خطبة الجمعة : أسس الجوار .. للإمام الشيخ : عبدالله المؤدب البدروشي .. الخطيب بالجامع الكبير...شنني قابس
الخطبة الأولى :
الحمد لله الذي ألف بالإسلام بين قلوب المؤمنين.. و أوصى بالإحسان بين الأهل و الأجوار و الأقربين ..أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. أمر بالتراحم بين المؤمنين..ونهى عن الأذى في كتابه المبين.. و أشهد أن سيدنا و حبيبنا محمدا عبده و رسوله..إمام المتقين.. و الرحمة المهداة للناس أجمعين.. اللهم صل وسلم عليه في الأولين و الآخرين..وارض اللهم على آله الأكرمين الأطهرين..و على صحابته الغر الميامين..و على من تبعهم بإحسان و حسن يقين.. اللهم واحشرنا تحت لوائه المتين..و اجعله شفيعنا و قائدنا إلى جوارك الأمين..
أما بعد.. إخوة الإيمان و العقيدة ..
جاء في كتاب المسند..للإمام أحمد..رضي الله عنه..أن رجلا من الأنصار قَالَ خَرَجْتُ مَعَ أَهْلِى أُرِيدُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- وَإِذَا أَنَا بِهِ قَائِمٌ.. وَإِذَا رَجُلٌ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ.. فَظَنَنْتُ أَنَّ لَهُمَا حَاجَةً.. فَجَلَسْتُ.. فَوَاللَّهِ لَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.. حَتَّى جَعَلْتُ أَرْثِى لَهُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ ..ثُمَّ انْصَرَفَ.. فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.. لَقَدْ قَامَ بِكَ هَذَا الرَّجُلُ حَتَّى جَعَلْتُ أَرْثِى لَكَ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ .. قَالَ « أَتَدْرِى مَنْ هَذَا ». قُلْتُ لاَ . قَالَ « ذاكَ جِبْرِيلُ.. يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ.. أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَلَّمْتَ عَلَيْهِ لَرَدَّ عَلَيْكَ السَّلاَمَ..
الوصية بالجار..أسسها وشيدها الإسلام على ثلاث ركائز..هي الإحسان إلى الجار..و كف الأذى عنه..واحتمال الأذى منه.. أما الإحسان إلى الجار..فأساسه أمر الله و رسوله..الله جل جلاله..لما خلق آدم عليه السلام ..لم يتركه وحده..بل خلق منه زوجه..يقول الله جل وعلا.. هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا.. ليطمئن إليها..ليتآلف معها.. فالألفة و التقارب و التعايش..جبلة و فطرة .. بذرها فينا خالقنا المبدع.. فطرة اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا.. فالإنسان مدني بطبعه.. اجتماعي بفطرته .. يعيش على تبادل النفع و الانتفاع.. وإسلامنا دين الحق.. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ..هذا الدين الحق.. مبني على الحقوق و الواجبات..فكل أمر لك فيه حق, عليك فيه واجب.. من أجل ذلك كان أمر الله لعباده..بقوله جل وعلا وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ .. فواجبك أيها المؤمن بالله.. أن تعبد الله حق عبادته..و حقك على الله أن يسعدك دنيا وأخرى..أورد الإمامان البخاري و مسلم في صحيحيهما عن الصحابي مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ.. أنه قَالَ.. كُنْتُ رِدْفَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم-عَلَى حِمَارٍ لَهُ .. فَقَالَ يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ.. قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ.. قالها ثلاثا.. ثُمَّ قَالَ هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ .. قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .. ثُمَّ سَارَ سَاعَةً.. ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ.. قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ .. قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ.. هذا واجبك مع الله ..و حقه عليك.. وواجبك أيضا .. أن تحسن لأمك و أبيك..وذلك من حقهما عليك..أن ترعاهما وأن تسعدهما.. وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا.. نعم.. وأن تحسن إلى أقربائك.. وأن تحسن لكل يتيم..و لكل مسكين.. وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ.. وأن تحسن إلى جارك.. وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ.. والجار أحد ثلاثة : إما أن يكون جاراً غير مسلم فهذا له حق الجوار .. وإما أن يكون جاراً مسلمًا.. فهذا له حق الجوار وحق الأخوة في الإسلام، وإما أن يكون جاراً مسلمًا قريبًا.. فهذا له حق الجوار وحق الأخوة في الإسلام وحق صلة الرحم..يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.. مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ..
.. فبالإحسان يكثر التراحم و التآلف..و تنتشر الطمأنينة و راحة البال..و بالإحسان تحلو الحياة.. و تنشأ المودة بين الناس.. احتاج أبو الجهم العدوي لمال..فاضطر أن يبيع داره..فبلغ ثمنها مائة ألف دينار،ولما تم الإتفاق على ثمن الدار.. قال للمشترين: بكم تشترون جوار سعيد بن العاص؟ فقالوا: وهل يشترى جوار قط؟ قال: ردوا عليَّ داري، وخذوا دراهمكم، والله لا أدع جوار رجل: إن فـُقدتُ سأل عني، وإن رآني رحب بي، وإن غبت حفظني، وإن شهدت قربني، وإن سألتـُه أعطاني، وإن لم أسأله ابتدأني، وإن نابتني جائحة فرّج عني. فبلغ ذلك سعيد بن العاص.. فبعث إليه بمائة ألف دينار.. وقال له ..لا تترك جواري..
فإن كنت أيها المؤمن..لا تستطيع ألا تعبد الله.. و لا يمكنك أن تهمل والديك.. ولا يحق لك أن تهجر قريبا..ولا يحل لك عدم الرفق باليتامى و المساكين.. فإنه لا يجوز لك بحال من الأحوال.. في هذا الدين القيم.. أن تؤذي جيرانك..فكما أنّ ترك العبادة حرام..و إهمال الوالدين حرام..و قطيعة الرحم حرام.. و التكبر عن اليتامى و المساكين حرام.. فكذلك أذى الجار حرام..فقد صح عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم..أنه نفى الإيمان عمن يؤذي جيرانه..فقال عليه الصلاة و السلام..و الحديث عند الإمام البخاريمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ..كما نفى الإيمان عمن يخشاه جاره..فقال صلى الله عليه وسلم..وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ قِيلَ وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ.. لا يأمن مفاجآته..لا يأمن خنساته.. لا يأمن اتهاماته ..
بنى احدهم منزلا فخما..و ملأه بأنفس الأثاث.. وأرقى كماليات الراحة والدعة والهناء..فلما رحل إليه..و سكن به..لم يستقر له حال ..و لم يجد فيه سكينة.. وجد جيرانا..نغصوا عليه صفو الحياة..فعرض منزله للبيع..وقد علم الناس سوء المعاملة من جيرانه..فلم يقدموا فيه إلا ثمنا زهيدا..و رغم ذلك باع الرجل داره..فلامه أصحابه عن ذلك البيع..فقال مستشهدا..
يلومونني أن بعت بالرخص منزلي
ولم يعرفوا جاراً هناك ينغصُ
فقلت لهــم كــفوا المــلام فــإنها
بجيرانها تغلو الديار وترخص
فكما أن الإحسان إلى الجار..من طاعة الله و رسوله.. ترفع به الدرجات في الجنة .. فإن أذى الأجوار فيه معصية لأمر الله و رسوله..و هو حرام في شريعة الإسلام.. وإن مصير من تعمد أذى جاره..أن يدفعه أذاه يوم القيامة إلى النار.. جاء في الحديث الصحيح..الذي أورده الإمام البخاري في الأدب المفرد.. و نقله الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة عن أبي هريرة رضي الله عنه..أن أحد الصحابة قال للنبي صلى الله عليه وسلم.. يا رسول الله.. إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار.. وتفعل وتصدق ..وتؤذي جيرانها بلسانها ..فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ..لا خير فيها.. هي من أهل النار.. أعاذنا الله جميعا من جار السوء.. ووقانا جميعا من عذاب النار.. من أجل ذلك..كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. يخافون من الإساءة غير المقصودة للجار .. روى الإمام أحمد أن رجلا من الصحابة قال يا رسول الله كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أو إذا أسأت فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا سمعت جيرانك يقولون : قد أحسنت فقد أحسنت ، وإذا سمعتهم يقولون : قد أسأت فقد أسأت..
أما الركيزة الثالثة التي شيد الإسلام عليها وصيته بالجار.. فهي احتمال الأذى منه..أن تحتمل أذى الجار.. أن تصبر على أذاه.. وإن أردت المنزلة الرفيعة عند الله.. و الحظ العظيم..في الدنيا و الآخرة.. أن تزيد مع صبرك فتحسن إليه.. أن تقابل سيئته بإحسانك.. فإن الإحسان يحول العداوات إلى صداقات..ويجمع ما فرقته الإساءات..ويكون لك نورا و نجاة في الحياة و بعد الممات.. يقول رب العزة جل وعلا.. وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ.. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ .. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا.. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ..
اللهم وفقنا للقيام بحقوق جيراننا..واغفر لنا إن قصرنا في معاملاتنا..و تجاوز عن هفواتنا وسيئاتنا..واهدنا سبيل رضوانك و غفرانك..و اجعلنا اللهم من عبادك الصالحين
أقول قولي هذا و استغفر الله العظيم الكريم لي و لكم \