دِفاعُ الإِمام ابنِ باديس عن الخَلِيفة الشَّهِيد عُثمان رضي اللهُ عنهُ

كانَ الإمامُ ابنُ باديس رحمه الله قد تَرجمَ للصَّحابيّ الجليل أبي ذرٍّ رضي الله عنهُ ترجمةً حافِلَةً، نَشرَهَا على أجزاءٍ في مجلَّتِهِ «الشِّهاب»، ثُمَّ جُمِعَ ذلكَ مع تراجم أخرى في كتابٍ بعنوان «رجال السَّلف ونساؤُهُ» بعناية الأستاذ محمّد الصّالح رمضان رحمه الله. وفي أثناءِ ترجمتِهِ لأبي ذرٍّ، عَرَضَ لتَفنِيدِ الاتِّهامات التي أَلصَقها قومٌ بالخليفة الشَّهيد عثمان رضي الله عنهُ، ومِن هذه الاِفتراءات ما حَوَتهُ بعضُ الكتب العصريَّة! الَّتي كانَ لها النَّصِيبُ الأعظم في التَّرويج للأباطيل وسَوقِها مَسَاقَ المُسلَّمات والحقائِق!! مِن كونِ عُثمانَ رضي الله عنهُ نفَى أبا ذرٍّ رضي الله عنهُ.
أقولُ: لم يَفُت الإمامَ ابنَ باديس أن يقفَ وقفةَ بيانٍ وتَحذير، فيهَا تَصريحٌ بِوُجُوبِ التَّثبُّتِ في ما يُروَى ويُنقَل في حقِّ الخليفَة الرَّاشِد، ممَّا يتنافَى معَ مَقامِهِ ومَنزلتِهِ في الدِّين...وفيهَا قَطعٌ للطَّريق على المُغرِضِين ممَّن يَطعنُونَ في الصَّحبِ الكِرام والخُلَفاء الرَّاشدين المهديِّين، ويُشكِّكون في نزاهتِهِم ويغمِزونَ في ديانتِهِم، فالحذرَ الحذَر مِن أولئِكَ وممَّا يَكتبُون! ـ ومِن حَسنَات الإِمام ابن باديس سَبقُهُ إلى نشرِ كتاب القاضي المالكي ابن العربي المعافريّ: «العواصِم من القواصِم»، عن نُسخة خطّيَّةٍ، ثُمَّ نَشرَ العلاَّمة المجاهِد محبّ الدِّين الخطيب رحمه الله فِيما بعدُ هذا الكتاب نَشرةً مُصحَّحةً، اقتصرَ فيها على الجُزء المُتعلِّق بمواقِفِ الصحَّابة بعد وفاةِ النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم)، وحَلاَّهُ بتعليقاتٍ مُهِمَّة فيها تَحقيقٌ وتَدقيقٌ! ـ وقد جلَّى كُلٌّ مِن الكتاب والتَّعليقات المُلحقَة بهِ كثيرًا مِن الأباطيل والأَغالِيط في حقِّ الصَّحبِ الكرام، مِمَّا ينبغي لكُلِّ مُتَبصِّرٍ أَن يَنظُرَ فيهِ حتَّى يَقفَ على التَّاريخ الصَّحيح الخالي من التَّشويهِ والدّسّ الّّذي طالَ قادَة الإسلام وحملتَهُ الأوَّلِين! قالَ (رحمه الله): «خُرُوجُهُ إلى «الرّبذة»: أَدركَ أبُو ذرٍّ بعدَ قُدُومِه على عُثمان أَنَّهُ لا يستطيعُ مُخالطةَ النَّاس، فاستَأذن عثمانَ في الخُروج إلى «الرّبذة» فأَذِنَ لهُ، أو أَنَّ عثمانَ قال لهُ: «أَو اعتزلتَ»، عَرَضَ عليهِ ما رآهُ أَصلَحَ لهُ، فاختارَ «الرّبذة». وعلى كِلتَا الرِّوايتَين لم يَأمُرهُ عثمانُ بالخُرُوج حتَّى يُقالَ فِيهِ أَنَّهُ قَد نفاهُ كما يَقُولُهُ المُتَجَنُّون على عُثمان رضي الله عنه. خَرجَ أبُو ذرٍّ إلى «الرّبذة»[1] فخَطَّ بها مسجدًا، وأَقطَعَهُ عثمانُ صرمَةً مِن الإِبل وأَعطاهُ مملوكِين، أَرسلَ إليهِ أَن تَعاهَد المدينة حتَّى لا تَرتَدَّ أعرابيًّا. وقد نُهُوا عن التَّعرُّب بعدَ الهِجرة، لما في التَّبَدِّي والاِنقطاع عن الجماعة ومَشاهِد العِلم والدِّين مِن الجَفوَة.

تَحْذِيرٌ:
قد ابتُليَ عثمانُ بأنواعٍ مِن البلايَا، منها ما يَنقمُهُ عليهِ قومٌ بالباطل، فمِن ذلك نِقمتُهُم عليهِ نَفْيَهُ أبا ذَرٍّ، وقد رأيتَ فيمَا ذَكَرنا أَنَّهُ لم يَنفِهِ، ثُمَّ هَبْهُ نفاهُ بالنَّظر المصلحيِّ، كان مَاذَا؟[2]، فقد رُوي أنَّ عمر رضي الله عنه سَجنَ ابنَ مسعودٍ في نَفَرٍ مِن الصحابةِ سنةً بالمدينة حتَّى استُشهِد، فأَطلقَهم عثمانُ، وكان سَجنُهم لأنَّ القومَ أكثرُوا الحديثَ عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم [3]، وهذا ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه نَقَمَ على عثمانَ أَنَّهُ لم يُدخِلهُ في كتابةِ المُصحف، وقَدَّم زيدَ ابن ثابتٍ رضي الله عنه، مع أَنَّ عثمانَ قد كان مُقتدِيًا بأبي بكرٍ رضي الله عنه، وقَد قَدَّم زيدَ بن ثابتٍ لجَمعِ المُصحف دون ابنِ مسعودٍ، ولم يَقُل يومَ ذلكَ ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه عنهُ شيئًا، وقَد راجََع ابنُ مسعودٍ الحَقَّ، وقَبِلَ ما صَنَعَ عثمانُ [4].
فعَلَى النَّاظِرِ في تاريخِ عثمانَ رضي الله عنه أَن يَتَثَبَّتَ ويَتحَرَّى، حتَّى لاَ يَقَعَ في ظُلمٍ وبَاطِلٍ في حَقِّ هذا الإِمامِ الشَّهيدِ العَظِيم». [«الشِّهاب»، م 11، (ص 349 - 350)، ج 6، غرّة جمادى الثانية 1354هـ- سبتمبر 1935م/ «آثار ابن باديس» (3/ 42-43)]

الحواشي :
[1] - [«الطبري» ج 5 ص 66]
[2] - «العواصم» ج 2 ص 106.
[3] - انظر تعليق الخطيب على كتاب «العواصم»(ص87)، ففيه تضعيفٌ لهذه الرِّواية.
[4] - انظر تعليق الخطيب على كتاب «العواصم»(ص77-78)، و«مِنهاج السُّنَّة النَّبويَّة» لابن تيميَّة (6/157-158).
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
منقول : بقلم : الشَّيخ سمير سمراد -حفظه الله تعالى -