اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
شيخ علماء الشام المحدث الأكبر سيدي العلامة الشيخ محمد بدر الدين الحسني...رحمه الله ورضي عنه...

شيخنا العظيم محدث الديار الشامية الأكبر (2)
بقلم: العلامة الأديب الأستاذ محمد بن عبد القادر المبارك رحمهما الله..

رغب إلي بعض الأصدقاء حين قرؤوا مقالي القديم عن أستاذنا الكبير العلامة الشيخ بدر الدين رحمه الله الذي نُشر في العدد الماضي من المجلة في الكتابة عنه والاستزادة من أخباره وأحواله إحياء لشخصية كانت كان لها في عصرها منزلة عالية وتقدير عظيم في النفوس، كانت تتجاوز حدود تلاميذه ومريديه وأهل مدينته وبلده، بل كانت لا تختص بالمسلمين وحدهم بل تعم المواطنين من جميع الأديان لما عُرف به من حسن المعاملة والبر بالناس أجمعين.
كانت صلتي بالشيخ رحمه الله وقد قارب الثمانين من عمره وبلغ أوج الشهرة والمجد، وهو عظيم في تواضعه وعبوديته لله وبساطة حياته وشدة يقظته في ضبط سلوكه في كل حركة من حركاته، وابتدأت يومئذ وأنا في نحو الثالثة عشر من عمري بحضور دروسه العامة التي كان يلقيها كل يوم في داره مساء من بعد المغرب إلى ما بعد العشاء بقليل في قاعة كبيرة تتسع لما يزيد على المئة كانت مخصصة لذلك.
واستمرت صلتي كذلك سنوات، ثم اتيح لي كذلك خلال عدة سنوات حضور دروسه الخاصة التي كان يلقيها في مدرسة دار الحديث ويحضرها الخاصة دون العامة ويتراوح عدد الحضور فيها من اثنين أو ثلاثة حتى العشرة في غرفته الخاصة التي ما كانت تتسع لأكثر من هذا العدد، وأما موضوعات هذه الدروس الخاصة فقد كانت متنوعة في النحو والصرف والبلاغة والحديث والمصطلح وأصول الفقه وعلم الكلام والفرائض والحساب والجبر والهندسة والفلك.
واذكر فيما اذكر من الكتب التي كانت تدرس في هذه الحلقات وحضرت قسما منها وتابعت بعضها الآخر متابعة كاملة: شرح جمع الجوامع في أصول الفقه، وشرح المواقف في الفلسفة والكلام، وشرح السراجية في الفرائض، وشرح نخبة الفكر في مصطلح الحديث، وشرح التلخيص للتفتازاني في البلاغة، وشرح الكافية لابن الحاجب في النحو، وشرح خلاصة الحساب في الحساب والجبر لبهاءء الدين العاملي، وأصول إقليدس في الهندسة من تحرير نصير الدين الطوسي.
وكان موعد هذه الدروس ما بين الضحى والظهر وما بين الظهر والعصر، وكان بعض الدارسين في هذه الحلقات من علماء البلد المعروفين ومن كبار الشيوخ، كما كان يحضر بعضها كذلك شبان من طلبة العلم ورواد المعرفة.
ولقد كانت هذه الفترة من حياتي عظيمة الأثر غزيرة الفائدة وهي التي وصلتني بينابيع الثقافة الإسلامية في مصادرها الأصلية، وأطلعتني على ما في تراثنا العظيم من كنوز المعرفة وأفاق العلم وعلى معالم الإسلام إلى جانب دراستي التي كنت أتابعها في المدارس الرسمية، ومن أجل هذا كان فضل الشيخ علي كبيرا لم أنسه ولن أنساه أبدا.
سلوك الشيخ وحياته الخاصة:
ولم يكن تأثير الشيخ فيمن حوله وما له من هيبة ومنزلة في النفوس عامة بسبب علمه الغزير وثقافته الواسعة فحسب، وإنما كان بوجه خاص بسبب سلوكه وسيرته. ذلك أن للشيخ رحمه الله نظاما خاصا في حياته كان فيه بالنسبة لأهل عصره نسيج وحده.
فقد كانت ساعات ليله ونهاره مقسمة تقسيما دقيقا لا يتغير ولا يتبدل على العبادة والعلم، فقد كان يستيقظ قبل الفجر بوقت طويل ويقضي وقته هذا حتى الفجر بين التهجد والصلاة والمطالعة في غرفته الخاصة في داره، ثم يتسحر سحورا خفيفا استعدادا للصوم لأنه كان صائما دائما، ولا أدري فلعله يقطع هذا الصوم بإفطار بعض الأيام دون أن نشعر بإفطاره خروجا عن النهي الوارد عن صوم الدهر أم أن له رأيا اخر في الموضوع.
ثم يتهيأ لصلاة الفجر في المسجد الأموي مع الإمام، وكانت داره قريبة من المسجد، فإذا ما صلى وتلا أوراده وأذكاره خرج من المسجد متوجها إلى غرفته في دار الحديث، والمسافة بينهما قريبة كذلك، وكان يرافقه في هذا المسير واحد أو اثنان من تلاميذه، وكانت غرفته في دار الحديث في الطابق الأول في أقصى الجهة الشمالية الشرقية، وهي غرفة صغيرة ملأى بالكتب في أرضها وجدرانها، وله فيها مكان يجلس عليه فوق وسادة أو جلد، وأمامه منضدة مستطيلة يصف عليها الكتب ويركمها فوقها.
وكان يقضي وقته هذا بعد صلاة الفجر بالمطالعة الشخصية فلا ينام ولا يقابل أو يجالس أحدا فإذا ما طلعت الشمس وارتفعت ابتدأت الدروس الخاصة وتوالت. وقد يغفو الشيخ في هذا الوقت قبل الدروس إغفاءة قليلة لا تتجاوز على الأكثر مقدار نصف ساعة، ثم تتوالى الدروس طول النهار لا تقطعها إلا صلاة الظهر إذ يستعد الشيخ لأداء الصلاة مع إمام المسجد، ويعود بعد فترة قليلة إلى ما كان فيه، فإذا أدى صلاة العصر، عاد الشيخ إلى داره واستعد لصلاة المغرب، ويبقى باب الدار مفتوحا للراغبين في الصلاة معه، ويؤمه أحد الحاضرين ذلك لأنه لا يصلي إلا مقتديا ولم يُر إماما لجماعة، ولعل ذلك كان عن مبالغة في الورع أو التواضع.
ثم يخرج الشيخ للإفطار ويبقى الباب مفتوحا ويتوافد الراغبون في حضور الدرس الذي يلقيه الشيخ على الجمهور بعد صلاة المغرب في قاعة كبيرة في القسم الخارجي (البراني) من داره، وكانت له دار واسعة كبيرة لها قسمان براني وجواني ولكل منهما باب مستقل فإذا انقضى على صلاة المغرب نحو ثلاثة أرباع الساعة نزل الشيخ من غرفته ودخل على الجماعة المتظرين لحضوره والمتطلعين إليه والمتشوقين لسماع كلماته ومواعظه، فإذا دخل عليه وألقى السلام على الجماعة ردوا عليه دون أن يقوم أحد منهم من مكانه لأنه يكره ذلك، ثم يجلس في مكان معد له إلى جانب الباب لا يقبل أن يبدله مع أن ذلك كان يؤذيه أيام الشتاء فلا يقبل أن يُتخذ له مكان في صدر القاعة، وكان يجلس على الأرض ويضع تحته طنفسة في الصيف أو وسادة محشوة في الشتا، ويجلس الناس على الأرض وعلى المقاعد الموضوعة في أركان القاعة الأربعة.
وكان للدرس معيد يقرأ في كتاب ويستوقفه الشيخ بين حين واخر ليبسط ما يرى بسطه للناس، وكان معيد الدرس يومئذ الأستاذ الشيخ عارف الجويجاتي حفظه الله، كما تولى هذا العمل أيضا الأستاذان الشيخ راشد القوتلي والشيخ عارف الدوجي رحمها الله. وكان الدرس ينتهي بعد العشاء بنحو نصف ساعة أو تزيد قليلا.
فإذا أدى الشيخ صلاة العشاء مع الجماعة امتنع من الكلام ولقاء الناس حتى تشرق الشمس، وكان يصادف فيما أعلم أن يرسل إليه الحكام يرجون مقابلته في ذلك الوقت فيعتذر عن المقابلة، وكان ينام من الليل عددا قليلا من الساعات.
هذه كانت سيرته اليومية الرتيبة في الصيف والشتاء تنقضي كلها في العبادة والعلم لا يقطعهما إلا ما يتخلله أحيانا من بعض الزيارات الخفيفة لبعض الأشخاص أو لبعض المؤسسات العامة.
زيارات الشيخ:
كان الشيخ يتفقد أحيانا بعض أصدقائه ومعارفه القدامى ممن لا يعرف الناس صلته بهم أو بعض أرحامه وأكثر ما يزور اناس البسطاء وقد يزور غيرهم. كما كان يتفقد بزياراته بعض أهل الملل الأخرى، وقد اشتهرت زيارته لحي النصارى في أيام الثورة في وقت شاعت فيه شائعة خبيثة روجها دعاة السوء وأبواق الفرنسيين، وهي أن الثوار يريدون الإعتداء على الحي، فكان لزيارته معنى رائع عظيم، وهو التضامن بين المسلمين والمسيحيين في محاربة الفرنسيين المستعمرين.
وكان الشيخ يزور أحيانا بعض المدارس الرسمية والخاصة، وأذكر أنه زاد مرة مدرسة التجهيز (الثانوية) ولم يكن يومئذ في دمشق مدرسة ثانوية غيرها. وكنت طالبا فيها، ودخل قاعات الدرس، فكان يسأل الأستاذ عن موضوع الدرس، ويستمع إلى الأستاذ، ويناقش بعض القضايا المتعلقة بذلك، ويطرح بعض الأسئلة.
وكان يزور كذلك السجن ويتفقد المسجونين ويتحدث معهم ويسألهم عن سبب سجنهم.
وهكذا كان لزيارات الشيخ رحمه الله معان وأهداف اجتماعية إلى جانب الزيارات ذات الصفة الشخصية.
عاداته وأحواله الشخصية:
كان الشيخ رحمه الله جاريا على عادات أهل زمانه كما كان متحررا من كثير منها، فقد كان يلبس من الثياب الجيد النظيف ولا يلبس الرفيع الذي يتميز به عن غيره. كان يلبس ثوبا من القطن كان يعرف بالديما أو الصاية الديما، ويشد عليه نطاقا من الشال الخفيف العادي ولا يزرره عند رقبته بل يتركه سائبا ليفسح المجال ليضع في صدره بين ثنيتي الثوب منديلا، وعلى الثوب جبة من الجوخ الأسود الجيد وكلاهما لا يتجاوز أنصاف ساقيه في الطول اتباعا للسنة خلافا لما جرت عليه العادة من إطالة الجبة والثوب، وخروجا من النهي الوارد في الحديث.
وكان يضع على رأسه عمامة كبيرة صفراء مطرزة من النوع المعروف في بلاد الشام، ويكورها فوق طربوش تدويرا عاديا لا تصنع فيه.
وكانت ثيابه مثالا للنظافة البالغة، وكان يلبس جوربين سميكين لونهما أبيض ويتخذ بابوجا أصفر.
كان الشيخ متحررا من عادات الناس اليومية، فلم يعرف عنه أنه شرب الشاي أو القهوة أو جلس يستمع إلى أحاديث الناس العادية أو يتحدث بمثلها، ويمكنك أن تحصي عليه كلماته التي يقولها في يومه وليلته، فلم يكن له فيما عدا كلامه في العلم وذكره لربه الذي لا يفتر عنه لسانه من الكلام إلا ما اضطرته إليه الحاجة، وعلى غاية من الإيجاز ومع الاستعانة بالإشارة أو ما تدعو إليه الحال حين لقاء إنسان بعُد العهد بلقائه كسؤاله عن أهله وولده أو أهل بلده، وأما ما سوى ذلك من أنواع الكلام المبارح فكان يمنع جلساؤه من الخوض فيه فضلا عن أن يخوض فيه.
لقد كان كلامه العادي قابلا للعد والإحصاء، أما ذكره لله وصلاته على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحصى لأنه لم يكن يفتر عن ذكر الله.
لقد كان قليل المشاركة جدا في الولائم والدعوات، وإذا اتفق أن قبل الدعوة وحضرها، وكانت دعوة إفطار في المساء تناول الطعام قليلا ثم أمسك. وهو كما سبق أن بينت صائم أبدا إلا الأيام التي حرم فيها الصوم، ولكنه مع ذلك ما كان يغير فيها ما اعتاده في سائر الأيام. أما طعامه في بيته فكان ينتاول أجود الطعام مع الإقلال.
إن هذه الخطة القاسية التي أخذ بها الشيخ نفسه لم تكن عن ضيق ذات اليد، وإنما كانت عن اختيار وعزيمة. فقد كان الشيخ رضي الله عنه ميسور الحال، فقد ترك له والده ثروة حسنة، فكان يملك دارا واسعة في حي القيمرية، وكان يملك بضع عقارات في سوق الحميدية، وكان يشارك أحيانا بعض الناس في تجارة الأغنام، وله راتب تدريس. ولو شاء أن يعيش معيشة ناعمة مترفة لكان له ذلك ولكنه كان يعيش في عالم آخر.
وكان للشيخ صدقات خفية لا يعلمها إلا نفرٌ قليل ممن حوله. كثيرا ما كان يرسل المؤونة إلى أسر مخصوصة ولا يعلم ذلك إلا من يكلفه بإيصالها إليهم.
إن استغراق الشيخ في العبادة وذكر الله وفي العلم دراسة وتدريسا، والتزامه هذه الطريقة الشديدة المتقشفة المنظمة الدقيقة، وتحرره من كثير من عادات الناس بعيدا عن متع الحياة وملذاتها، والتزامه للشرع وحدوده والسنة وآدابها سنين طويلة جدا، وجرأته على الحكام وترفعه عنهم كما سيتبين بعد قليل. إن ذلك كله ألبس الشيخ رحمه الله ثوبا من الهيبة في أعين الناس لا تمثلها هيبة، بل لا يضاهيه فيها أحد من العلماء أو الزهاد أو العباد أو غيرهم.
لقد كان للشيخ رحمه الله هيبة عظيمة ما عرفت لغيره، فكان إذا مر في طريق أشار الناس إليه وتهامسوا، وأطل الناس من النوافذ للنظر إليه وقالوا: هذا هو الشيخ بدر الدين، وإذا مر في سوق من أسواق المدينة ولمحه الناس من بعيد رأيتهم يستعدون للقيام له- رغم كراهته لذلك- والسلام عليه، سواء في ذلك المسلمون والنصارى، وربما تراكضوا حوله وحفوا للسلام له تقديرا وإعجابا وتبركا بلقائه أو السلام عليه، وكان يقف للصبي الصغير وللمرأة وللفقير السائل ولمن يتعرضون له ويستوقفونه.
وكان إذا دخل المجلس أو قاعة الدرس في داره أو أقبل على الحلقة الكبيرة في مسجد بني أمية يوم الجمعة ليلقي درسه الأسبوعي وانفرجت له الصفوف، وجدت أعين الناس تتطلع إليه وتتمتع بمرآه البهي ومنظره المهيب، لا تغادره ولا تتزحزح عنه حتى يستقر مكانه، ومع أن هذا المشهد كان يتكرر عليهم كل يوم أو كل أسبوع فإن شعورهم هذا يتجدد ولا يتطرق إليه الابتذال بالاعتياد والتكرار.
تواضعه والتزامه للسنة وموقفه من تقبيل اليد والقيام:
وكان مما تميز به الشيخ رضي الله عنه أنه ما كان يمكن أحدا من تقبيل يده، وربما أدى ذلك إلى أن يجذب يده جذبا شديدا ممن يحاول تقبيلها، وربما كان الدافع إلى ذلك التواضع من جهة والتزام ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، فلم يعرف أنهم كانوا يقبلون يده كلما التقوا به أو أنهم اتخذوا ذلك عادة.
فأين ما كان عليه شيخ المحدثين وعلامة الديار الشامية -رحمه الله- مما يفعله بعض من نصبوا أنفسهم للوعظ والإرشاد والتعليم من مد يديهم سلفا للمسلم عليها، كأنهم بذلك يريدون إلزامه بتقبيلها، وربما قربوها من وجهه وفمه لينالوا بذلك تعظيم العامة لهم.
وكان الشيخ رحمه الله يكره أن يقوم الناس له في مجلسهم وينهاهم عن ذلك نهيا شديدا، ويغضب إذا خالفوا رأيه في ذلك وقاموا له، فكان إذا دخل غرفته وفيها بعض تلاميذه أو دخل قاعة الدرس في داره، وفيها الكثير من الحاضرين لا يقوم له أحد منهم إلا إذا كان حديث العهد بحضور مجلس الشيخ،، فينبهه من حوله إلى ذلك لألى يغضب الشيخ. ولا يقوم هو كذلك للداخلين عليه. وإذا جاءه زوار غرباء من الأجانب أو الحكام أدخلهم تلاميذه إلى غرفة استقبال خاصة ثم يدخل الشيخ، لألى تحدث المشكلة إذا دخلوا ولم يقم الشيخ لهم، فيظنون أن الشيخ أراد انتقاصهم وهم لا يعرفون عادة الشيخ هذه والمجال غير متسع لشرحها.
فأين هذا ممن يقوم الناس لهم في بيوت الله، فضلا عن القيام لهم في غيرها، وربما كان أحدهم متوجها إلى القبلة يذكر الله أو يستعد للصلاة فينصرف عن الله بوجهه ويقوم تعظيما للشيخ؟ وهذا في رأينا أعظم المنكرات وأشدها وأشنعها ولا يكون السكوت عنها إلا عن غلبة الشيطان ومجاراة الهوى، أو عن جهل بأسس الشريعة وقواعد الإسلام.
على أن الشيخ أعلى الله في الجنة مقامه لم يكن يرى حرمة القيام، فقد كان يقوم في أحوال نادرة، فقد شهدته قام لرجل من ال البيت له وجاهة ومكانة.
وكان رحمه الله يتباسط في الكلام مع بسطاء الناس، فقد رأيته مرة وقد دخل عليه فلاح من حوران، وكان في غرفته في دار الحديث وعنده تلاميذه يقرؤون عليه فسلم عليه، ورد الشيخ السلام، ثم قال الرجل: عندي امرأة. فقال الشيخ: بارك الله لك بها. فقال: لو وضعت يدك المباركة عليها وقرأت لها شيئا فإنها عندي منذ كذا من السنين ولم تنجب لي ولدا.
فقال الشيخ مداعبا: وهل تدعونا إلى قريتك؟ فهش الرجل وبش وقال: أهلا بك ضيفا عندي ثلاثة أيام.
فقال الشيخ ضاحكا: ثلاثة أيام فقط. فقال الرجل: ابق المدة التي تريدها، ثم دخلت المرأة وقرأ لها الشيخ، ثم خرجا، وقلما كان الشيخ يرقي أحدا.
طريقته الإصلاحية ونظرته الإجتماعية:
وكان شيخنا رحمه الله يسلك طريق الحكمة في إصلاح النفوس ويتجنب طريق العنف والقسوة، ويعنى بالمهم من أمور الدين قبل العناية بالجزئيات والثانويات، فيكتفي ببيان الحكم العام في الأمر الذي يريد النصح به، ولم يكن يشترط لحضور دروسه وملازمته شروطا خاصة وإنما ينتهز الفرص والممناسبات ويترك المجال للزمن ويرى أن اعطاء الأسوة من نفسه من أفضل طرق النصح، وأن القدوة ولسان الحال من أحسن الوسائل للتأثير.
كان بعض العلماء المرشدين ممن عاصروه وهم في منزلة تلاميذه لا يقبلون طالب العلم عندهم إلا إذا أعفى لحيته، وربما اشتدوا بقوارع الكلام على من يحضر دروسهم العامة ممن يحلقون لحاهم. ولم يعرف هذا عن شيخنا رحمه الله، وإنما كان يكتفي ببيان الحكم الشرعي في المناسبات التي تعرض، فالتف حوله وداوم على دروسه عدد من الشبان وطلاب المدارس وغيرهم من مختلف الطبقات.
وكان كثير التشجيع للشبان الذين يتوسم فيهم الاستعداد العلمي، ويوسع لهم في المكان إذا دخلوا، ويشير إلى من حوله ليفسحوا لهم المجال، ويوصي بهم خيرا ويشعرهم بعطفه وعنايته.
وقد يتفق أن يستأذن بعض الطلاب الأجانب من غير المسلمين أو بعض المسيحيين من المواطنين في حضور درسه فيأذن لهم ويرحب بهم، وربما التقى ببعض من يعرفه منهم فسلم عليه وحياه، وقد يطلب منه الدعاء له. وقد سأله مرة أحد السامعين فقال: وكيف تطلب يا سيدي الدعاء من غير مسلم؟ فقال له: هل تدري بم يختم له؟
ومن أغرب ما سمعت من تصرفه وطرائق إصلاحه حادثة عجيبة سمعتها ممن وقعت له مع الشيخ رحمه الله. ذلك أنه استدعى أحد أصحابه -وهو حدثني بالقصة- وكان شيخا في نحو الستين من عمره ذا لحية كبيرة وعمامة من هذه العمائم التي يتخذها عامة الناس من أهل الشام من التجار وأهل الحرف، ثم قال له: تذهب إلى محل البغاء وتسأل عن الكبيرة التي تدير شؤون البغايا وتعطيها هذه الدنانير الذهبية العشرة وتقول لها: إن الشيخ يطلب منك أن تأمري من عندك من البنات أن يغتسلن، ثم تعطي كل واحدة منهن دينارا ذهبيا وتطلبي إليها أن تدعو للشيخ، فحار الرجل في أمره كيف يذهب بهيئته هذه إلى مثل هذا المحل، ثم لم يجد مناصا بعد أن أمره الشيخ من تنفيذ ما أمره به.
قال لي: وقد نفذت ما قال لي ولم أخرج حتى سمعت بكاءهن ونحيبهن. ولا شك أن أكثرهن وربما كلهن قد تبن مما كن فيه وغيرن حياتهن وعدن إلى الحياة الشريفة المستقيمة.
وكان الشيخ يدعو إلى العلم والتعلم في عهد كانت فيه الثقافة الحديثة والعلوم تأتينا من الغرب، وكان الشرق الإسلامي ينظر إلى كل ما يأتي من الغرب نظرة ريبة ويرى فيها كفرا او ضلالا. فكان رحمه الله يزور المدارس الرسمية، ويحضر بعض دروسها في الطبيعيات والفلسفة وغيرها، ويسأل الطلاب ويناقش الأساتذة، فكان ذلك مشجعا لتعلم العلوم الحديثة.
وقد سألته مرة عن حكم السفر إلى أوربا للدراسة بقصد تعلم ما ينفع المسلمين أو بقصد نشر الإسلام، فأجابني بأن هذا السفر إذا كان بهذا القصد فهو واجب.
وبعد انقضاء سنة على سماعي لجوابه هذا الذي أجابني به أتيح لي السفر إلى فرنسا للدراسة، وقد توفي رحمه الله قبل سفري فشيعته باكيا حزينا، ثم تهيأت للسفر إلى باريز بعد أن ترك الشيخ رضي الله عنه في نفسي من الأثر العميق ما لم تنل منه باريز بثقافتها التي سعيت للأخذ منها ومجتمعها الذي عشت فيه ثلاث سنين مختبرا ودارسا ومعتبرا.
موقفه من الحكام:
كان شيخنا رحمه الله لا يزور الحكام ولا يذهب إليهم، وإنما كانوا هم الذين يزورونه، وإذا أراد أن يبلغهم أمرا يتعلق بمصلحة عامة أو بشفاعة خاصة أرسل بعض تلاميذه إليهم يبلغهم رسالة الشيخ وكلامه، وكانوا يتلقون ذلك بالقبول والإحترام، وكانت له عندهم حرمة كبيرة وهيبة عظيمة، حتى إن جمال باشا الطاغية المعروف كان حينما يزوره في غرفته يجلس على الأرض على ركبتيه مطرقا برأسه، وكان يسمعه الشيخ مواعظه القوية، وينبهه إلى ما يجب على الحكام من العدل والبعد عن الظلم.
أما في زمن الفرنسيين فكان يحدث الناس في مسجد بني أمية في الدرس العام وفي درسه المسائي في داره عن وجوب الجهاد على الناس جميعا، وخاصة حينما قامت الثورة السورية، فكان يبين فضل الجهاد ووجوبه على جميع الناس حتى النساء والصغار، وكان لكثير من رجال الثورة صلة به، وشارك بعض تلاميذه في الثورة، وكانت حملاته على الكفار المستولين على بلاد الإسلام مستمرة أيام وجود الفرنسيين، وسمعته يقول يومئذ: إن أموال هؤلاء الأعداء والأموال التي استولوا عليها يجوز أخذها منهم بأي طريقة.
كما سمعته يقول: إذا كانت البواخر التي تنقل الحجاج تابعة لهؤلاء الكفار وهم يتقوون علينا بما يأخذونه من أموالنا ولا سبيل إلى الحج إلا عن طريقها فإنه تسقط فريضة الحج في هذه الحال.
وحينما تولى ابنه الشيخ تاج الدين رياسة الوزارة في المرة الأولى جاء لزيارة أبيه فوجده غير راض لتوليه الحكم، لأنه حكم غير اسلامي ولا تقام فيه حدود الشريعة، ثم لم يجتمع الشيخ بابنه ولا زاره في أثناء وجوده في الحكم في المرتين الأولى والثانية، حتى إن فريقا كبيرا من أتباع الشيخ رحمه الله وهم الذين يمارسون النشاط السياسي كان متنكرا لابنه تاج الدين، معارضا له في سياسته، يشاركون في الحركة الوطنية التي كانت تقوم على قيادتها الكتلة الوطنية يومئذ، وكان الشيخ على صلة حسنة مع هذا الفريق من تلاميذه وأصحابه.
إن موقف شيخنا رحمه الله من الحكام وترفعه عنهم ووقوفه منهم موقف الوعظ المرشد الناصح، أو موقف المحرض على دفع ظلمهم زاد من رفعة مكانته في أعين الناس، حتى أصبح فوق الحكام لأنه يقول كلمة الشرع، ويبلغ رسالة الدين، ولا يخضع إلا لله.
فأين هذا الشيخ العظيم ممن يترددون على أبواب الحكام، ويتزلفون إليهم ولا يتحدثون إلا بما يرضون عنه، ويقفون منهم موقف الطالب لا المطلوب، وياليته موقف المطالب بحق عام أو بتصحيح معوج أو إزالة منكر، ولكنها المطالب الخاصة والمصالح الدنيوية، فيضعهم الناس حيث وضعوا أنفسهم!
رحم الله شيخنا العظيم وأعلى في فراديس الجنان مقامه وألحقنا به في الصالحين، فقد كان روحا يمشي على الأرض، وإنسانا ولكنه حكم كتاب الله وسنة نبيه في عمله وتصرفاته. فتحت له الدنيا أبوابها فأعرض عنها، وتوجه إلى الله لم يتحرك لسانه ولا قدمه إلا حيث تكون طاعة الله.
لقد تواضع غاية التواضع فرفعه الله في حياته وبعد موته، لقد خضع لله وخشع له ولم يخف حاكما أو ظالما، فأوقع هيبته في قلوب الناس وفي نفوس الحكام، لم يتخذ من علمه الواسع ولا من مقامه في إرشاد الناس وتوجيههم وسيلة للاستعلاء عليهم أو كسب المال ونبل الغنى عن طريقهم، ولا لنيل الحظوة عند الحكام، فقد كان أعلى من ذلك كله وأرفع.
لقد كانت منزلته العظيمة في عبوديته لله وفي أداء الأمانة النبوية التي حملها بحق وارثا محمديا ومصلحا إسلاميا، فأداها حق الأداء.
ثم انتقل بعد أن تجاوز الخامسة والثمانين راضيا مرضيا رحمه الله رحمة واسعة وأنزله منازل الصديقين، وجعلنا ونحن من محبيه والمعجبين بدينه وخلقه وسيرته والمنتفعين بعلمه ممن يلحقون به ويحشرون معه، وغفر لنا ذنوبنا الكثيرة بفضله العظيم ورحمته التي وسعت كل شيء إنه سميع مجيب.

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي