العبد يموت على ما عاش عليه.. ويبعث على ما مات عليه
توفيق علي
الدعاء
من نعم الله على العباد، أن فتح لهم من أبواب الطاعات ما يدخلون عليه بها، ويسَّر لهم القيام بها حسب استعداداتهم وطاقتهم، فمنهم من دخل عليه من باب الصلاة، فزاد على الفروض والواجبات نوافل لازمها وأحسن فيها، فمات عليها، ويُبعث إن شاء الله عليها.
ومنهم من دخل على الله من باب الصيام فدوام عليه وأحسن فيه وأكمل، ثم مات على ذلك، ويبعث إن شاء الله على ذلك، وهكذا بالنسبة لسائر الطاعات.
ومن مات ملبياً بُعث ملبياً، كما أخبر عن ذلك النبي الكريم صلى الله عليه وسلم . قال النووي: "معناه على هيئته التي مات عليها ومعه علامة لحجه، وهي دلالة الفضيلة، كما يجيء الشهيد يوم القيامة وأوداجه تشخب دماً"(1).
وعن جابر } قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يبعث كل عبد على ما مات عليه"(2).
والكامل من ضرب بسهم في جميع الطاعات والعبادات وهم قلائل، منهم الصديق } الذي يُدعى من جميع أبواب الجنة، ويُمتع بجميع نعم الجنة، وتكمل له اللذة في الجنة، جزاء لما قدم للإسلام والمسلمين.
فهل نكون من أولئك القلائل؟
إن العبد يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، ويعود عليه عمله بعينه فينعم به ظاهراً وباطناً، فيورثه من الفرح والسرور واللذة والبهجة وقرة العين والنعيم وقوة القلب واستبشاره وحياته وانشراحه واغتباطه ما هو أفضل النعيم، وأجله، وأطيبه، وألذه، وهل النعيم إلا طيب النفس وفرح القلب وسروره وانشراحه واستبشاره هذا؟
وينشأ له من أعماله ما تشتهيه نفسه وتلذ عينه من سائر المشتهيات التي تشتهيها الأنفس وتلذها الأعين، ويكون تنوع تلك المشتهيات وكمالها وبلوغها مرتبة الحسن والموافقة بحسب كمال عمله ومتابعته فيه وإخلاصه وبلوغه مرتبة الإحسان فيه وبحسب تنوعه، فمن تنوعت أعماله المرضية المحبوبة له في هذه الدار تنوعت الأقسام التي يتلذذ بها في تلك الدار وتكثرت له بحسب تكَّثُر أعماله هنا، وكان مزيده بتنوعها والابتهاج بها والالتذاذ هناك على حسب مزيده من الأعمال وتنوعه فيها من هذه الدار.
وقد جعل الله سبحانه لكل عمل من الأعمال المحبوبة له والمسخوطة أثراً وجزاء ولذة وألماً يخصه لا يشبه أثر الآخر وجزاءه، ولهذا تنوعت لذات أهل الجنة وآلام أهل النار، وتنوع ما فيهما من الطيبات والعقوبات. فليست لذة من ضرب في كل مرضاة الله بسهم وأخذ منها بنصيب كلذة من أنمى سهمه ونصيبه في نوع واحد منها، ولا ألم من ضرب في كل مسخوط لله بنصيب وعقوبته كألم من ضرب بسهم واحد من مساخطه.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كمال ما يستمتع به من الطيبات في الآخرة بحسب كمال ما قابله من الأعمال في الدنيا: عن عوف بن مالك قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وبيده عصا وقد علق رجل منا قنا(3) حشفا، فطعن بالعصا في ذلك القنو وقال: " لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب منها"، وقال: "إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف (4) يوم القيامة"(5).
فأخبر أن جزاءه يكون من جنس عمله فيجزى على تلك الصدقة بحشف من جنسها(6).
فما أكثر من يتصدقون بفضول أموالهم!
وما أكثر من ينفقون فضول أوقاتهم!
وما أكثر من يعلمون بفضول علمهم!
فجزاؤهم يوم القيامة مثل ما تصدقوا، وأنفقوا، وعلموا، فالجزاء من جنس العمل.
الهوامش
(1) صحيح مسلم بشرح النووي.
(2) صحيح مسلم، باب: الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، رقم (2878).
(3) القنو: العذق.
(4) الحشف: هو أردأ أنواع التمر، وهو الذي يبس على النخل قبل أن يتم نضجه.
(5) سنن أبي داود، قال الشيخ الألباني: حديث حسن.
(6) اجتماع الجيوش الإسلامية، ص 36.