لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2011-04-08
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
تمهيد:
قبل أسبوعين أجريت عملاً جراحياً... يقتضي نقاهة تزيد عن أربعة أسابيع تمنعني من ممارسة أي عمل حتى ولو كان دعوياً، وهذا جواب تساؤلات كثيرة مضمونها: أين الشيخ في هذه الأيام ؟
في زحمة الأحداث، وتسارع المتغيرات، وفي خضم تداعيات النوازل والمستجدات، وكثرة الأطروحات والتحليلات، يلحظ المتأمل الغيور غياباً أو تغييباً للرؤية الصحيحة، والنظر الثاقب في فقه السنن الكونية، حتى حصل من جرّاء ذلك... زلل في الأقدام، وخطأ في الأقلام، واضطراب في الأفهام، وتشويش وحيرة عند كثير من أهل الإسلام، مما يؤكد أهمية المرجعية الواحدة الموحدة للأمة الواحدة التي ينبغي أن ترتكز في تحقيق أهدافها على صحة المعتقد، وسلامة المنهج، والعناية بمصالح الأمة الكبرى، ومقاصد الشريعة العظمى، باعتدال في الرؤى، وتوازن في النظر، وأسلوبٍ عالٍ في الطرح والحوار.
حقائق عامة:
وهأنذا أضع بين يدي إخوتي في هذا المسجد، وبين إخوتي المواطنين في هذا البلد الطيب هذه الحقائق التالية:
أولاً:
انطلاقاً من غيرتي على بلدي سورية الحبيبة، وعلى أمنها واستقرارها، ومستقبل أجيالها، ووحدة أرضها وشعبها أردت إلقاء هذه الخطبة على الرغم من أنني ما زلت في فترة النقاهة، فلعل هذه الخطبة تكون إضاءة كاشفة لما ينبغي أن نكون عليه، وأحتسبها عند الله تعالى
ثانياً:
أعزي من أعماق قلبي أهل الشهداء جميعاً من كل شرائح أبناء هذا الوطن الذين قَضَوْا من أجل الشأن العام وأرجو الله جل جلاله أن يكونوا أحياء عند ربهم يرزقون.
ثالثاً:
تتشابه الدول النامية في الأعم الأغلب في المشكلات التي تعاني منها شعوبها، وقد قلت في ندوة تلفزيونية قبل خمسة وعشرين عاماً تقريباً... أخاطب أولي الأمر: أعطِ المواطن رغيف خبزه وكرامته، وخذ منه كل شيء، ولا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم.
تعريف الإنسان:
فالإنسان جسم يتحرك وغذاؤه الطعام والشراب
وهو عقل يدرك وغذاؤه العلم والمعرفة
وهو قلب يشعر وغذاؤه الحب والولاء.
فحينما لا تتحقق هذه الحاجات الأساسية للإنسان يختل توازنه، ويتصرف بطريقة قد لا ترضي الطرف الآخر، لأن الآخر في بعض الأحيان لا يعاني ما يعانيه.
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبـابــة إلا من يعانــيـها
والشيء الذي يلفت النظر أن القيادة العليا صرحت: إن طلبات هؤلاء المحتجين محقه وما من موضوع إلا ويخضع للبحث والدرس وهذا موقف موضوعي من القيادة يلفت النظر، وتشكر عليه
تنويه:
ولا بد من التنويه أنّك لو أعطيت الإنسان رغيف خبزه ولم يشعر بكرامته لا تحل المشكلة لأنه كما ورد:
ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان
ومما يلفت النظر أيضاً في الأحداث الأخيرة أن المواطنين على اختلاف أطيافهم وانتماءاتهم لم يطرحوا أي طرح طائفي وهذا وسام شرف لهذه الأمة .
وإذا أردتم التأصيل الديني لوحدة الأمة على الرغم من تعدد أطيافها... أن النبي ( ص ) حينما دخل المدينة كان فيها الأوس والخزرج، وكان بعضهم مسلمون وبعضهم الآخر وثنيون، وعدد ليس بالقليل من أهل الكتاب، والموالي والأعراب، ومع ذلك قال صلى الله عليه وسلم:
( أهل يثرب أمة واحدة سلمهم واحدة وحربهم واحدة ) وهذا ما يعبّر عنه اليوم بالوحدة الوطنية، أو التعايش المشترك، أو السلم الأهلي، وهذا أصل من أصول ديننا الحنيف.
والذي يلفت النظر ويبعث على الطمأنينة أنني لم يصل إلى سمعي طرح طائفي إطلاقاً ولا طرح إقليمي في هذه الأزمة الحادة التي يمرُّ بها وطننا، بل هو مطلب الحرية ومحاربة الفساد
لكن البعض يكيد لبلدنا الحبيب حينما يحاول أن يعطي هذه الأزمة بعداً طائفياً وهذا خطأ شنيع، وسلوك قذر، وأنا أؤمن بكل قطرة في دمي، وبكل خلية في جسمي أن الشعبَ أيَّ شعبٍ همّه الوحيد كيف يُحكم لا من يحكمه، وهذه الحقيقة تلغي أي تفسير طائفي وحينما تتحقق للمواطن حاجاته المادية الأساسية، وحاجاته النفسية ولاسيما حريته التي تؤكد كرامته، فإن المواطن سيقدر هذا عالياً، وعندئذٍ يتفانى في خدمة وطنه، والذود عنه، والإسهام في نهضته.
وحينما فتحت جيوش المسلمين البلاد شرقاً وغرباً وأن شعوب هذه البلاد حينما رأت عدل المسلمين ورحمتهم أعطوا ولاءَهم وحبَّهم لهم وهذا يؤكده تاريخ الفتوحات الإسلامية.
يقول أحد الفرنجة الذي شهد فتح القدس من قبل صلاح الدين: إن المسلمين لم يؤذوا أحداً، ولم ينهبوا مالاً ولم يقتلوا مسالماً، ولا معاهداً، ولم نرَ منهم إلا الخير والمروءة وهم أهل حضارة وتمدُن وصدق
وصَدَقَ من قال:
ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم منهم
وهذا ما آمله من أبناء وطننا الحبيب في شتى أطيافه واتجاهاته، ولا سيما صانعوا القرار.
ولا بد من الإشارة إلى أن المقولة التي تتردد كثيراً أنناً مستهدفون لأننا أخذنا مواقف كدنا ننفرد بها من دعم للمقاومة، ورفض لكل حل استسلامي مع أعداء أمتنا وهذه المواقف هي وسام شرف لبلدنا الطيب حقَّ لنا أن نفتخرَ بها...
ولكن هذا لا يُعفينا من الحديث عن الأخطاء والبحث عن الحلول لها فهذا يعد على المدى البعيد أحد أهم الأسباب التي تعيننا على متابعة صمودنا وتصدينا لكل عدوان من قبل أعداء الأمة
المنصب القيادي:
وحينما تختار القيادة العليا مواطناً لشغل منصب قيادي حُقَّ لها أن تشترط فيه الوطنية والولاء أولاً، ولكن لا بد من أن تضيف إلى شرط الوطنية والولاء شرط الكفاءة والنزاهة
( قالت يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ) القوي ( صاحب الكفاءة ) الأمين(صاحب المبادئ والقيم ) وعندنا في هذا البلد الطيب من هذه الكفاءات العلمية والأخلاقية العدد الكبير.
كيفية الخروج من هذه الأزمة:
الناس يهدؤون من خلال عيونهم لا من خلال آذانهم:
أما الوسائل الفعالة للخروج من هذه الأزمة فأعتقد أن الناس يهدؤون من خلال عيونهم، لا من خلال آذانهم فلا بد من إنجازات تشريعية ومعاشية يراها المواطنون بأعينهم في أقرب وقت، فالوعود التي أدلت بها القيادة العليا ينبغي أن يوضع لها سقف زمني محدّد وقريب، لتصبح بعد انقضاء المدة واقعاً يعيشه المواطنون، وقد بدأت تصدر بعض المراسيم والقوانين والحمد لله.
محاسبة المسيئين:
ولا بد من الإسراع في عمل اللجنة التي شكلت لتحاسب كل مسؤول عما اقترفت يداه وأن يحال إلى القضاء لينال جزاءه العادل، فالإنسان بنيان الله في الأرض وملعون من هدم بنيان الله، وقد نظر ابن عمر رضي الله عنهما يوماً إلى الكعبة المشرفة فقال: ما أعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة منك عند الله
تحقيق المطالب:
وهناك مطالب قد تحققت تستدعي شكراً لمن تحققت هذه المطالب على يديه وبسببه، ومطالب وعد المسؤولون بتحقيقها، فالشعب ينتظر تحقيقها بفارغ الصبر.
الرجوع إلى التاريخ الإسلامي:
وأتمنى على الإخوة المسؤولين أن يتطلعوا إلى خصائص العصور الذهبية في التاريخ الإسلامي هذه العصور التي سعدت بها أمتنا في مراحل تاريخها المتألق، وليس مستحيلاً أن يعيد التاريخ نفسه
قصة فاطمة مع زوجها الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز:
تروي فاطمة بنت عبد الملك، زوجة الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين " دخلت على عمر يوماً في مصلاه فرأيته واضعاً يده على خده، ودموعه تسيل، فقلـت له: ما بالك، وفيم بكاؤك ؟ فقال: دعيني وشأني، فلما ألحت عليه قال لها: ويحك يا فاطمة، إني قد وُليت هذا الأمر، ففكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهول، واليتيم المكسور، والمظلوم المقهـور، والغريب، والأسير، والشيخ الكبير، والأرملة الوحيدة، وذي العيال الكثير، والــرزق القليل، وأشباههم في أطراف البلاد، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم جميعاً يوم القيامة، وأن خصمي دونهم يومئذ رسول الله (ص )، فخشيت ألا تثبت لي حجة، فلذلك أبكي ".
إنما تنصرون بضعفائكم:
وقد قال عليه الصلاة والسلام: " إنما تنصرون بضعفائكم "، وفي الحديث الشريف هذا ملمحان دقيقان... الأول ملمح توحيدي: وهو أن القوي الذي مكنه الله في الأرض إذا نصر الضعيف أطعمه إن كان جائعاً، وكساه إن كان عارياً، وآواه إن كان مشرداً، ووفر له عملاً إن كان عاطلاً، وعالجه إن كان مريضاً، وهيأ له سبل المعرفة إن كان جاهلاً، ونصره إن كان مظلوماً، منحه أسباب كرامته إن كان مضطهداً... عندئذ يكافئ الله القوي مكافأة من جنس عمله، فينصره على أعدائه الأقوى منه، والملمح الثاني واقعي: وهو أن الأمة بنصرة الضعيف تتماسك وتجتمع وتصبح سداً منيعاً، فلا يستطيع العدو الخارجي أن يخرقها، ولا أن يفتت وحدتها، ولا أن يشق صفوفها.
أعط الإنسان رغيف خبزه وكرامته وخذ منه كل شيء ولا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم
معالجة المشكلات من أسبابها لا من نتائجها:
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج المشكلات من أسبابها، لا من نتائجها، فقد دخل رجل بستان أنصاري، وأكل من شجرة من دون إذنه فساقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم على أنه سارق، فقال عليه الصلاة والسلام:
هلا علمته إن كان جاهلاً، وهلا أطعمته إن كان جائعاً
ما أروع هذا الكلام لقد عالج النبي الكريم المسألة من أسبابها
وأتمنى على الإخوة المسؤولين في القيادة العليا أن يؤكدوا للمواطنين مرات ومرات أن المواطن ما لم يكن مذنباً فهو آمن في بيته، وفي عمله، وفي حله وترحاله، وأن أحداً مهما يكن قوياً لا يستطيع أن يسلبه حريته وأمنه واستقراره
وأتمنى على الإخوة المسؤولين في القيادة العليا أن يأخذوا بالقاعد الذهبية، مالم يكافأ المحسن، وما لم يعاقب المسيء فلن ينضبط الناس انضباطاً ذاتياً يسهم في ازدهار الوطن ورفعة شأنه.
عمر بن الخطاب:
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه... كان إذا أراد إنفاذ أمر، جمع أهله وخاصته، وقال إني قد أمرت الناس بكذا، ونهيتهم عن كذا، والناس كالطير، إن رأوكم وقعتم وقعوا... وايم الله... لا أوتين بواحد وقع في ما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني... فصارت القرابة من عمر مصيبة
وقال عمر رضي الله عنه لأحد ولاته : إن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم، فإذا وفينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إن هذه الأيدي خلقت لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً، التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة، قبل أن تشغلك بالمعصية، ولا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم
أتمنى:
أولاً:
وأتمنى على الإخوة المسؤولين في القيادة العليا أن يقدموا للمواطنين في أقرب وقت ممكن انجازاً ملموساً يرونه بأعينهم ولا يسمعونه بآذانهم، يحقق لهم حاجاتهم الأساسية ويحقق لهم أيضاً تطلعاتهم إلى الحرية، ولاسيما تلك البنود التي أدلت بها القيادة في بداية الأزمة، وقد بدأت بعض القرارات تصدر تباعاً تحقيقاً للوعود التي قطعتها القيادة العليا للمواطنين.
ثانياًً:
وأتمنى على الإخوة المسؤولين في القيادة العليا أن يباشروا في محاسبة الذين تسببوا في الذي جرى في بعض المحافظات السورية قال تعالى:
﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ﴾
[ سورة البقرة الآية: 179 ]
وعندئذ تكون محاسبتهم شفاء لما في الصدور.
﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ﴾
[ سورة المائدة الآية: 32 ]
ثالثاًً:
وأتمنى على الإخوة المواطنين... أن يعتقدوا أن إنكار المنكر ينبغي ألا يؤدي إلى فتنة عمياء لا تبقي ولا تذر، أدعوهم أن يستجيبوا لنداء المسؤولين إلى التهدئة وأن يعطوا المسؤولين الوقت الكافي لدراسة مشاريع القوانين التي تحقق بعض مطالب المواطنين، تمهيداً لإصدارها
رابعاً:
وأتمنى على الإخوة المواطنين... أن ينصرفوا إلى أعمالهم وأن يجهدوا في إتقانها وتطويرها ليكون عمل كل مواطن تعبيراً عن انتمائه لوطنه وحبه له، وتأكيداً للمواطنة الصالحة التي يتطلع إليها المجتمع السوري قيادة وشعباً.
نصائح:
فأسرنا ينبغي أن تتماسك، وأمهاتنا ينبغي لهن أن يتفرغن لتربية أولادهن، وطالبنا ينبغي أن يتفوق، ومعلمنا ينبغي له أن يحمل رسالة سامية يسعى لتحقيقها بين طلابه، وعاملنا ينبغي أن يتقن، وفلاحنا ينبغي أن يرتبط بأرضه ليزرعها، وموظفنا ينبغي أن يتفانى في خدمة دافعي الضرائب، وقاضينا ينبغي أن يعدل، وعالمنا ينبغي أن يؤثر خدمة أمته على حظوظه من الدنيا، وداعيتنا ينبغي أن ينصح ولا يمدح، وضابطنا ينبغي له أن يوقن أن المعركة مع العدو قادمة لا محالة، وأن حديث العدو عن السلام مراوغة، وكذب، وكسب للوقت ليس غير، وثرواتنا ينبغي أن تستخرج، ومصانعنا ينبغي أن تتطور، وأرضنا ينبغي أن تستصلح، ومياهنا ينبغي أن يرشد استهلاكها، وهذا لا يكون إلا بإيمان بالله يحملنا على طاعته، وإيمان باليوم الآخر يحملنا على ألا نظلم بعضنا بعضاً، وأن نطلب جزاء جهدنا وجهادنا في الجنة، وهذا نوع من الجهاد لا تقطف ثماره عاجلاً بل آجلاً، وأنا أسمي هذا الجهاد الجهاد البنائي.
إن بعض الاندفاع قد يضاعف المعاناة بدلاً من أن يحلها.
والغفلة عن المستقبل ستجعلنا مشغولين أبداً بإطفاء الحرائق هنا وهناك عن العمل الجاد الذي يخفف المعاناة عن أجيالنا اللاحقة.
وأن علاج الجرح المفتوح على أهميته ينبغي ألا ينسينا في التفكير في مستقبل أجيالنا..التي سوف تتساءل: هل تركنا لها شيئاً آخر غير الجراح ؟!
ينبغي أن يفكر الفرد الواحد في الموقع الذي يفرغ فيه طاقته، ويؤدي من خلاله دوره ورسالته
وبتحديد هدفه يـبدأ بالمسير إليه، وبخطى ثابتة يقطع مراحل منه، فيكون قد رسم الهدف وحدد الطريق وبدأ السعي.. وهذا يوصل وفق السنن الربانية إلى الهدف ، ومن ثم تتزايد الأعداد الإيجابية التي تمارس دورها بشكل صحيح، بدلاً من أن تكون هذه الأعداد تتساءل فقط ماذا نعمل ؟ ثم لا تعمل شيئاً .
ولا ينبغي ألا يكون تفكير الفرد الواحد دائماً هو أن يرفع المعاناة عن الأمة كلها، فالواحد القادر على رفع المعاناة كلها هو الله وحده عز وجل.
أما البشر فيكفي أن يستفرغ المرء جهده وطاقته ولا يدخر منها شيئاً في موقع معين، ثم لا يضيره أن تتحقق النتائج على يد غيره بعد وضع الأساس وبدء البناء.
إن رَفْع المعاناة عن الأمة يتطلب عدداً كبيراً من المؤمنين الواعين المخلصين المضحين في جميع الميادين، وهذا ما يجب أن نسعى إليه، ولأن ينجح فرد في إعداد مجموعة من المواطنين إعدادًا إيمانياً وعلمياً وعقلياً وخلقياً ونفسياً واجتماعياً وجسدياً أحب، وأنفع من أن يلقي بنفسه في أُتون نار تقول: هل من مزيد، إن النجاح يكمن في أن يستخدم المرء عقله قبل يده، كما يفعل أعداؤنا .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
(( يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ، لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ ))
ولاشك أن هنالك تقصيراً من الدعاة في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأمراء، وأن هناك تقصيراً من الأمراء في واجب إزالة المنكرات.
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَعَزُّ وَأَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْمَلُهُ لَمْ يُغَيِّرُوهُ إِلَّا عَمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ ))
وعن النُّعْمَان بْن بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ النعمان بن بشير رضي الله عنه:
((أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ' مَثَلُ القَائِم في حُدُودِ اللَّه والْوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ اسْتَهَموا على سَفِينَةٍ، فَأَصابَ بَعْضُهم أعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفلَهَا، فكان الذي في أَسفلها إذا استَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوقَهمْ، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نَصِيبِنَا خَرقا ولَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنا ؟ فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعا، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعا ))
والتعبير الحديث:
نحن جميعاً في هذا الوطن في قارب واحد.
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: الأمر بالمعروف والنهي عم المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو الذي بعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمَّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد، وقد كان الذي خفنا أن يكون، فإن لله وإنا إليه راجعون.
هاهنا يبرز معنى الجهاد البنائي بمفهومه الواسع الذي يغفل عنه معظم المسلمين والذي هو بذل أقصى الوسع، واستفراغ الطاقة في تحصيل المراد.
والغفلة عن المستقبل ستجعلنا مشغولين أبداً بإطفاء الحرائق هنا وهناك عن العمل الجاد الذي يخفف المعاناة عن أجيالنا اللاحقة.
والسؤال الملح اليوم: هل من ورقة عمل توضع بين أيدي المسلمين ؟
الخطبة الثانية:
ورقة العمل بين أيدي المسلمين:
ورقة العمل التي ينبغي أن توضع بين أيدي المؤمنين المسلمين المواطنين هي ورقة دقيقة فيها نقاط عدة.
النقطة الأولى:
النقطة الأولى في ورقة العمل العودة إلى منهج السماء علماً وعملاً معاً، لا بد من العلم المؤصل، والعمل المخلص لخطورة هذه المرحلة التي نمر بها الآن حتى لا نؤذي من حيث نريد الإصلاح، وحتى لا نفسد من حيث نريد الخلاص، لا بد من فهم صحيح، وعمل صادق، ولا سيما أن الجهل يعد أعدى أعداء الإنسان لأن الجاهل يفعل في نفسه مالا يستطيع عدوه أن يفعله به
النقطة الأولى طلب العلم، فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم
النقطة الثانية:
النقطة الثانية: تجديد الإيمان، نحن لا نظن أن الأمة قد نبذت الإيمان بالكلية، ولكن نقول الإيمان يزيد وينقص، ويتجدد ويبلى، ويقول عليه الصلاة والسلام:
(( إن الإيمان ليخلَق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ))
[ رواه الطبراني في الكبير إسناده حسن ]
نحن في أمس الحاجة إلى تجديد للإيمان، لأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، نحتاج إيماناً يعرفنا بربنا، نحتاج إيماناً يجدد في قلوبنا التوكل على الله، والثقة بالله وحده، والرجاء فيه وحده، والاعتماد عليه وحده، والتوكل عليه وحده، واليقين فيه وحده، نحتاج إيماناً إن استقر في قلوبنا نطقت به ألسنتنا، وصدقته أعمالنا.
في الدعاء المأثور:
" اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن الرجاء إلا فيما عندك، ومن الصبر إلا على بابك، ومن الذل إلا في طاعتك " .
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ))
النقطة الثالثة:
النقطة الثالثة في ورقة العمل التي ينبغي أن تكون بين أيدينا هي الأخوة الصادقة بين المواطنين على اختلاف أطيافهم ومشاربهم وقد قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾
[ سورة الحجرات الآية: 10 ]
وعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ))
ولكن أتساءل أحياناً أين الأخوة الإيمانية ؟ أين أمة الجسد الواحد ؟
نخشى أن ينظر المواطن إلى وضع إخوانه الآخرين المأساوي في شتى أرجاء الوطن، فيهز كتفيه، ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه، لا من قريب ولا من بعيد، ما دام هو آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه.
النقطة الرابعة:
النقطة الرابعة في ورقة العمل تحويل العلم إلى عمل، العلم ما عُمِل به، العلم في منهج السماء وسيلة وليس غاية، ينبغي أن يترجم العلم إلى عمل فإن العلم إذا خالف العمل بُذرت بذور النفاق في القلوب قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾
[ سورة الصف الآيات: 1-2 ]
ينبغي أن نحول المنهج العلمي الرباني إلى واقع عملي يتألق في دنيانا سمواً، وروعة، وحركة، وبناءً، أن نتحرك في هذه المرحلة إلى الدعوة إلى الله، نريد أن نُسمع العالم كله عظمة هذا الدين، وحقيقة هذا الدين، قم أيها الموحد دثر العالم كله ببردتك، ذات العبق الطاهر، قم وضم العالم كله إلى صدرك، وأسمعه خفقات قلبك، الذي وحد الله جل وعلا، قم واسق الدنيا كأس الفطرة، فطرة التوحيد التي فطر الله الناس عليها.
نداء لكل مواطن:
نريد الآن من كل مواطن غيور أن يبذل الغالي، والرخيص والنفس والنفيس من أجل حقن الدماء، ونزع فتيل القنبلة ، فإن لم تتحرك الآن، وإن لم تحمل الآن هموم أمتك وهموم وطنك، وإن لم تتحرك الآن لنصرة بلدك، وأمنه واستقراره، متى تتحرك ؟
لا تأكل ملء بطنك، ولا تنم ملء عينيك، ولا تضحك ملء فمك، وكأن الأمر أمر وطنك لا يعنيك.
عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(( بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَخَيَّلَ، وَاخْتَالَ، وَنَسِيَ الْكَبِيرَ الْمُتَعَالِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَجَبَّرَ، وَاعْتَدَى، وَنَسِيَ الْجَبَّارَ الْأَعْلَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ سَهَا وَلَهَا، وَنَسِيَ الْمَقَابِرَ وَالْبِلَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ عَتَا، وَطَغَى وَنَسِيَ الْمُبْتَدَا وَالْمُنْتَهَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدِّينَ بِالشُّبُهَاتِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ طَمَعٌ يَقُودُهُ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ هَوًى يُضِلُّهُ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ رَغَبٌ يُذِلُّهُ ))