الدراما التليفزيزنية... فن أم ثرثرة؟..
عواطف الزين
ماذا بعد هذا الانتشار الواسع والإدمان اليومي على رؤية المسلسلات التلفزيونية هل قدمت فنا جديدا يوازي تلك الدرجة من الاهتمام؟ هل خلقت وعيا وعكست رؤية وأضافت قيما إلى واقعنا .. أم أنها ظلت مجرد ثرثرة نتلهى بها لقتل الوقت وتغييب الوعي؟
المسلسل التلفزيوني وتأثيره الثقافي
ارتبطت الدراما التلفزيونية منذ ظهور التلفزيون في عالمنا العربي بمجموعة من العوامل والعناصر والمكونات التي جمعت في بعض الأحيان ما بين نقيضين أو أكثر (تجارة, صناعة، فن)
تحولت الدراما التلفزيونية مع الأيام الى صناعة قائمة بحد ذاتها لها سوقها المزدهرة مثلما لها كتابها ومخرجوها وممثلوها بعد أن ظهرت شركات إنتاجية كبيرة وضعت الدراما التلفزيونية في مقدمة أولوياتها، واعتمد المسلسل التلفزيوني في البدايات على قصص الحب وما يرتبط بها من مشكلات اجتماعية وتفاصيل تشكل في مجملها بيئة درامية تتصارع فيها المصالح والرغبات، وتصطدم بعضها بعضًا، وتختلف من حولها الآراء ووجهات النظر، وتحاك من حولها الحواديت والقصص والحكايا في البيئة الاجتماعية الواحدة، حتى لا يذهب المسلسل الدرامي بعيدا عن الأفلام السينمائية التي كانت تعالج مثل هذه القصص (في الغالب) وتنجح في استقطاب المشاهد العربي الذي يستسيغ بطبعه (نتيجة لعوامل وراثية وتراثية) الحواديت والحكايا والقصص على طريقة ألف ليلة وليلة. وقد شكل التلفزيون في بداياته (أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات) منافسًا قويًا للسينما وانتزع منها بجدارة جمهورها العريض المنتشر في كل مكان حيث أحس هذا الجمهور بفرحة كبيرة تمثلت في وصول السينما الجديدة إلى بيته (التلفزيون) وأصبحت في متناول يده بدل أن يذهب إليها, لكن هذا المشهد تغير بعد ذلك حين استوعب المشاهد العربي الفرق الكبير بين المسلسل التلفزيوني والفيلم السينمائي فاستعادت السينما جمهورها الواسع بعد ذلك بسنوات قليلة، وإن كانت هناك مراحل شهدت حالات من المد والجزر بين السينما والتلفزيون ومن ثم الفيديو.
المسلسل الدرامي
وإذا كانت صناعة السينما قد تمكنت من كل أدواتها بحكم أقدميتها وإمكاناتها وقدراتها وعناصرها المختلفة من تقنيات فنية ومادية وبشرية، فإن المسلسل الدرامي كون، بمنأى عنها، عالمه الخاص وأدواته المختلفة وإمكاناته المحدودة نسبيا وأخذ يوسع دائرة اهتماماته عامًا بعد عام ويتطرق من خلال نصوصه الدرامية إلى مجالات اكثر اتساعًا وشمولية بحيث أصبحنا نشاهد المسلسل التاريخي والاجتماعي والرومانسي والديني والسياسي ومسلسلات خاصة بالأطفال وأخرى كوميدية.
قوالب تقليدية
وبعد أكثر من أربعين سنة على ظهور النص الدرامي التلفزيوني، ومع وجود متابعة نقدية وتقويمية لمسيرته إلا أنه انحرف عن مساره في فترات مختلفة، وفقد بعض مزاياه نتيجة لتغليب المكاسب المادية على المكاسب الفنية خصوصًا أن المسلسل أصبح في أيامنا هذه مثل أي سلعة خاضعا للعرض وللطلب مما أثر في المضامين الدرامية وجودتها على أكثر من صعيد لتخضع النصوص - في معظمها- إلى إرادة السوق والتسويق والبائع والمشتري ومن يدفع أكثر من دون أي اعتبار للمادة الدرامية (النص) وكيفية معالجتها تلفزيونيًا، لذلك بدأت تطفو على السطح في السنوات الأخيرة ظاهرة المسلسلات المسلوقة والتي يعترف أصحابها بعد عرضها بفشلها مما يستدعي الانتباه لأي عمل جديد ومضمونه ومنطقية أحداثه وعقلانية نجومه فيما يختارون من أدوار قد لا تتناسب مع أعمارهم أو أشكالهم كما حدث مع الفنان يحيى الفخراني في مسلسل «المرسى والبحار» ويسرا في مسلسل «أحلام عادية» ونور الشريف في مسلسل «عيش أيامك».
وتحول المسلسل الدرامي عبر السنين إلى مجرد قوالب تقليدية أو نمطية وبدل أن يكون المسلسل وحدة متكاملة مكونة من نص درامي حقيقي يمتلك كل مقومات الدراما المتمثلة في إيجاد أرضية للصراع بين جهتين أو أكثر أو بين عاملين أو أكثر أو بين قضيتين أو أكثر بحيث يكون الصراع بمفهومه العام الوعاء الذي تصب فيه كل المتناقضات تمهيدًا للوصول إلى حل ما أو تصور ما لهذه المسألة أو تلك، انحرف النص الدرامي عن مساره الطبيعي ليدخل في متاهات تجارية بحتة تقوم على مسألتي التطويل والمط في عدد الحلقات وفي مادة كل حلقة على حدة والتي أسهمت بدورها في إفقاد الدراما مكوناتها الأساسية التي تعتمد بشكل أو بآخر على جذب المتلقي وإثارة اهتمامه لتنقله معها من خلال المسلسل إلى اليوم التالي ليتواصل الحدث بتقنية عالية بعيدة عن الملل أو المط غير المبرر.
لكن الذي يحدث حاليا يعكس تراجعا في النص الدرامي عبر الكثير من الأعمال التي شهدناها في السنوات العشر الأخيرة خصوصا بعد انتشار الفضائيات. ومن هذا المنطلق بدأت تتشكل اللغة النمطية التي ارتبطت بهذه النصوص التي أصبحت شبه معروفة بحيث يمكن للمشاهد أن يتنبأ بملامح الشخصيات وبمكوناتها وبما تحمله من أفكار أو مقولات أو حتى حوارات من الحلقة الأولى، وهناك مفردات كثيرة أصبحت مثل «كليشيهات» موجودة في كل مسلسل تلفزيوني شكلت فيما بعد تراكمًا كميًا من المفردات والحوارات والمواقف.
مسلسلات «الواقع»
وفي مرحلة «الثمانينيات» برزت فكرة الأعمال التلفزيونية التي تحاكي مرحلة معينة من تاريخ صراعنا مع العدو الصهيوني من خلال ملف المخابرات المصرية ورجالها، فجاء مسلسل «رأفت الهجان» الذي كتبه الراحل صالح مرسي لتبدأ مرحلة مهمة من مراحل النصوص الدرامية التي تعتمد على الواقع المباشر من خلال إعادة تمثيل سير شخصية لعناصر مميزة من رجال المخابرات المصرية، وهذا ما قام به أيضًا عادل إمام في مسلسل «دموع في عيون وقحة» والذي يندرج ضمن هذا الإطار وكذلك الفنان نورالشريف - بعد ذلك بسنوات عديدة - حين قدم مسلسل «الثعلب» ويمكننا هنا أن نشير إلى أن هذه النوعية من المسلسلات التي تعتمد على وقائع ممزوجة بشيء من الخيال والتي تدخل ضمن دائرة التشويق لاقت الكثير من النجاح وحلقت بأبطالها في عالم الشهرة والنجومية وخصوصا أبطال مسلسل «رأفت الهجان» محمود عبد العزيز ويسرا ويوسف شعبان وغيرهم الكثير.
مثل هذه النصوص أو تلك المسلسلات لم تعد موجودة بعد رحيل صالح مرسي الذي كان متخصصًا في مثل هذه النوعية من النصوص واختفت برحيله تلك النوعية المميزة من المسلسلات التلفزيونية.
بين الماضي والحاضر
أما على صعيد المسلسلات الاجتماعية التي تعكس بصورة عامة الأوضاع السياسية والاجتماعية لمرحلة من المراحل مثل مسلسل «ليالي الحلمية» و«الشهد والدموع» و«رحلة ابو العلا البشري» وأعمال أخرى كثيرة في الدراما المصرية والسورية والخليجية فقد نسجت تلك الأعمال وغيرها مناخات مختلفة للنص التلفزيوني الدرامي متأثرة باتساع دائرة الانتشار وبتطور التقنيات التلفزيونية وتوافر الإمكانات المادية ودخول المزيد من نجوم السينما إلى عالم المسلسل نتيجة لهذه العوامل ولغيرها مثل السخاء المادي الذي توفره هذه الأعمال لنجومها وأيضًا السخاء المعنوي إذا صح التعبير الذي تمنحه الفضائيات الكثيرة المتنافسة في الفضاء، وقد فتحت بعض تلك الأعمال التي ذكرناها الأبواب أمام نوعية أخرى من المسلسلات الطويلة التي تتكون من جزأين أو أكثر مثل ليالي الحلمية (5 أجزاء) ويجري حاليًا الإعداد للجزء الثاني من المسلسل التاريخي «خالد بن الوليد»
نجوم الغناء والشعر كما ازدهرت في السنوات الأخيرة المسلسلات التي تتناول سير نجوم الغناء والتمثيل وبعض الشعراء ممن كان لهم تأثيرهم في الوجدان العربي وفي الثقافة العربية مثل أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وسعاد حسني والشاعر نزار قباني وغيرهم ويجري حاليا الإعداد لتنفيذ مسلسل آخر عن حياة ومسيرة الأميرة الفنانة أسمهان التي لا يزال مقتلها يشكل لغزا منذ حدوثه عام (1944) ونستطيع القول إن المسلسل الدرامي التلفزيوني أصبح حقيقة قائمة بحد ذاتها لها مكانها في مساحة البث التلفزيوني اليومي ولها مكانتها في أذهان الناس وفي تكوين المشهد التلفزيوني في حياتهم خصوصا أن هذه الحياة تشكل بصورة أو بأخرى مادة درامية بامتياز نتيجة لدخول ذلك «السحر» الدرامي في نسيج مكوناتها وعلى كل الأصعدة.
عواطف الزين