وَلِتكونَ آية للفلسطينيّين !
ولا يزال الناس مختلفين ذي مشارب فكريّة شتى ما داموا على وجه هذه البسيطة ، وفي الوقت نفسه فكلّ مَن عنده مِسكة من عقل ، وبراءة من جهل يدرك أن الاختلاف بين الناس ليس بموجب لتدابرهم وتقاطعهم ، وانتصاب العداوة والبغضاء فيما بينهم ، فضلا عن أنه - أي الاختلاف - ليس بمسوّغ لأن يثبَ بعضهم على حرمات بعض ، فيستحلوا دماء بعضهم بعضا وأموالهم وحرماتهم ، اللهمّ إلا مَن بغى واعتدى فقد استجرّ على نفسه القصاص العادل ، فهذا ما تواطأت عليه الملل والنحل بنصوصها الصريحة ، وأطبقت عليه العقول السليمة الصحيحة ، فلا يَندّ عن ذلك ويبتعد إلا من استحكم فيه هواه ، وعندها فليس يُبالَى في أيّ وادٍ من وديان الضلالة والهلكة تردّى بما كسبته يداه!
وإذا كان ذلك كذلك : فبوسع الناس على اختلاف أديانهم وأجناسهم وأعراقهم وقضاياهم أن تنشأ فيما بينهم أواصر التعاون على ما تتقاطع فيه مصلحتهم ، وتلتقي عليه منفعتهم ، فكيف إذا كان هؤلاء المختلفون أهل عِرق واحد ووطن واحد وقضيّة واحدة بل وربما أهل دين واحد وملّة واحدة ؟!
وذلك مَثلُ أهل فلسطين القابعين جميعاً تحت نير الاحتلال ! فما نشب بينهم من اختلاف رؤى ، ليس بمدعاة لتشرذم حالهم ، وتفرّق صفهم ، وتشتت كلمتهم ، وانشغال بعضهم ببعض ما داموا أهل ولاء لقضاياهم الوطنية ، وما دامت بوصلتهم الوطنية في اتجاهها الصحيح !
وقد كانت لنا آية في فئات وطنية أسيرة التقت من خلف القضبان رؤاها ، وتوّحدت في وجه السجّان كلمتها ، على الرغم من تباين أيدولوجياتها وولاءاتها الحزبية ومشاربها التنظيمية ، فما كان منهم إلا وقفوا وقفة رجل واحد ، بقلب واحد ، وهدف واحد ، وهمّة واحدة ، وعزيمة واحدة ، ونَفَس جهاديّ واحد ، فأخضعوا سجّانهم لمطالبهم ، وحققوا انتصارات واعدة ... غدت هذه الانتصارات حجّة دامغة للأشقاء الفرقاء المختصمين ، تتحطّم عليها كلّ التعلاّت والتذرّعات والتبريرات التي يتشدّق بها فئام هنا وفئام هناك لبقاء حالة التشرذم على ما هي عليه ! وستظل هذه الانتصارات – انتصارات أسرانا البواسل - آية للفلسطينيين ، وتهديهم صراطاً مستقيماً ؛ مفاد هذا الصراط وقوامه : بأنّه سيظل في ساحة خلافاتنا مساحة شاسعة لاتفاقنا على قضايا ، من أجل خدمتها في هذه الساحة نصول، وثمّ مساحة شاسعة لتوافقنا على أهداف ، من أجل تحقيقها بها نجول ، ليظل قمر عطائنا الوطنيّ ساطعاً بلا أفول !
وبعد : فمهما خيّم علينا معشر الفلسطينيين الاختلاف في مسائل قد تبدو فرعية أمام القضايا الاستراتيجية المصيريّة التي ينبغي أن لا يختلف عليها اثنان ، ولا يُنازع فيها مُنصفان ، فليس يخلو أمرأهل فلسطين من قضايا يُطبق عليها إجماعهم ، وتتوحّد لنصرتها كلمتهم ، وتتضافر لمؤازرتها جهودهم ، وما أكثر هذه القضايا ! : ففي مراغمة الاحتلال بوجهٍ عام بغية رفعه وإنهائه قضية ، بل هي أمّ القضايا ، وفي مواجهة تهويد القدس قضية ، وفي مواجهة تضييقه على أهلنا المقدسيين في أرزاقهم قضية ، وفي مواجهة هدمه لبيوتهم قضية ، وفي مواجهة الاستيطان الزاحف قضية ، وفي العمل على تحرير أسرانا البواسل قضية ، وفي العمل على تكريس حق العودة وترسيخه وتحقيقه قضيّة ، وفي مواجهة تحكّم الاحتلال بمواردنا المائية قضيّة ، وفي مناوأة تحكّمه ببرّنا وبحرنا وجوّنا قضية ... ! وكأين من آية في واقعنا تستدعي وحدتنا نمرّ عليها ونحن عنها معرضون !
فإن لم توحّدنا آحادُ هذه القضايا فضلا عن مجموعها ، وأبينا إلا الفرقة والتنازع والشقاق ، فعندها يكون عَقدُ مصداقيتنا الوطنية قد انفرط انفراطاً ما له من فواق !