر أوراق القبول..
ينهض من على كرسيه يغسل يديه ثم يجففهما بآلة تنفث الهواء.. يرمقني بازدراء..
- ..........
يضع الطبيب السماعة على صدره, يقلب جفنه.
يعود للجلوس على كرسيه..
- خذوه إلى المنزل .. لقد مات.
تعود العائلة من القرية بعد انتهاء مدة العزاء, ويعود محمود إلى عمله..
في المساء يجلس محمود على حافة المسطبة, يحتسي الشاي وينفث الدخان في الهواء.
الفرق بينه وبين أبيه أنه يفضل علب الدخان الملفوفة مسبقا, حتى ولو كانت من النوع الرديء..

حسن الرفيع
الرقة