قصة قصيرة: (12) لغز الخزينــــــة !
قحطـان فؤاد الخطيب / العراق

أن تقول تم السطو على متجر، أو سوق، أو مجمع تجاري كبير أو صغير، يؤخذ على محمل الجد، ويتم تصديقه بعفوية. أما أن تقول أفرغت الخزينة من محتوياتها دون استخدام آلة ميكانيكية أو مفتاح، فذلك أمر يبعث على الحيرة، وهذا ما كان!

متجر كبير، يتناوب على حراسته خمسة رجال، مفتولي العضلات، على مدار الساعة، وتزين نهايته خزانة عملاقة، عامرة بالعملات الصعبة والليرات السورية والتركية آنذاك، إضافة إلى العملة المحلية ...........وتعتلي رفوفها سندات عقارية لا حصر لها وكمبيالات بآلاف الدنانير، وعقود وقوائم وفواتير إضافة إلى المخشلات الذهبية الثمينة والأحجار الكريمة النفيسة .......متجر يقع وسط السوق التجاري المزدحم ليل نهار، ويختص ببيع السلع التجارية الاعتيادية والمعمرة، والغذائية والمنزلية بالجملة والمفرد، ويقصده الكبار والصغار، الرجال والنساء، وتجار المدينة وقصباتها وأريافها.

في الصباح الباكر، وكعادته المألوفة، دلف (ص) في متجره، تعلوه ابتسامات عريضة، وهو يحيي المتبضعين ومنتسبيه يمينـا وشمالا، تلفه عباءة وبرية، مطرزة بحرير ثمين يوحي بأنه من النخبة، حتى استقر فوق كرسيه، وكأنه يحصي زبائنه، وهو ينفث دخان سيجاره الكوبي المميز، مادا يده في جيبه كي يستخرج مفتاح خزانته. مضت ثانية واحدة فقط، وهنا علا صوت غريب: ما هذا ؟ يا لهول الأمر ......... ما هذا ؟ ومصيبتاه.....!

تجمع حوله لفيف من المنتسبين والحاضرين وأفواههم فاغرة متسائلين: ماذا حدث ؟

طفقت دمعتان ساخنتان من عينيه المتعبتين حسرة وهو يتمتم بأنين: لا حول ولا قوة إلا بالله!!

"أشك بكم جميعا بلا استثناء ! أين النقود ؟ أين العملة الصعبة ........آه، أين المخشلات الذهبية ؟ أين ؟"
"هدئ من روعك، سيدي." قال كبير المنتسبين (م) ، فيما قال آخر (ع) "المال وسخ الدنيا، علام الحزن !؟"

"الوسخ أنت، أيها الغدار. أنت من سرقني. سأذهب إلى مركز الشرطة وأسجل محضرا يدينك أنت، يا خائن الخبز والملح "!

بسرعة، أسرع من لمح البصر، انطلق نحو المركز العام وفي ذهنه الواهن تتراقص علامات استفهام لا حصر لها ........ "عقدان من الزمن وهم يعملون معي..... الله أعلم كم سرقوا مني !؟"

وصل المركز العام، وكان بانتظاره المحقق الذي دون إفادته على الفور، ثم قال له " لا سر في الموضوع، أنت تركت المفتاح في مكان ما، فاستغل الموقف أحد منتسبيك ، وقام بعملية السرقة الخاطفة، أو أن أحدهم استنسخ المفتاح. لنذهب لإجراء الكشف ألموقعي، وهناك يماط اللثام عن الملابسات" !

مضى المحقق ومعه ثلة من أفراد الشرطة، بصحبة مفوض الأدلة الجنائية إلى مسرح الجريمة وتبين بأن الخزانة لم تتعرض إلى عبث أو تخريب، بل تم فتحها بواسطة مفتاح ليس غير ! ثم جرى الحوار التالي بين المحقق والمالك على خلفية المعاينة الميدانية للخزينة :
المحقق : "هل تتهم أحدا ؟"
المالك : "أضن أن منتسبي ربما يكونوا الفاعلين! "
المحقق : وكم عددهم ؟"
المالك : "خمسة."
المحقق : "إذن، كلهم موقوفون على ذمة التحقيق."

جن جنون منتسبيه، وهم يسمعون هذا الحوار الغريب، وشرعوا يتكلمون بأعلى أصواتهم بلا تحفظ قائلين: "نحن خدمنا هذا المتجر القذر عشرين عاما: صيفا، وشتاءا، وربيعا، وخريفا، بكل ما أوتينا من قوة. نحن أصحاب أسر كبيرة، نحرم إدخال المال الحرام إلى بيوتنا. أيهــا المحقق، سنطيع القانون بحذافيره، ونأتي معك دون إكراه. أنه لا محالة يفتري علينا. ولكن، نرجوك أن تسجل في محضرك أننا أبرياء من التهمة، ونطالب بتبرئة ساحتنا، ورد اعتبارنا. وحذار، (ص) ، أن يكون بلاغك كاذبا وإلا ستكون تحت طائلة المساءلة..........." صرخ آخر (لـ) وهو في أعلى السلم :
"لماذا لا تتهم نفسك والمفتاح لا يبارحك لحظة !؟"

تجمهر الناس، وكأنهم نمل تدفقوا من باطن الأرض، من كل حدب وصوب، مذهولين للحادث الجلل، فيما قام أعضاء المفرزة بإبعادهم شيئا فشيئا كي لا يؤثر ذلك على وضع الأصفاد في أيدي المتهمين الخمسة .

أجري الكشف على عجل، وختم المحضر مؤقتا كي يفتح بعدئذ في المركز وكأن لسان حال المحقق يقول: "أحد الطرفين متورط كما يبدو ليس إلا . سأحسم القضية في بحر دقائق!"

انتقل المشهد برمته إلى ميدان التحقيق المعمق. وهناك ...... تجمع كل المحققين وكبار الضباط، وقاموا باستجوابهم جميعا لساعات طويلة متواصلة، ضنا منهم أن حسم الدعوى لا يستغرق سوى ساعات فقط. غير أن بوصلة رياح الاستجواب أشارت إلى ما لا تشتهي السفن. فالبراءة جلية بخصوصهم جميعا من تلك التهمة الكيدية. هنا، حامت الشبهة حول المشتكي، الرجل الوقور. وأصدروا له ورقة استدعاء بالحضور.

حضر الرجل، وقد شحب وجهه، وخارت قواه، ونقص وزنه. نعم، حضر وكان يساوره أمل بأن الفاعل الحقيقي قد اكتشف ! لكن الحوار التالي أفقده صوابه وكاد يخر مغشيا عليه :
المحقق:" تم التحقيق بعمق مع منتسبيك الخمسة وثبتت براءتهم وتم إطلاق سراحهم . لكنهم قدموا شكوى تدينك أولا ثم طالبوا برد الاعتبار ثانيا. ما قولك ؟"

المالك : (فاقدا توازنه ومتفوها بكلمات غريبة غير مترابطة) أنا متهم ؟ أنا........................؟ فقد مني ألاف الدولارات والجنيهات الإسترلينية والفرنكات الألمانية والسويسرية والفرنسية ومخشلات ذهبية وتقول لي أنا متهم ؟"
المحقق: "تحوم الشبهات حولك أو حول تواطئك مع آخرين ".
المالك : "أتمزح أيها المحقق ؟"
المحقق : "احترم نفسك وإلا......................"

تواصل الاستجواب بلا توقف، فيما انخرط المحققون الآخرون في التعمق بملابساته. وعلى غير ما توقعوا ، فقد طال التحقيق أكثر مما تطلب . وثبتت براءة المالك، (ص) لكن الدعوى لا يمكن غلقها. فأفرج عنه بكفالة. وتواصل التحقيق.

وفجأة أشار أحد المحققين البارزين إلى وجود سارق ضليع بمسائل الخزائن، يدعى (أ) ربما يستطيع تسليط الضوء على هذا اللغز المحير ! هنا صدر أمر باستدعائه. لكن محله كان مقفلا لأنه محكوم بجناية آنذاك ، وحاليا يقضي محكوميته في السجن, مما جعل لجنة المحققين تغض الطرف عن استدعائه لكونه غائبا عن مسرح السرقة وقت حدوثها .
أصيب الكل بالإحباط أمام فك رموز هذه العملية الغريبة. الخزانة سليمة، ولا بصمات أصابع عليها، والمفتاح لا يفارق المالك، (ص) . إذن، طرح الكل السؤال التالي: من الفاعل ؟ حققنا بعمق مع الكل فلم نحصل على خيط يوصلنا إلى فك رموز هذه الجريمة!
فجأة..........., قال المحقق البارز مغتبطا. "لقد عثرت على السارق . هيا بنا إلى السجن."

سأل المحقق البارز مأمور السجن :
المحقق: "هل لديكم مسجون يحمل الاسم (أ) ؟"
المأمور: "نعم."
المحقق: "في يوم / / 1953 الساعة 19 أين كان ؟"
المأمور: (يفتح السجل ويقلب الصفحات ثم يقول) "شعر بمغص حاد وشك بأن زائدته الدودية كانت ستنفجر. ولهذا أرسل إلى المستشفى الملكي ثم عاد في الصباح الباكر وقد أخذ العلاج."
هنا صدقت الرؤيا، وفتح المحضر من جديد. وباح (أ) بكل صغيرة وكبيرة . وأعيدت النقود والمجوهرات إلى صاحبها الشرعي الذي ما أن استلمها غير منقوصة حتى باغتته جلطة دماغية حادة نقل على إثرها إلى المستشفى وهناك رسم مستقبله المجهول!!!