مقدمة كتابي (مكونات السرد في الرواية الفلسطينية) المنشور عام 1999، في دمشق
على الرغم من أنّ الرواية أثبتت جدارتها الأدبيّة، وقدرتها على التطوّر في الوطن العربي وخارجه على حدّ سواء، فقد بقي تعريفها الجامع المانع أمراً عسيراً. ولم يطمئنَّ طّلاب الأدب ودارسوه منظّروه الكبَار إلى تعريف للرواية «أكثر إحكاماً من الصيغة المألوفة لدى مؤلّفي الكتب الأدبيّة الوجيزة. فالرواية ، تبعاً لهذا النوع من الكتيّبات، هي مجرّد، «سرد تخييلي نثري ذي طول معتبر»(1) .
وإذا كان هذا التعريف لا يخلو من تداخل كبير مع فنون النثر الأخرى، فإنَّ التعريفات الأكثر تفصيلاً لم تنجح في وضع جميع الروايات ضمن نطاقها.
غير أنّ المرء يستطيع أن يُعرِّف الرواية بأنها عمل نثري، طويل بالقياس إلى فنون النثر القصصيّ الأخرى، يعتمد على التخيُّل، ويقود مقدّمات الأحداث إلى خواتيمها، عبر سردٍ يقدّمه راوٍ مراقب أو مشارك في الأفعال التي تقوم بها الشخصيات خلال مواجهتها مع الظروف التي يفرضها مجتمع النصّ، في بيئة محدّدة، وفي زمانٍ معيّن.
وإذا كان هذا التعريف يمكِّننا من اشتقاق عناصر النصّ الروائي من شخصية وحدث وزمن وبيئة، فإنه يبقى عُرضةً لاختراق الرواية ذاتها، إذ إن هذه العناصر غير ثابتة في الرواية الحديثة ، ولا يستطيع المرء الأخذ بها إلاّ في حال الدراسات الشاملة التي تتناول ظاهرة أدبية أو حقبة تاريخية. وقد يجد المرء في الدراسات الرّوائية ذات الطابع الفردي رواية تتطوّر من الداخل، بفعل عنصر غالب على العناصر الأخرى. وقد يقرأ رواية دون أن يتمكن من القبض على عناصرها. وحسب المرء هنا الإشارة إلى الروايات التي تنتمي إلى تيّار الوعي، إذ تبدو الشخصيّة ذات كثافة سيكولوجية، وتعتمد التداعي مستفيدة من كلّ إنجازات اللغّة من لوازم وتكرارات وفواصل وأقواس(2) . دون أن تُلزم نفسها بتحديد للزمن أو للمكان..
وفي هذه الدراسة (بنيّة الرواية الفلسطينية) سوف يتمّ اللجوء إلى اعتماد التعريف الثاني ، بوصفه منطلقاً لها، لأنّ العدد الكبير من الروايات التي اعتُمد عليها لا يسمح بتجاوز مثل هذه العناصر، غير أنَّ التحليل، حين يتناول كلّ رواية على حدة، سوف يحاول إيجاد خصوصيّة ما، لكل رواية تخرج عن الشكل التقليدي.
n
ولكن ما الذي يدعو المرء إلى الكتابة حول فنّ الرواية، ولماذا الرواية الفلسطينيّة بالذات؟
إنّ الشطر الأوّل من المسألة يعود إلى أني أحببتُ هذا النوع الأدبي الذي يفتح إمكانيات مختلفة لإبداع المؤلف الذي لم يتمكن إبداع النّاقد من اللحاق به حتّى الآن.
والشطر الثّاني عائد إلى قناعتي أنّ دراسة الأدب الفلسطيني، وتقصّي تجليّات تأثيره في الأدبين العربي والعالمي وتأثره بهما، يمنح الشعب العربي الفلسطيني حصانة حضارية لا تمكّن أعداءه من اقتلاعه.
وإذا كان الأدب العربيّ الفلسطيني قد احتلَّ مكاناً مرموقاً في جغرافية الأدبين العربي والعالمي عبر أعلامه الكبار (جبرا ودرويش وإدوارد سعيد..الخ) ، فإنّ الهجوم المنظّم الذي تتعرض له الثقافة الفلسطينية، بدءاً بمحاولات الاقتلاع، وانتهاءً بمحاولات التطبيع والإلحاق، يدفع المرء إلى الدفاع عن هذه الثقافة. وهذا أضعف الإيمان.
n
غير أنّ الدفاع عن نوع أدبي محدّد، في إطار الدفاع عن الثقافة الوطنية، لا يكون عبر الخطاب الإيديولوجي ولكن عبر البحث عن البُنى الداخليّة التي تجعل منه نوعاً أدبيّاً يتميّزعن الأنواع الأدبيّة الأخرى. لأنّ الانطلاق من الإيديولوجية لا يعطي الفنّ قيمته الحقيقية، ذلك أنّ أحكام النقاد حول الأثر ستكون مختلفة حسب اختلاف أهوائهم ومنازعهم، حتّى إنّ الناقد نفسه يمكن أن يكون عرضةً لتغيير رأيه في أثر معين، ولا سيّما في عصر انهيار الإيديولوجيات الذي نعيش فيه.
ويجدر التنويه هنا بأنّ عدم الانطلاق من الإيديولوجية لا يعني إلغاءها، لأن كلّ نصّ يحمل دون شك رؤيةً ما، فإذا أصرّ باحثٌ على تقصيها، فليكن ذلك عبر تقصّي تجلياتها في الخطاب الأدبي.
وعلى الرغم من أنّ هذه الدراسة تنطلق من تصوّر نظري مسبق يقسم عناصر الرواية إلى زمن ومكان وشخصية وحدث و يفرضه عليها اختلاف تعامل الروائيين مع العناصر الروائية، وتكرار نماذج هذا التعامل، فإنها سعت في الوقت ذاته إلى استنتاج الأحكام والخصائص الفردية للروايات المتميّزة التي اخترقت التقليد. فالنصّ هو مرجع ذاته وهو الذي يفرز أدواته النقدية، ولا يكون «النقد نقداً حين يهمل النصّ، أو النصوص ، أو حين يكتفي بنظرة برانيّة لا ترى إلى دواخل النصّ»(3) .
وانطلاقاً من أنّ النصّ الأدبي يمتدّ دلاليّاً، ويتخذ أبعاداً جديدة حين ينفتح على النصوص الأخرى فقد عمدت الدراسة إلى إجراء مقارنات بين الرّواية الفلسطينية، والرواية العربية والعالمية، دون أن تتوسّع كثيراً في هذه المقارنات خوفاً من الخروج عن خطّة البحث.
إنّ تقصّي خصائص العناصر المكوّنة للخطاب الرّوائي في الرواية الفلسطينية سوف يتمّ عن طريق مواجهة النصّ مواجهةً «تتّخذ شكل شرح النصّ الأدبي، وتحليله، وتفسيره، وموازنته بغيره من النصوص، والحكم عليه »(4) عبر تقسيم هذه الدراسة الأدبية إلى أربعة أقسام:
§ في القسم الأول تتناول الدراسة الزمن الروائي من خلال تتبّع ثلاثية الزمن (الماضي ـ الحاضر ـ المستقبل) وافتتاحيّة الرواية، ودراسة الزمن الداخلي، والزمن الخارجي الذي ينفتح على زمن القراءة، وزمن الكاتب وزمن القارىء، ولا سيّما أنّ «دراسة العمل الأدبي لا يمكن أن تكون كاملةً، مستوفيةً لأهم جوانب العمليّة الأدبيّة ما لم تتطرّق ، ربما بتفصيل، إلى الدور الذي يلعبه القارىء في تحويل التجربة الفنيّة من دور القوّة إلى دور الفعل»(5)
§ ويحمل القسم الثاني عنوان (الفضاء في الرواية الفلسطينية) ويتمّ فيه تقصّي مواصفات الفضاء الروائي الفلسطيني، ومكوّناته الجغرافيّة والنصيّة والدلاليّة، والكشف عن الوظائف الأدبية للفضاء ، والوظائف فوق الأدبيّة تلك الوظائف التي يجري تتبعها إزاء النصّ، وإزاء الرواية وإزاء القارىء الذي يسهم في خلق الفضاء الروائي وفي إعطائه أبعاداً جديدة.
§ وفي القسم الثالث تتناول الدراسة الشخصية والحدث الروائيين:
أ ـ إذ يتّم البحث في طرق بناء الشخصيّات، ونمذجتها وتصنيفها، والبحث عن علاقاتها داخل الرواية.
ب ـ وتتم دراسة الحدث عبر تقسيمه إلى واقعيّ وتخيلي، وتقّصي أشكال تقديمه عبر السرد، والاعترافات، والرسائل، والأحلام، والوثائق.. وتقسيمِ الرواية، تبعاً لمصدر الحدث فيها إلى واقعية وتاريخية وأسطورية وخرافية، والاهتمام بدارسة الحوافز المحرّكة للأحداث، ودراسة الحبكة الروائيّة وعناصرها، وترتيب ظهورها في الرواية.
§ أما القسم الرابع فهو يحمل عنوان (الدراسة الفنيّة للغة الروائية) ، ويتّم فيه تقصّي المستويات المختلفة للغة الخطاب الروائي: إذ يتم تناول المستوى المجازي عبر دراسة اللغة الشاعرية والصورة والرمز، وفي المستوى الاجتماعي يُشار إلى أثر الأغنية الشعبية والعادات والأمثال والخرافات في بناء الخطاب الروائي، وفي المستوى الرؤيوي تحاول الدراسة تتبع زوايا النظر التي تحرّك النصّ الروائي الفلسطيني، وظاهرة الراوي المفرد والمتعدّد، أما في المستوى الإيقاعي فيتمّ الاهتمام بإيقاع العناصر الروائيّة، وإيقاع الموضوع، وأصناف الإيقاع ذات الطابع اللغوي عبر دراسة إيقاع المفردات والتراكيب، وإيقاع التناصّ.
تمتدّ حدود هذه الدراسة جغرافياً وزمنياً على النحو التالي:
§ فحدود الدراسة الجغرافيّة تمتدّ إلى الأماكن التي تفرّق فيها الفلسطينيون بعد النكبة، من فلسطين الى أقطار اللجوء كافة غير أنّ ظروف الاحتلال حالت دون الحصول على عدد من الروايات الفلسطينية التي طبعت داخل الأراضي المحتلّة، وقد سعى البحث إلى سد هذه الثغرة عبر الاعتماد على بعض الأصدقاء في تأمين عدد من الروايات، وعلى النصوص التي استطاعت بفضل إبداعها أن تجتاز أسلاك الاحتلال وتطبع في الخارج.
§ وتمتد حدود هذه الدراسة زمنياً منذ النكبة، وحتّى الآن، ولهذه البداية ما يبّررها، إذ إنّ الرواية الفلسطينية قبل النكبة لم تكن ناضجة فنيّاً، إلى الحدّ الذي يمكّنها من أن تشكل جذوراً لتطوّر الرواية لاحقاً.
غير أنّ نصوصاً نثرية فلسطينية أظهرت بعض الصعوبات في التصنيف النوعي، وقد تمّ إدخال بعضها في الدراسة، واستبعاد بعضها الآخر على النحو التالي:
* هناك ثلاثة نصوص روائيّة غير مكتملة لغسّان كنفاني هي (العاشق)(6) و(الأعمى والأطرش)(7) و (برقوق نيسان)(8) ، وقد تمّ استبعادها من هذه الدراسة لأنّها لا تشكّل نصّاً متكاملاً يمكن تتبُّع نموّه، على الرغم من الإشادة بهذه الروايات من قبل النقّاد، وخاصةً رواية (العاشق) التي قال عنها يوسف اليوسف: «والحقيقة أنّ هذه الرواية، لو أتيح لها أن تكتمل لكانت مفخرة الرواية العربيّة ، والمأثرة الأساسية لغسان كنفاني»(9)
n
§ رواية (أم سعد)(10) لغسان كنفاني يُبدي عليها يوسف اليوسف بعض الاعتراضات ، فهي ذات نسيج مفكك، يمكننا أن نحذف من جسدها «ما نشاء، وأن نضيف إليها، (مما هو في موضوعها)، دون أن نشعر بأيّ فرق جذري، الأمر الذي يعني أنّها واهية البنية، وغير متلاحمة العناصر»(11).
وعلى الرغم من أن هذه الملاحظة صحيحة كل الصحّة إلا أن المرء لا يستطيع استبعاد هذا النصّ النثريّ لأن الذي يشدّه إلى فن الرواية هو وحدة الموضوع، إضافة إلى شخصية أم سعد والشخصيات المحيطة بها، ولعلّ كنفاني كان يدرك ضعف البناء الدرامي في هذه الرواية الأمر الذي جعله يربط أول الرواية بآخرها، عبر جملتين تتحدّثان، عن القضيب الناشف في البداية(12)، وعن تبرعم الدالية في النهاية.(13)
* وثمة نصّ نثريّ آخر لإميل حبيبي هو (سداسية الأيام الستة)(14) ، وعلى الرغم من كونه قطعاً نثرية متفرقة، فإن ما يجمع بينها هو وحدة الموضوع الكبير (لقاء المنفيين بالباقين في بلادهم، إضافة إلى اللوحات والأشعار التي تفتتح بها جميع القطع النثرية القصصية مما يترك تأثيراً يوحي بوحدة نّصيّة ـ طباعيّة).
* وثمّة رواية لجبرا إبراهيم جبرا، وعبد الرحمن منيف معاً هي (عالم بلا خرائط)(15) ، وقد تمّ استبعادها لصعوبة الاطمئنان إلى فصل أسلوب جبرا عن أسلوب منيف، على الرغم من أنّ المرء يستطيع أن يقوم بمثل هذا الفصل من قبيل المغامرة، اعتماداً على التمرّس في أسلوب الرجلين(16).
وثمة دراسات عديدة ، قام بها النقّاد العرب، تناولت الرواية الفلسطينية، وتمكن الإشارة إلى بعضها مع إبداء بعض الملاحظات عليها، فيما يلي:
* (الرواية في الأدب الفلسطيني)(17) لأحمد أبو مطر، وهي دراسة تنتمي إلى ما يمكن أن نسميّه تاريخ الأدب.
* (في الرواية الفلسطينية)(18) لفخري صالح، وهي دراسة لا تبحث عن الشمولية، ولكنّها تعتمد الانتقائية، إذ تدرس، إضافةً إلى (الرواية الفلسطينية قبل الاحتلال)، أعلام الرواية الفلسطينية دون أن تضعهم في تيارات، أو تُعنى بكيفية اشتغالهم على تشكيل عناصر خطابهم الروائي. وتنتمي إلى هذا النوع من الدراسات دراسةُ فاروق وادي (ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية)(19).
* (غسان كنفاني: البنية الروائية لمسار الشعب الفلسطيني من البطل المنفي إلى البطل الثوري)(20) لأفنان القاسم، وهذا الكتاب كما يبدو من عنوانه، يتناول ، بشكلٍ رئيس، روائياً واحداً، وهذا النوع من الدراسات كثير، ومنه: (الطريق إلى الخيمة الأخرى)(21) لرضوى عاشور و(غسان كنفاني ـ رعشة المأساة) ليوسف اليوسف، و(الفن القصصي عند جبرا إبراهيم جبرا)(22) لسليمان حسين و(عنف المتخيّل الروائي في أعمال إميل حبيبي)(23) لسعيد علوش.
* (البطل في الرواية الفلسطينية)(24) لإيمان القاضي، التي تدرس في بحثها مفهوم البطل، وتبحث عن أشكاله في الرواية الفلسطينية، فتجد البطل المثقّف والمقاوم، والسلبي، والمرأة، والشعب، ولكنها لا تفيد من تقنية استخدام الاسم في بناء الشخصية، ولا تحاول كشف الحوافز التي تحرّك الشخصيّات، مما ينفي عن هذه الدراسة صفة الفنيّة، ويلحقها بالدراسات الجادّة التي انطلقت من الموضوع.
وثمّة دراسات أخرى عن الرواية الفلسطينية قام بها كتّاب أجانب، أبرزهم روجر آلن وهيلاري كالباتريك ودوغلاس ماغراث.
* فقد قدّم روجر آلن دراسات عديدة للرواية العربية، ودرس الروايات الفلسطينية، مركّزاً بشكل خاص على غسان كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا.
وقد أبرز هذا الكاتب اهتماماً كبيراً بالجانب الفنّي حين درس رواية (ما تبقى ل ه الأحداث يتمّ أثناء رحلة بحرية في البحر الأبيض المتوسّط غير أن الموضوع الفعلي لا يمت ّ إلى البحر بأية صلة»(28) .
كما يلفت آلن النظر إلى الاستذكارات(29) الفنيّة التي تنجح في تقديم التفصيلات الضرورية الخاصة لشخصيات الرواية، دون أن يهمل رموز هذه الرواية كالسفينة التي تمثل عالماً مصغراً، والبحر الذي يبدو ستارةً خلفيةً هادئة للنشاطات التي تقوم بها الشخصيّات(30)أما دراسة هيلاري كالباتريك المعنونة (Tradition And Innovation In The Fiction of Ghassn Kanafani) فهي دراسة تستقصي أعمال غسّان كنفاني المختلفة، وتتناول التعريف بحياة كنفاني، ، وشخصياته الروائية، ومفردات لغته التي تميّزه (كالأرض) ومقارنة هذه المفردات بما كتبه الروائيون العرب.
وقد ركز كالباتريك على الجانب الفنّي، وعلى البيئة الكنفانية خاصةً، واستقصى صورة الصحراء استقصاءً ممتعاً، إذ تابع صورتين لها في روايتي (رجال في الشمس)(31) و(ما تبقى لكم)، ولفت النظر إلى أنّ كنفاني أعطى الصحراء «دوراً أعظم بكثير مما لعبت في عملٍ أيٍّ من الروائيين العرب الآخرين»(32) .
وإذ ركّز على خصوصيّة الصحراء عند غسّان كنفاني، وفي رواية (ما تبقّى لكم)، بشكل خاص وجد أنّ معالجة الصحراء في ضوء الرواية تختلف عن معالجتها في رواية(رجال في الشمس)، وأنّ «الحدث يقع ليلاً، وهكذا فإن مظهر الصحراء الأكثر إخافةً حرارتها لا يّذكر إلاّ في النهاية حين تشرق الشمس، ويشتعل جحيم اليوم الآتي»(33) .
ودراسته بشكلٍ عام تعتمد أساساً على نصّ كنفاني تستقرئه وتستنبط قوانينه التي تحكمه، وتحلل لغته الروائية ببراعة وكفاءة.
* أمّا دراسة دوغلاس ماغرات المعنونة (34) (GhassanKanafai: Astudy of Rijal Fi Al - Shams) فقد استعرضت رواية (رجال في الشمس) وبيّنت دوافع الشخصيّات إلى الهرب وتقصّت ظاهرة الهرب في الأدب الفلسطيني، وراقبت الإرهاصات التي تنذر بالموت ، تلك الإرهاصات التي بدأت مع الطائر الأسود الذي يحلّق في السماء بغير هدى في بداية الرواية(35) كما تقصّت الدراسة رموز الشخصيات الرئيسة،وتحدثت عن المفارقات التي تحفل بها الرواية، على الحدود الكويتية، بشكل خاص، إذ تتمّ المقابلةُ بين أناس يقتلهم الوقتُ، وأناسٍ يقتلون الوقت بالحديث عن قصص، ومغامرات عاطفية موهومة.
ويمضي دوغلاس قُدُماً في دراسته الفنيّة فيدرس الاستذكارات الفنية في الرواية، إذ تستعيد كلّ شخصية جزءاً من حياتها الماضية، كما يجري مجموعة من المقارنات بين ما يطرحه غسان في هذه الرواية، وما طرحه في رواياته الأخرى، وفي قصصه القصيرة، كما يوسّع المقارنات لتشمل عدداً من الرّوايات العربيّة.
وهكذا يستطيع المرء أن يلاحظ مدى اعتماد الدراسات التي أنتجها النقاد الأجانب على النصوص الرّوائية بالذات، ومدى متابعتهم للجوانب الفنية، وكيفية تجلّيها في الخطاب الروائي، غير أنّ هذه الدراسات تبقى غير كافية، لأنها تتناول نماذج محدّدة، ولا تسعى إلى تكوين تقويم شامل للرّواية الفلسطينية.
من هنا، فإنّ هذه الدراسة تطمح إلى تكوين نظرة أكثر شمولاً، اعتماداً على عدد كبير من الروايات التي اعتُمدت مصادر للبحث، ومن حيث المنهج الفنّي المتّبع فيها.
n
إنّ هذا طموح.. يسعى البحث إلى تحقيقه.. وحسبُ المرء أن يُخلص في عمله، ويبذل قصارى الجهد.
See Translation
مقدمة كتابي (مكونات السرد في الرواية الفلسطينية) المنشور عام 1999، في دمشق
على الرغم من أنّ الرواية أثبتت جدارتها الأدبيّة، وقدرتها على التطوّر في الوطن العربي وخارجه على حدّ سواء، فقد بقي تعريفها الجامع المانع أمراً عسيراً. ولم يطمئنَّ طّلاب الأدب ودارسوه منظّروه الكبَار إلى تعريف للرواية «أكثر إحكاماً من الصيغة المألوفة لدى مؤلّفي الكتب الأدبيّة الوجيزة. فالرواية ، تبعاً لهذا النوع من الكتيّبات، هي مجرّد، «سرد تخييلي نثري ذي طول معتبر»(1) .
وإذا كان هذا التعريف لا يخلو من تداخل كبير مع فنون النثر الأخرى، فإنَّ التعريفات الأكثر تفصيلاً لم تنجح في وضع جميع الروايات ضمن نطاقها.
غير أنّ المرء يستطيع أن يُعرِّف الرواية بأنها عمل نثري، طويل بالقياس إلى فنون النثر القصصيّ الأخرى، يعتمد على التخيُّل، ويقود مقدّمات الأحداث إلى خواتيمها، عبر سردٍ يقدّمه راوٍ مراقب أو مشارك في الأفعال التي تقوم بها الشخصيات خلال مواجهتها مع الظروف التي يفرضها مجتمع النصّ، في بيئة محدّدة، وفي زمانٍ معيّن.
وإذا كان هذا التعريف يمكِّننا من اشتقاق عناصر النصّ الروائي من شخصية وحدث وزمن وبيئة، فإنه يبقى عُرضةً لاختراق الرواية ذاتها، إذ إن هذه العناصر غير ثابتة في الرواية الحديثة ، ولا يستطيع المرء الأخذ بها إلاّ في حال الدراسات الشاملة التي تتناول ظاهرة أدبية أو حقبة تاريخية. وقد يجد المرء في الدراسات الرّوائية ذات الطابع الفردي رواية تتطوّر من الداخل، بفعل عنصر غالب على العناصر الأخرى. وقد يقرأ رواية دون أن يتمكن من القبض على عناصرها. وحسب المرء هنا الإشارة إلى الروايات التي تنتمي إلى تيّار الوعي، إذ تبدو الشخصيّة ذات كثافة سيكولوجية، وتعتمد التداعي مستفيدة من كلّ إنجازات اللغّة من لوازم وتكرارات وفواصل وأقواس(2) . دون أن تُلزم نفسها بتحديد للزمن أو للمكان..
وفي هذه الدراسة (بنيّة الرواية الفلسطينية) سوف يتمّ اللجوء إلى اعتماد التعريف الثاني ، بوصفه منطلقاً لها، لأنّ العدد الكبير من الروايات التي اعتُمد عليها لا يسمح بتجاوز مثل هذه العناصر، غير أنَّ التحليل، حين يتناول كلّ رواية على حدة، سوف يحاول إيجاد خصوصيّة ما، لكل رواية تخرج عن الشكل التقليدي.
n
ولكن ما الذي يدعو المرء إلى الكتابة حول فنّ الرواية، ولماذا الرواية الفلسطينيّة بالذات؟
إنّ الشطر الأوّل من المسألة يعود إلى أني أحببتُ هذا النوع الأدبي الذي يفتح إمكانيات مختلفة لإبداع المؤلف الذي لم يتمكن إبداع النّاقد من اللحاق به حتّى الآن.
والشطر الثّاني عائد إلى قناعتي أنّ دراسة الأدب الفلسطيني، وتقصّي تجليّات تأثيره في الأدبين العربي والعالمي وتأثره بهما، يمنح الشعب العربي الفلسطيني حصانة حضارية لا تمكّن أعداءه من اقتلاعه.
وإذا كان الأدب العربيّ الفلسطيني قد احتلَّ مكاناً مرموقاً في جغرافية الأدبين العربي والعالمي عبر أعلامه الكبار (جبرا ودرويش وإدوارد سعيد..الخ) ، فإنّ الهجوم المنظّم الذي تتعرض له الثقافة الفلسطينية، بدءاً بمحاولات الاقتلاع، وانتهاءً بمحاولات التطبيع والإلحاق، يدفع المرء إلى الدفاع عن هذه الثقافة. وهذا أضعف الإيمان.
n
غير أنّ الدفاع عن نوع أدبي محدّد، في إطار الدفاع عن الثقافة الوطنية، لا يكون عبر الخطاب الإيديولوجي ولكن عبر البحث عن البُنى الداخليّة التي تجعل منه نوعاً أدبيّاً يتميّزعن الأنواع الأدبيّة الأخرى. لأنّ الانطلاق من الإيديولوجية لا يعطي الفنّ قيمته الحقيقية، ذلك أنّ أحكام النقاد حول الأثر ستكون مختلفة حسب اختلاف أهوائهم ومنازعهم، حتّى إنّ الناقد نفسه يمكن أن يكون عرضةً لتغيير رأيه في أثر معين، ولا سيّما في عصر انهيار الإيديولوجيات الذي نعيش فيه.
ويجدر التنويه هنا بأنّ عدم الانطلاق من الإيديولوجية لا يعني إلغاءها، لأن كلّ نصّ يحمل دون شك رؤيةً ما، فإذا أصرّ باحثٌ على تقصيها، فليكن ذلك عبر تقصّي تجلياتها في الخطاب الأدبي.
وعلى الرغم من أنّ هذه الدراسة تنطلق من تصوّر نظري مسبق يقسم عناصر الرواية إلى زمن ومكان وشخصية وحدث و يفرضه عليها اختلاف تعامل الروائيين مع العناصر الروائية، وتكرار نماذج هذا التعامل، فإنها سعت في الوقت ذاته إلى استنتاج الأحكام والخصائص الفردية للروايات المتميّزة التي اخترقت التقليد. فالنصّ هو مرجع ذاته وهو الذي يفرز أدواته النقدية، ولا يكون «النقد نقداً حين يهمل النصّ، أو النصوص ، أو حين يكتفي بنظرة برانيّة لا ترى إلى دواخل النصّ»(3) .
وانطلاقاً من أنّ النصّ الأدبي يمتدّ دلاليّاً، ويتخذ أبعاداً جديدة حين ينفتح على النصوص الأخرى فقد عمدت الدراسة إلى إجراء مقارنات بين الرّواية الفلسطينية، والرواية العربية والعالمية، دون أن تتوسّع كثيراً في هذه المقارنات خوفاً من الخروج عن خطّة البحث.
إنّ تقصّي خصائص العناصر المكوّنة للخطاب الرّوائي في الرواية الفلسطينية سوف يتمّ عن طريق مواجهة النصّ مواجهةً «تتّخذ شكل شرح النصّ الأدبي، وتحليله، وتفسيره، وموازنته بغيره من النصوص، والحكم عليه »(4) عبر تقسيم هذه الدراسة الأدبية إلى أربعة أقسام:
§ في القسم الأول تتناول الدراسة الزمن الروائي من خلال تتبّع ثلاثية الزمن (الماضي ـ الحاضر ـ المستقبل) وافتتاحيّة الرواية، ودراسة الزمن الداخلي، والزمن الخارجي الذي ينفتح على زمن القراءة، وزمن الكاتب وزمن القارىء، ولا سيّما أنّ «دراسة العمل الأدبي لا يمكن أن تكون كاملةً، مستوفيةً لأهم جوانب العمليّة الأدبيّة ما لم تتطرّق ، ربما بتفصيل، إلى الدور الذي يلعبه القارىء في تحويل التجربة الفنيّة من دور القوّة إلى دور الفعل»(5)
§ ويحمل القسم الثاني عنوان (الفضاء في الرواية الفلسطينية) ويتمّ فيه تقصّي مواصفات الفضاء الروائي الفلسطيني، ومكوّناته الجغرافيّة والنصيّة والدلاليّة، والكشف عن الوظائف الأدبية للفضاء ، والوظائف فوق الأدبيّة تلك الوظائف التي يجري تتبعها إزاء النصّ، وإزاء الرواية وإزاء القارىء الذي يسهم في خلق الفضاء الروائي وفي إعطائه أبعاداً جديدة.
§ وفي القسم الثالث تتناول الدراسة الشخصية والحدث الروائيين:
أ ـ إذ يتّم البحث في طرق بناء الشخصيّات، ونمذجتها وتصنيفها، والبحث عن علاقاتها داخل الرواية.
ب ـ وتتم دراسة الحدث عبر تقسيمه إلى واقعيّ وتخيلي، وتقّصي أشكال تقديمه عبر السرد، والاعترافات، والرسائل، والأحلام، والوثائق.. وتقسيمِ الرواية، تبعاً لمصدر الحدث فيها إلى واقعية وتاريخية وأسطورية وخرافية، والاهتمام بدارسة الحوافز المحرّكة للأحداث، ودراسة الحبكة الروائيّة وعناصرها، وترتيب ظهورها في الرواية.
§ أما القسم الرابع فهو يحمل عنوان (الدراسة الفنيّة للغة الروائية) ، ويتّم فيه تقصّي المستويات المختلفة للغة الخطاب الروائي: إذ يتم تناول المستوى المجازي عبر دراسة اللغة الشاعرية والصورة والرمز، وفي المستوى الاجتماعي يُشار إلى أثر الأغنية الشعبية والعادات والأمثال والخرافات في بناء الخطاب الروائي، وفي المستوى الرؤيوي تحاول الدراسة تتبع زوايا النظر التي تحرّك النصّ الروائي الفلسطيني، وظاهرة الراوي المفرد والمتعدّد، أما في المستوى الإيقاعي فيتمّ الاهتمام بإيقاع العناصر الروائيّة، وإيقاع الموضوع، وأصناف الإيقاع ذات الطابع اللغوي عبر دراسة إيقاع المفردات والتراكيب، وإيقاع التناصّ.
تمتدّ حدود هذه الدراسة جغرافياً وزمنياً على النحو التالي:
§ فحدود الدراسة الجغرافيّة تمتدّ إلى الأماكن التي تفرّق فيها الفلسطينيون بعد النكبة، من فلسطين الى أقطار اللجوء كافة غير أنّ ظروف الاحتلال حالت دون الحصول على عدد من الروايات الفلسطينية التي طبعت داخل الأراضي المحتلّة، وقد سعى البحث إلى سد هذه الثغرة عبر الاعتماد على بعض الأصدقاء في تأمين عدد من الروايات، وعلى النصوص التي استطاعت بفضل إبداعها أن تجتاز أسلاك الاحتلال وتطبع في الخارج.
§ وتمتد حدود هذه الدراسة زمنياً منذ النكبة، وحتّى الآن، ولهذه البداية ما يبّررها، إذ إنّ الرواية الفلسطينية قبل النكبة لم تكن ناضجة فنيّاً، إلى الحدّ الذي يمكّنها من أن تشكل جذوراً لتطوّر الرواية لاحقاً.
غير أنّ نصوصاً نثرية فلسطينية أظهرت بعض الصعوبات في التصنيف النوعي، وقد تمّ إدخال بعضها في الدراسة، واستبعاد بعضها الآخر على النحو التالي:
* هناك ثلاثة نصوص روائيّة غير مكتملة لغسّان كنفاني هي (العاشق)(6) و(الأعمى والأطرش)(7) و (برقوق نيسان)(8) ، وقد تمّ استبعادها من هذه الدراسة لأنّها لا تشكّل نصّاً متكاملاً يمكن تتبُّع نموّه، على الرغم من الإشادة بهذه الروايات من قبل النقّاد، وخاصةً رواية (العاشق) التي قال عنها يوسف اليوسف: «والحقيقة أنّ هذه الرواية، لو أتيح لها أن تكتمل لكانت مفخرة الرواية العربيّة ، والمأثرة الأساسية لغسان كنفاني»(9)
n
§ رواية (أم سعد)(10) لغسان كنفاني يُبدي عليها يوسف اليوسف بعض الاعتراضات ، فهي ذات نسيج مفكك، يمكننا أن نحذف من جسدها «ما نشاء، وأن نضيف إليها، (مما هو في موضوعها)، دون أن نشعر بأيّ فرق جذري، الأمر الذي يعني أنّها واهية البنية، وغير متلاحمة العناصر»(11).
وعلى الرغم من أن هذه الملاحظة صحيحة كل الصحّة إلا أن المرء لا يستطيع استبعاد هذا النصّ النثريّ لأن الذي يشدّه إلى فن الرواية هو وحدة الموضوع، إضافة إلى شخصية أم سعد والشخصيات المحيطة بها، ولعلّ كنفاني كان يدرك ضعف البناء الدرامي في هذه الرواية الأمر الذي جعله يربط أول الرواية بآخرها، عبر جملتين تتحدّثان، عن القضيب الناشف في البداية(12)، وعن تبرعم الدالية في النهاية.(13)
* وثمة نصّ نثريّ آخر لإميل حبيبي هو (سداسية الأيام الستة)(14) ، وعلى الرغم من كونه قطعاً نثرية متفرقة، فإن ما يجمع بينها هو وحدة الموضوع الكبير (لقاء المنفيين بالباقين في بلادهم، إضافة إلى اللوحات والأشعار التي تفتتح بها جميع القطع النثرية القصصية مما يترك تأثيراً يوحي بوحدة نّصيّة ـ طباعيّة).
* وثمّة رواية لجبرا إبراهيم جبرا، وعبد الرحمن منيف معاً هي (عالم بلا خرائط)(15) ، وقد تمّ استبعادها لصعوبة الاطمئنان إلى فصل أسلوب جبرا عن أسلوب منيف، على الرغم من أنّ المرء يستطيع أن يقوم بمثل هذا الفصل من قبيل المغامرة، اعتماداً على التمرّس في أسلوب الرجلين(16).
وثمة دراسات عديدة ، قام بها النقّاد العرب، تناولت الرواية الفلسطينية، وتمكن الإشارة إلى بعضها مع إبداء بعض الملاحظات عليها، فيما يلي:
* (الرواية في الأدب الفلسطيني)(17) لأحمد أبو مطر، وهي دراسة تنتمي إلى ما يمكن أن نسميّه تاريخ الأدب.
* (في الرواية الفلسطينية)(18) لفخري صالح، وهي دراسة لا تبحث عن الشمولية، ولكنّها تعتمد الانتقائية، إذ تدرس، إضافةً إلى (الرواية الفلسطينية قبل الاحتلال)، أعلام الرواية الفلسطينية دون أن تضعهم في تيارات، أو تُعنى بكيفية اشتغالهم على تشكيل عناصر خطابهم الروائي. وتنتمي إلى هذا النوع من الدراسات دراسةُ فاروق وادي (ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية)(19).
* (غسان كنفاني: البنية الروائية لمسار الشعب الفلسطيني من البطل المنفي إلى البطل الثوري)(20) لأفنان القاسم، وهذا الكتاب كما يبدو من عنوانه، يتناول ، بشكلٍ رئيس، روائياً واحداً، وهذا النوع من الدراسات كثير، ومنه: (الطريق إلى الخيمة الأخرى)(21) لرضوى عاشور و(غسان كنفاني ـ رعشة المأساة) ليوسف اليوسف، و(الفن القصصي عند جبرا إبراهيم جبرا)(22) لسليمان حسين و(عنف المتخيّل الروائي في أعمال إميل حبيبي)(23) لسعيد علوش.
* (البطل في الرواية الفلسطينية)(24) لإيمان القاضي، التي تدرس في بحثها مفهوم البطل، وتبحث عن أشكاله في الرواية الفلسطينية، فتجد البطل المثقّف والمقاوم، والسلبي، والمرأة، والشعب، ولكنها لا تفيد من تقنية استخدام الاسم في بناء الشخصية، ولا تحاول كشف الحوافز التي تحرّك الشخصيّات، مما ينفي عن هذه الدراسة صفة الفنيّة، ويلحقها بالدراسات الجادّة التي انطلقت من الموضوع.
وثمّة دراسات أخرى عن الرواية الفلسطينية قام بها كتّاب أجانب، أبرزهم روجر آلن وهيلاري كالباتريك ودوغلاس ماغراث.
* فقد قدّم روجر آلن دراسات عديدة للرواية العربية، ودرس الروايات الفلسطينية، مركّزاً بشكل خاص على غسان كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا.
وقد أبرز هذا الكاتب اهتماماً كبيراً بالجانب الفنّي حين درس رواية (ما تبقى ل ه الأحداث يتمّ أثناء رحلة بحرية في البحر الأبيض المتوسّط غير أن الموضوع الفعلي لا يمت ّ إلى البحر بأية صلة»(28) .
كما يلفت آلن النظر إلى الاستذكارات(29) الفنيّة التي تنجح في تقديم التفصيلات الضرورية الخاصة لشخصيات الرواية، دون أن يهمل رموز هذه الرواية كالسفينة التي تمثل عالماً مصغراً، والبحر الذي يبدو ستارةً خلفيةً هادئة للنشاطات التي تقوم بها الشخصيّات(30)أما دراسة هيلاري كالباتريك المعنونة (Tradition And Innovation In The Fiction of Ghassn Kanafani) فهي دراسة تستقصي أعمال غسّان كنفاني المختلفة، وتتناول التعريف بحياة كنفاني، ، وشخصياته الروائية، ومفردات لغته التي تميّزه (كالأرض) ومقارنة هذه المفردات بما كتبه الروائيون العرب.
وقد ركز كالباتريك على الجانب الفنّي، وعلى البيئة الكنفانية خاصةً، واستقصى صورة الصحراء استقصاءً ممتعاً، إذ تابع صورتين لها في روايتي (رجال في الشمس)(31) و(ما تبقى لكم)، ولفت النظر إلى أنّ كنفاني أعطى الصحراء «دوراً أعظم بكثير مما لعبت في عملٍ أيٍّ من الروائيين العرب الآخرين»(32) .
وإذ ركّز على خصوصيّة الصحراء عند غسّان كنفاني، وفي رواية (ما تبقّى لكم)، بشكل خاص وجد أنّ معالجة الصحراء في ضوء الرواية تختلف عن معالجتها في رواية(رجال في الشمس)، وأنّ «الحدث يقع ليلاً، وهكذا فإن مظهر الصحراء الأكثر إخافةً حرارتها لا يّذكر إلاّ في النهاية حين تشرق الشمس، ويشتعل جحيم اليوم الآتي»(33) .
ودراسته بشكلٍ عام تعتمد أساساً على نصّ كنفاني تستقرئه وتستنبط قوانينه التي تحكمه، وتحلل لغته الروائية ببراعة وكفاءة.
* أمّا دراسة دوغلاس ماغرات المعنونة (34) (GhassanKanafai: Astudy of Rijal Fi Al - Shams) فقد استعرضت رواية (رجال في الشمس) وبيّنت دوافع الشخصيّات إلى الهرب وتقصّت ظاهرة الهرب في الأدب الفلسطيني، وراقبت الإرهاصات التي تنذر بالموت ، تلك الإرهاصات التي بدأت مع الطائر الأسود الذي يحلّق في السماء بغير هدى في بداية الرواية(35) كما تقصّت الدراسة رموز الشخصيات الرئيسة،وتحدثت عن المفارقات التي تحفل بها الرواية، على الحدود الكويتية، بشكل خاص، إذ تتمّ المقابلةُ بين أناس يقتلهم الوقتُ، وأناسٍ يقتلون الوقت بالحديث عن قصص، ومغامرات عاطفية موهومة.
ويمضي دوغلاس قُدُماً في دراسته الفنيّة فيدرس الاستذكارات الفنية في الرواية، إذ تستعيد كلّ شخصية جزءاً من حياتها الماضية، كما يجري مجموعة من المقارنات بين ما يطرحه غسان في هذه الرواية، وما طرحه في رواياته الأخرى، وفي قصصه القصيرة، كما يوسّع المقارنات لتشمل عدداً من الرّوايات العربيّة.
وهكذا يستطيع المرء أن يلاحظ مدى اعتماد الدراسات التي أنتجها النقاد الأجانب على النصوص الرّوائية بالذات، ومدى متابعتهم للجوانب الفنية، وكيفية تجلّيها في الخطاب الروائي، غير أنّ هذه الدراسات تبقى غير كافية، لأنها تتناول نماذج محدّدة، ولا تسعى إلى تكوين تقويم شامل للرّواية الفلسطينية.
من هنا، فإنّ هذه الدراسة تطمح إلى تكوين نظرة أكثر شمولاً، اعتماداً على عدد كبير من الروايات التي اعتُمدت مصادر للبحث، ومن حيث المنهج الفنّي المتّبع فيها.
n
إنّ هذا طموح.. يسعى البحث إلى تحقيقه.. وحسبُ المرء أن يُخلص في عمله، ويبذل قصارى الجهد.