هذا المقال المؤثر يروي قصة شاب حقيقية توفي يوم الثلاثاء الماضي 24/7/2012 ،بحادث سير وهو عائد من مدينة الرمثا إلى عمان (الأردن ) ، علما بأن هذا الشاب الطيب يعيل عائلتين: أمه وأخواته وزوجته وابنته، رحمه الله وجعل الجنة مأواه, وكاتب المقال هو ابن عمه.



صفعة الموت.. معتز نموذجاً..
8/1/2012 11:54:00 am


على عجل غادر المستشفى حيث يعمل بعد أن صلى الظهر وانطلق.. من خلفه كانت الرمثا وأمامه طريق العودة إلى عمان.. آمال عريضة وطموح جامح وسعادة غامرة فبعد أيام قلائل ستضع زوجته مولوداً جديداً.. كانت صورة ابنته الصغيرة تتراقص في مخيلته يتذكر ضحكاتها ودلالها بين ذراعيه تطير من ذراعه لحجر والدتها وجدتها وعماتها كفراشة رائعة الجمال.. انطلق وقلبه يكاد يسبقه إلى حيث الأحبة ليكون بينهم ويسعد بالإفطار وسطهم..

تربع الموت على طريق الأحلام هذه وكانت المنية أسرع من أن تتركه يودّع أحبته وأهله ومعارفه أو حتى يُدرك ما الذي حصل!!.. بلمح البصر قفزت سيارة من الاتجاه الآخر لتجرفه وسيارته إلى حد الطريق وليُسمع رجال الدفاع المدني كلمات الشهادتين التي خرجت مع أنفاسه الأخيرة غريباً صائماً شاباً في ريعان الشباب.

بعدها بساعتين كنت أقف أمام جثمانه يصفعني الموت يمنة ويسرة ولا أملك أمامه إلا التسليم بقضاء الله وقدره وأتعجب من دنيانا هذه التي نتكالب عليها وتأخذنا في كل اتجاه ونحن فيها نتقلب من حال لآخر.. نختلف ونتخاصم ونتشاحن ونتدابر.. بل ربما وقف الابن أمام أبيه والأخ أمام أخيه في المحاكم.. تنساب الأيام والأعوام من أعمارنا كما الماء من بين الأصابع ونحن في إقبال على الدنيا وتشبث بها لا نطيق عنها فكاكا.

قبلتُ جبينه ومسحت على رأسه وكلما حاولت أن أكذب عينيّ يصفعني الموت مجدداً لأعود للحقيقة المرّة التي لا بدّ منها: معتزّ رحل وأنت على إثره راحل وكلكم سترحلون.. ستتركون الأعمال والأموال والديون والأولاد والأحباب والمهام والواجبات.. يصفعني الموت مجدداً ليذكرني بأن أحداً لم يمت إلا وله في الدنيا آمال وطموحات ورغبات وحاجات رحل وتركها.

أمام رجال الأمن العام كنت أستلم متعلقاته صغيرها وحقيرها وعظيمها وكبيرها.. أوراق ودنانير معدودة ومحفظة.. يسلمني إياها واحدة في إثر أخرى وكأنه يجرعني الحسرة بالتنقيط.. ويعاود الموت لعبته المؤلمة معي ليصفعني مرّة بعد أخرى.. ليس لك من دنياك إلا عملك أخصّ خصوصياتك يأخذها غيرك.. بكيت عندما استلمت هويته التي لن يحتاجها بعد اليوم فالموت قد استخرج له هوية جديدة تنتمي إلى عالم غير عالمنا.

على خشبة المغتسل كان يتقلب ذاك الشاب الصبوح الوسيم بين يدي مغسليه دون إرادة أو اعتراض.. يتدثر بأكفانه وشيئاً فشيئاً تغيب ملامح الدنيا عنه ليقترب أكثر فأكثر من صورة أهل الآخرة وما بين بيته والمسجد والطريق وانتهاءً بمرقده في التراب كانت صفعات الموت تتوالى على الجميع.. وكأني بهم وقد فتح كل واحد منهم دفتر ذكرياته حيناً يسترجع ذكريات معتز معه، وحيناً آخر يلوي على نفسه يؤنبها على التقصير والذنوب ويخوّفها من هوة الرحيل التي تنفتح فجأة وتأخذ من تشاء دون استئذان.

من منّا لم يصفعه الموت مراراً وتكراراً؟!! الموت لا يصفع إلا الأحياء، أمّا الراحلون فإمّا أن يأخذهم بيدٍ حانية عطوفة رحيمة، وإمّا ينتزع أرواحهم انتزاعاً يزلزل كيانهم ويهدم ملذاتهم ويدفع في أقفيتهم نحو هاوية لا قرار لها والعياذ بالله.

على الرغم من قساوة صفعة الموت وشدّتها إلاّ أنّها تحمل رحمة كبيرة وفرصة عظيمة؛ فهي نداء أخير وتذكير وتحذير من أنك التالي أو الذي يليه.. صفعة الموت كما أنّها تذّلنا وتقهرنا فهي تدفعنا لنستثمر هذه الحياة الفانية فيما يحبه الله ويرضاه وأن نحرص على الودّ الذي بيننا فسيرحل الراحلون دون وداع وعندها سنندم على أننا فرطنا في حقهم أو تراخينا في واجبهم.

معتز.. ابن العم الغالي رحل وفي رحيله عبر كثيرة، فهو وإن كان يعول أسرتين فإنّ الله هو الرازق ومعتز سبب.. وإن كان شاباً فإنّ الموت لا يؤمن بالأعمار ولا يحفل بها.. وإن كان سائقاً ماهراً فمن مأمنه يؤتى الحذر.. حسبه أنّه رحل والكل يحبه ويذكر جميل خصاله وأخلاقه.. وفي مجلس عزائه رأيت أروع صور التعاطف والإخوة والإحسان من الأقارب والأرحام ومن الأحبة والجيران ومن الرائعين جداً شركته وزملائه في العمل ومن إخوانه في الله الذين لم تلدهم أمه.. رحمك الله يا معتزّ ورحم الله كل أمواتنا.. وداعاً معتز وجعل الله ملتقانا بك في جنان النعيم.


رسالة وردتني من الاخ معتصم الصمادي