كتاب- التاريخ الضائع-الحلقة(2)
نوابغ عباقرة أسسوا لمسيرة العلم والبحث النظري والتطبيقي في الإسلام
تأليف :مايكل مورغان



يتناول المؤلف في هذه الحلقة بعضاً من منجزات العلماء المسلمين في ميادين العلوم المختلفة كالرياضيات والفلك والطب والفلسفة والجبر والهندسة والعمارة.

ويرى أن المسلمين لم يكتفوا بالأخذ عمن سبقوهم من علماء ومفكرين وإنما أضافوا إلى ذلك نتاج ما توصلوا إليه بعد دراسات وبحوث تطبيقية وصححوا ما كان سائداً من نظريات خاطئة، ويروي لنا كيف تحولت حواضر البلدان الإسلامية إلى منارات تشع علماً وثقافة، وكيف كانت كل واحدة منها تكمل ما توصلت إليه الأخرى لكي تمضي مسيرة العلم والعلماء إلى الأمام.ويؤكد المؤلف على أن العوامل التي ساعدت على تقدم العلم في العالم الإسلامي يمكن تلخيصها في الانفتاح على الآخر وتشجيع العلماء ودعمهم من قبل الحكام والازدهار الاقتصادي الذي أتاح المجال لتأسيس مراكز البحوث وبناء الصروح المعمارية التي تعتبر روائع فنية ليس لها مثيل في شتى بقاع الأرض.في ظل ازدهار الحضارة الإسلامية تعددت مراكز وعواصم العلم والفكر والبحث والإبداع ما بين بغداد.

وقد بلغت الذروة بوصفها حاضرة الإمبراطورية الإسلامية وخاصة في عصر المأمون، إلى قرطبة وأشبيلية وغرناطة في أسبانيا - الأندلس الإسلامية الزاهرة - إلى كل من القاهرة عاصمة مصر التي تحرس الساحل الأفريقي المطل على البحر المتوسط، إلى سمرقند في وسط آسيا إلى أصفهان في فارس ومن ثم إلى دلهي وأخيرا في شبه القارة الهندية. في القرن الحادي عشر للميلاد حلقت القاهرة الفاطمية إلى ذروة العلم والمعرفة حيث شهدت تسامحا بين الأديان وجاءها من المشرق علماء كبار مثل «ابن الهيثم» نابغة الطبيعيات ومؤسس وأستاذ علم الضوء والبصريات.وتحولت فيه مؤسسة الأزهر من مركز للدعاية المذهبية إلى جامعة للعلوم الدينية والدراسات الكلاسيكية التي تخرجت من أروقتها أجيال من بعد أجيال عاشت وعلمت وأضاءت جنبات العالم الإسلامي بأسره حتى كتابة هذه السطور.

هذا التحول تم بالذات في عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي، الذي ارتبط اسمه ونضاله بمعركة «حطين» المظفرة (سنة 1187 للميلاد) وكانت هي المواجهة الفاصلة التي حررت أرض فلسطين والشام من الاحتلال الأوروبي الذي كان مستترا أيامها خلف شعارات الصليبيين.

يقول مؤلف الكتاب (ص 74): بفضل شمائله وسلوكياته أصبح صلاح الدين (صلادين كما يعرف في حوليات التاريخ الغربي) رمزا للمقدرة على حشد الإمكانات والموارد الإسلامية لإنهاء الغزوات المسيحية (الأوروبية) في أواخر القرن الثاني عشر، بيد أن صلاح الدين لن يقتصر أمره على تحويل مسار الأحداث (في فلسطين) لصالح المسلمين.

بل سيصبح أيضاً عند أهل أوروبا رمزا لشهامة المسلم وكرامته سواء بفضل معاملته الرحيمة للسكان المسيحيين عندما استرد بيت المقدس أو بفضل علاقته التي ربطته عبر الحدود والمسافات مع القائد الأوروبي ريتشارد قلب الأسد وكانت علاقة قامت على أساس من الشرف والاحترام المتبادل.

وعند هذا المنعطف من طروحات الكتاب، يوضح المؤلف تلك الظاهرة، هذه الكيمياء العجيبة كما نسميها من جانبنا ويتسم بها عالم الإسلام والمسلمين وقد يترجمها شطر البيت الشعري القديم الذي يقول: «إذا مات منا سيدٌ قام سيدُ».

والمعنى أنه عندما كانت الدوائر تدور على مركز من مراكز الثقافة والحضارة والازدهار في دولة الإسلام، إذا بالمراكز الأخرى تنهض ويشتد ساعدها كي تحل محله وتقوم بدوره تعويضا وسلوى وإضافة وقدرة على مواصلة مسيرة الحضارة كي لا تنطفئ لها شعلة في بلاد المسلمين.

ابن النفيس في «البيمارستان»

هكذا، عندما اجتاح المغول بغداد في القرن الثالث عشر وغربت شمس عاصمة الرافدين تحت سنابل هذه الجحافل البربرية من التتار، نهضت القاهرة كي تصبح مركز العالم الإسلامي والسياسي والثقافي، ولتكون مهوى ومثابة للقاصدين من النوابغ والعلماء والمفكرين والمبتكرين الذين سكنوها وأنتجوا بين ربوعها ولقوا التشجيع من حكامها ومثقفيها.

وهكذا ففي القرن الثالث عشر جاء إلى القاهرة «ابن النفيس» السوري المولد ليعمل أستاذا للعلوم الطبية في المصح المنصوري (البيمارستان) بالقاهرة، ولم يكن الرجل مجرد مردّد لمقولات القدماء من حكماء الطب وفلاسفته حتى ولو كانوا في قامة غالينوس حكيم الطب الشهير في حضارة الإغريق:

لقد عمد ابن النفيس العربي المسلم إلى تفنيد نظريات الطبيب اليوناني القديم بالنسبة لحركة الدم في شرايين الجسم البشري وأكد لتلاميذه وفي كتاباته بالشرح والوصف البياني كيف أن الدم يتدفق من القلب عن طريق الرئتين إلى سائر أوصال الجسم وجوارحه ثم لا يلبث أن يعود إلى القلب من جديد. وبهذا كان الحكيم المسلم أول من اكتشف الدورة الدموية التي سيطوّرها هارفي الإنجليزي ويسهب في شرحها بعد ريادة ابن النفيس بعدّة قرون

أصفهان ونيسابور

تصدق مقولات الازدهار العلمي والفكري نفسها على أصفهان الفارسية وخاصة في ظل دولة السلاجقة في القرن الحادي عشر الذين لم يقصروا في بناء مؤسسات التعليم ومراكز البحث العلمي.

ولا قصروا في اجتذاب العلماء والمفكرين من أنحاء العالم الإسلامي كافة. وهكذا بسط السلاجقة رعايتهم على العلماء والفنانين والشعراء والمبدعين. وليس صدفة مثلا أن تزدهر في ظلهم مدن أخرى في تلك الربوع ومنها نيسابور التي كانت مع أصفهان موئلا للعالم والشاعر الأشهر «عمر الخيام».

حيث بلغت نيسابور ذرى التقدم تحت رعاية حاكمها «نظام الملك» فيما كانت مدينة قونيه تجاوبها من ناحية الأناضول - آسيا الصغرى التركية وتؤوي واحدا من أعلام التصوف الإسلامي هو الشاعر الفيلسوف جلال الدين الرومي الذي ما برحت أوروبا واقعة في سحر مثنوياته الشعرية بعد ترجمتها إلى العديد من لغاتها حيث يوقرها كما يوضح المؤلف (ص 75) المسيحيون بقدر ما يعتز بها المسلمون حول العالم كله منذ رحيل الرومي إلى عالم الخلود وعلى امتداد 800 سنة حتى الآن.

منجزات العمارة الإسلامية

إلى جانب الفكر والعلم والتعليم بالكلمة والعبارة والقصيدة، تجسدت مآثر الحضارة الإسلامية في فن العمارة الشامخ الباذخ الذي تحفل أصفهان بإبداعاته حتى الآن.

يقول مؤلف الكتاب في نفس السياق: «هذه البدائع المعمارية هي التي دفعت الرحالة البريطاني «روبرت بايرون» إلى التجوال في أنحاء المدينة الإسلامية ليقول بعدها: عجائب المعمار في أصفهان لا تباريها أي صروح معمارية في أوروبا بأسرها ولا حتى كنيسة سان بيتر (في روما - الفاتيكان) ولا قصر فرساي في باريس».

في القرن الثامن للميلاد وصلت مشاعل الضياء الإسلامي: تعاليم العقيدة ومنظومات القيم ومثل الأخلاق العليا ومن ثم بشائر العمران والحضارة إلى أصقاع آسيا الوسطى وتضوعت بأريجها مدن تلك المنطقة ما بين كابول إلى بخارى إلى سمرقند وكلها ستصبح مراكز زاهرة للثقافة والمواهب والنوابغ والابتكارات الإسلامية.

أما في شمالي شبه القارة الهندية فكانت بلاد السند قد فتحت أمام الديانة والتعاليم الإسلامية منذ القرن الثامن، ونشطت فيها عمليات التبادل التجاري على طول سواحل بحر العرب. وبدأت تتبلور على صعيدها مراكز للثقافة الإسلامية في لاهور ودلهي لدرجة أن سلطنة دلهي التي امتد عزها من عام 1206 إلى عام 1526 ظلت تسيطر على كامل شمالي الهند ما بين الحدود الأفغانية إلى بلاد البنغال.

عصر نهضة الإسلام في الهند

أما العصر الذهبي للهند المسلمة فكان مقدرا له أن يحل مع وصول المغول المحدثين من وسط آسيا في القرن السادس عشر وتأسيس إمبراطورية المغول التي دامت وازدهرت وأثمرت من عام 1526 وحتى خضوع الهند للاستعمار البريطاني عام 1857.

وكان أول حكامهم الكبار هو السلطان «بابور» الذي انطلق من مقره الأصلي في أوزبكستان، وكان كما يقول مترجمو سيرته رجلا مثقفا، كاتبا وقارئا ومشجعا للعلم والعلماء وقد ترك ترجمة ذاتية لحياته تحت عنوان «بابوراما».

ورغم أنه كان لكل من مدينتي دلهي ولاهور نصيب في مجد وازدهار هذه الإمبراطورية المسلمة إلا أن أعظم عواصمها كانت مدينة أجرا التي ازدهرت بين عامي 1526 و1658 للميلاد.

ولعل أفضل حكام هذه السلسلة هو السلطان «أكبر» حفيد بابور الذي أحبه جميع سكان الهند مسلمين وغير مسلمين لأنه عمد - كما يضيف مؤلف الكتاب - إلى تعميق الشعور بالمحبة والوئام والتسامح بين المسلمين وسائر الملل الأخرى.

ومن سلالته يذكر المؤلف، والتاريخ أيضاً اسم شهاب الدين محمد شاه جيهان الذي يصفه المؤلف بأنه كان من «سادة» البنائين العظام» وهو الذي أمر بتشييد صرح «تاج محل» في أجرا والقلعة الحمراء في دلهي وكثير من الصروح والروائع المعمارية التي تشهد بعظمة الحضارة الإسلامية في أوج مجدها في بلاد الهند.

ومن الطبيعي أن يصوّر مؤلفنا قصة الحب الرائعة التي سجلها تاريخ العالم بعد زواج شاه جيهان من أميرته الجميلة ممتاز محل: فقد أراد العاهل المسلم أن يخلّد ذكرى محبوبته الموصولة لزوجته، فدعا إلى بلاطه عشرات من المعماريين والشعراء والفنانين والمفكرين الذين ازدان بهم قصره فضلا عن تشييد تحفة تاج محل تخليدا لذكرى زوجته التي رحلت زهرة في أوج الشباب.

ولقد بلغ ازدهار هذه الإمبراطورية الإسلامية في الهند الحد الذي يقول معه مؤلف الكتاب: ما إن وافت بدايات القرن الثامن عشر حتى أصبحت إمبراطورية المغول المسلمة في الهند تمتلك ما يقرب من 25 في المئة من كل أسباب الثروة المادية في طول الدنيا وعرضها، ومن ثم زاد عدد سكانها بفضل الازدهار ورغد العيش في ظلها إلى 140 مليون نسمة وبذلك فاقوا فيها سائر شعوب المعمورة في ذلك الوقت باستثناء سكان الصين.

حكاية الباحثة فاطمة خان

الفصل الثالث من الكتاب يفتح سطوره بالحديث عن علم الرياضيات والحساب، وعلى عادته يقتبس المؤلف من أنوار الكتاب الكريم في قوله تعالى: «وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا» صدق الله العظيم. وعلى عادة المؤلف أيضاً فهو ينطلق من الواقع المعاصر في زماننا، ثم يرجع به قرونا إلى حيث أوج ازدهار الحضارة والفكر الإسلامي.

لهذا يبدأ الفصل الثالث من منطقة بنجالور بالهند التي تغطيها أشجار السافانا وهي قابعة في أهاب من الحداثة والتقدم المرموق في هضبة الدكن الهندية ببنجالور عمرها 500 عام وهو عمر هين وبسيط في بلد تمتد حياته آلافا من السنين.

ولكن نموها يرجع معظمه إلى 30 سنة وحسب من زماننا الراهن، يتحول المؤلف بين المكاتب والبنايات التي تجسد أعلى درجات التحديث في هذا العصر - يحدثنا (ص 81) عن فاطمة خان، التي تقبع في أحد المكاتب وتسجل وتستخدم اللوغاريتمات الرياضية لاستخدامها في برامج الحاسوب الإلكتروني من أجل دعم تجارة السلع التي أصبحت تغطي بقاعا شتى من عالمنا ما بين شيكاغو في أميركا إلى سنغافورة في جنوب شرقي آسيا.

اللوغاريتمات - يقول المؤلف - تشكل حزمة من الحسابات العددية والتعليمات الرياضية التي تستخدم بطريقة منهجية وصولا إلى النتائج المنشودة، وهي بذلك أمر أساسي بالنسبة لتصميم برامج الحواسيب ومن ثم تأتي أهميتها الفائقة بالنسبة إلى العلوم الطبيعية والهندسية الحديثة وخاصة ما يتعلق بأجهزة الحساب والتقدير الإلكترونية، كائنات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية كما يسمونها.

الباحثة فاطمة خان، النابغة المسلمة تعمل في المكتب الذي أسسته بنفسها وجعلت منه تجسيدا لأحدث منجزات عصر العلم والتكنولوجيا.

وامتدت دوائر عملائها لتغطي قارات العالم. تعلمت فاطمة مهاراتها هذه في وادي السيليكون بولاية كاليفورنيا الأميركية حيث تخرجت بتفوق من الجامعة وحيث كان ينتظرها مستقبل أكثر من واعد ومبشر لو استمرت تعمل مع مؤسسات الحواسيب الكبرى في الولايات المتحدة.

لكنها قررت يوما أن تعود إلى وطنها، وتؤسس شركتها الخاصة، وكذلك فعل الكثيرون من جيلها، أطباء ومهندسون ومنظمو مشاريع من نوابغ الخريجين عادوا إلى الوطن ليشكلوا طبقة وسطى أصبح أفرادها معقد الآمال في الأخذ بيد شعوبهم إلى حياة ومنجزات القرن الحادي والعشرين.

كتاب الخوارزمي

بين أحدث أجهزة الحاسوب، وفي غمار التعامل عبر أحدث الهواتف مع عملاء في كل أنحاء الدنيا، ما زالت فاطمة خان تعتز بكتاب قديم يطل عليها من فوق رف المكتبة، ما برحت تستعيد معه ذكرى دراستها الجامعية وتكاد تتنسم بين صفحاته عبق التاريخ. الكتاب يحمل العنوان التالي:

عناصر اللوغاريتمات. وتعلوه صورة لمؤلفه القديم، أبو بكر الخوارزمي، عالم الرياضيات المسلم الذي كتب بالعربية دراساته الرياضية ونبغ في تطوير أفكاره إلى حيث اهتدى إلى مسائل اللوغاريتمات الرياضية، أو هي في الأصل اللوخاريزمات - الخوارزميات التي ما زالت منسوبة إلى هذا النابغة المسلم في كل بلد وفي كل تخصص رياضي وحسابي على صعيد الدنيا كلها.

ولد الخوارزمي باسم محمد في منطقة حشائش الاستبس في خوارزم بوسط آسيا على طريق الحرير القديم الذي كانوا ينقلون التجارة عبره بين الصين في الشرق وأوروبا في الغرب، استدعاه المأمون عام 832 فكان أن اندمج في مواكب كبار المترجمين وعلماء الحساب والرياضيات العرب من مسلمين وغير مسلمين ومنهم من كان عاكفا على حل معادلات أقليدس ودراسة نظريات فيثاغورس.

يقول المؤلف: كأنما كان يلمح أسرار الكون وقوانين حركته وسط ما تعامل معه من المعادلات والحسابات وسلاسل الأرقام الرياضية، وحيث كل شيء بمقدار.

وبوصفه مسلما، كان يدرك بيقين أن قدرة الله سبحانه تتجلى إذا ما سار المرء على طريق العقل والحكمة، وهكذا أوصله تفكيره ونبوغه إلى أنْ قام بثورة في علم الرياضيات وعالم الحساب.

اكتشاف «الصفر»

في هذا السياق يمضي مؤلف الكتاب ليتقصّى بتفصيل دقيق يدعو للإعجاب جوانب التطور العلمي والسيرة الإبداعية لعالم الرياضيات المسلم لدرجة أن حرص الأستاذ مايكل مورغان على أن ينشر طابع البريد التذكاري الذي أصدره الاتحاد السوفيتي يحمل صورة (متخيلة طبعا) للخوارزمي تخليدا لذكراه.

يحكي لنا المؤلف أيضاً عن تأثر الرياضي المسلم بعلوم الرياضيات في حضارة الهند، وعن حرصه على أن ينقل له المترجمون الكتاب الذي ترجموه عن السنسكريتية - لغة الهند القديمة بعنوان «سند هند». وقد استوعبه الخوارزمي وكان أن فتح أمام عبقريته آفاقا رحبة، وأتاح له منظورا مبتكرا على دنيا الحساب، فكان أن توصل إلى اكتشاف قيمة «الصفر» التي أعيت من سبقه من علماء الحضارات الغابرة.

وكان أن وضع أساس علم «الجبر» وطرح كذلك مصطلح «المقابلة» وفي هذا الصدد يحرص المؤلف، في جهد مشكور حقا، على تقريب هذين المصطلحين اللذين يوردهما في سطور الكتاب في أصلهما العربي موضحا لقارئ الإنجليزية أن الجبر من معنى التعويض والاستعاضة، والمقابلة بمعنى المقارنة أو التناظر. بعدها يواصل المؤلف حديثه عن الخوارزمي قائلا:

هكذا استطاع الخوارزمي أن يستحدث نظاما قُيض له أن يهيئ مفتاحا يفضي إلى فك أسرار الكون. أتاحت أرقامه الرياضية وطرائق الحساب التي ابتدعها إمكانية أن يشيّد البشر أبراجا (ناطحات سحاب) ارتفاعها 100 طابق وجسورا طولها 100 ميل، لقد أتاح هذا كله حسابات النقطة التي تتقاطع معها مجريات الكواكب.

وحسابات ردود الفعل في مجال الطبيعة النووية وعمليات الخلايا في التكنولوجيا الحيوية وفي بحوث العقاقير الدوائية والتسويق، فضلا عما يعيشه عالمنا اليوم في مجالات لغة برامج الحاسوب وتكنولوجيا الهواتف المحمولة. لكن ها هو اليوم يأتي لكي ينسى الأوروبيون، وينسى معهم قوم كثيرون آخرون، مَنْ كان هذا العالم المسلم وما الذي أسداه من فضل للبشرية.

وقد يكتفون - بغير أن يعرفوا - بترديد اسمه عَلمَاً على اللوغاريتمات الرياضية، بل قد يأتي اليوم الذي ينكر فيه بعض مؤرخي الرياضيات في أوروبا فضل الخوارزمي وعظمة عطائه.

جحود الفضل وتشويه التاريخ

إن نسيان - أو تناسي التاريخ، يمكن - كما يقول مؤلف الكتاب - أن ينجم عنه غرائب لا تصدق حتى في مجال الرياضيات، هذا النسيان أو الجحود يمكن أن يجرّد المخترع من نبوغه وعطائه ويحيله إلى طرف آخر محظوظ ليس إلا.

ومع ذلك فالتاريخ يظل أشبه بمعادلة رياضية تقوم على افتراض مغلوط، فالتاريخ المليء بالثغرات يظل كتابا مشوشا وينطوي على أخطاء لا تنال منها سوى الخلط والارتباك. ولأن العلم حلقات من سلسلة مضيئة يقوم على أمر كل منها نابغة عبقري، كذلك كانت مسيرة العلم والبحث النظري والتطبيقي في ظل حضارة الإسلام.

رائد علم البصريات

لهذا فعندما يعرض كتابنا، أو بالأدق عندما يحرص الكتاب، على تقليب أو إحياء سيرة الحسن ابن الهيثم أمام قارئه الأوروبي يظل مؤلفنا حريصا على إثبات أن ابن الهيثم انطلق من إنجازات الخوارزمي عام 850 للميلاد.

يوضح المؤلف أن «ابن الهيثم»، قد نشأ في البصرة مع أواخر القرن العاشر الميلادي، ثم نزح إلى القاهرة في سن النضوج، كتب أكثر من 200 كتاب ضاع أغلبها، ولكنه سجل اسمه في تاريخ العلم من خلال تأكيده على ضرورة البحث التجريبي دون الاكتفاء بالدراسة النظرية، وبهذا يعد هذا العالم المسلم رائد المدرسة الإمبريقية في مضمار العلوم التطبيقية، ومن خلال بحوثه استطاع تفنيد وتصحيح كثير من النظريات العلمية القديمة التي كادت تكون موضع تسليم في زمانه.

وأولها - كما هو معروف - نظرية أن الأشعة تنبعث من الأشياء إلى العين المبصرة وليس العكس على نحو ما ظل يقول به القدماء منذ أيام بطليموس في عصر ما قبل الميلاد. والحق أن ابن الهيثم شغف بالضوء وظل يتابع دراساته نظريا وعمليا ويكتب عن مسرى الأشعة، ونفاذ الأشعة، في الأجسام الشفافة وعن انكسار الأشعة وتعدد عناصر حزمة الأشعة حسب ألوان الطيف.

وكم شهدتْه لحظات الغسق عند الغروب أو لحظات الانبلاج عند الشروق، وسط أنواء الصيف والشتاء فوق تلال القاهرة وهضابها منصرفا إلى ربط الفكر بالملاحظة، وتطبيق النظرية على المشاهدة المباشرة في الطبيعة ذاتها، وهو بذلك يطور فكره ويعمق بحوثه في دراسة الضوء حتى ليعد بحق رائدا في علم البصريات.

يضيف مؤلفنا قائلا (ص 105): بلغ ابن الهيثم في علوم الفيزياء شأنا بعيدا ويبدو أنه كان واعيا بظاهرة الجاذبية ذاتها فقد كتب في مؤلفاته عن ظاهرة اجتذاب الكتلة وكان بذلك سابقا على كل من جاليليو الإيطالي وإسحق نيوتن الانجليزي بنحو 600 سنة.

عرض ومناقشة: محمد الخولي