النص الكامل لروايةالحليب والدمنشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرةالحلقة السادسةالفصل الثالثكانوا أربعة في حجرة تتوسطها طاولة اجتماعات كبيرة سوداء اللون, حولها سبعُ كراسٍ من الجلد الأسود. إضاءة خفيفة. جهاز تلفزيون يبث برنامجا إخباريا بصوت خافت ولغة مسروقة. تناثرت على طاولات صغيرة في أرجاء الحجرة بعض معالم المدنية. فيديو, كمبيوتر, فاكس, برنتر, هاتف متطور, هواتف خلوية, آلة تصوير, سكانر, ستيريو. نافذة عريضة تظهر من خلالها بعض المباني العالية التي تحتضن في جوفها مجموعات كثيرة كهذه."توم فريدمان", صاحب إحدى شركات الصرافة. "جوناثان نورمان", صاحب محلات لبيع الذهب والماس والمجوهرات. "مائير شنشلي", نحيل طويل القامة. لحية مدببة بلون لباسه وقبعته العريضة. شعر بجدائل. حواجب كثيفة، رجل دين.. ورابعهم كان ناحر القسم "الدكتور جولدي".شنشلي بلهجة غاضبة وهو ينظر إلى الساعة متأففا منزعجا.. "لقد تأخر شيريكوف كثيرا, من المفروض أن يكون قد وصل منذ ربع ساعة".توم بعد أن نظر إلى الساعة أيضا.. "هذا صحيح لقد أصبحت الساعة العاشرة والربع. إن شيريكوف يُضَيِّع وقتَنا".جولدي في دعابة لتخفيف التوتر عن المجتمعين وهو ينظر إليهم مراقبا ردة فعلهم.. "أليس من الممكن أن تكون الأخبار التي يحملها ثقيلة, فاضطر إلى جرها على الأرض جرا. على العموم قد نغفر له تأخُّرَه إذا كانت الأخبار والمعلومات التي يحملها مهمة".شنشلي يداعب لحيته المدببة, يبتسم ابتسامة بلون البول المسموم. يغمض إحدى عينيه نصف إغماضة. يشرد بنظره في اتجاه النافذة المطلة على المدينة. يهز رأسه هزة خفيفة حملت معاني التفكير والتحدي. يقول وقد فاحت كلماته برائحة الشَّعْرِ المحترق.. "إني أثق بإمكانيات شيريكوف. إنه حتما سيحمل لنا أخبارا عظيمة نحن في حاجة ماسة إليها".يصمت. يواصل هز رأسه بنفس الشرود. يبدأ بإِحداثِ قرقعة خفيفة بأصابع إحدى يديه على الطاولة. يلتفت الجميع إلى مكان الصوت.. "لقد فهمت من شيريكوف أن ما تمَّ التوصل إليه في تطوير وسائل "تغذية البلوتونيوم", وفي وسائل تفجيره أيضا, تجعله سلاحا متاحا وسهل الاستخدام".جوناثان بخوف وحذر وقلق, ظهرت جميعها في حركات رأسه النزقة.. "يجب ألا تنسوا أن ما تمَّ التوصل إليه في المفاعل محاط بسرية – تامة". لحظة صمت, ثم, بحركات معبرة من يديه.. "هذا اكتشاف خطير, سيجعل السلاح الذري متاحا بسهولة, مثل المسدسات والرشاشات. هل تفهمون ما معنى هذا؟".شنشلي بعصبية وانفعال وقد تحرَّرَ من شروده, وراح يتحدث مُنَقِّلا نظرَه بين الحاضرين.. "وماذا في ذلك؟ هذا ما كنا نتمناه منذ زمن طويل. نعم لقد كنا نتمنى وجود سلاح سهل الاستخدام, يساعدنا على إبادة هؤلاء الجرذان. أليس هذا حلما عشناه ومازلنا نعيشه يا جوناثان؟".جوناثان يستدرك.. "ما قصدته أن خطورة ما توصلوا إليه في المفاعل, سيجعل الإجراءات الحمائية صعبة جدا ودقيقة للغاية. وهذا معناه استحالة تهريب البلوتونيوم المغذى من المفاعل". يلاحظ أنهم تعاملوا مع ما يقوله باهتمام باستثناء شنشلي, فيركز نظره عليه في محاولة لإقناعه.. "يعني أن عملية من هذا النوع تعتبر حربا حقيقية ضد آخر ما توصلوا إليه من إجراءات أمنية. لا شك أنك تفهمني سيد شنشلي, أليس كذلك؟".شنشلي يضحك بسخرية أدهشت الجميع, ويقول بثقة وهو يشير إلى جوناثان بسبابة شديدة التوتر.. "لسنا وحدنا من يحلم في هذا البلد يا جوناثان. معظم الناس هنا يحلمون نفس الحلم. حتى أولئك المتحصنين وراء تلك الأسوار التي أقلقتك. صدقني عزيزي جوناثان, أن الذي يطور سلاحا مدمرا بصورة تجعل استخدامه سهلا وميسرا مثل المسدس والرشاش. لا يفعل ذلك لعرضه في المتاحف. إنه يفعل ذلك لأنه يريد بالفعل أن يستخدمه. أو على الأقل لأنه ينوي تيسير ظروف استخدامه. هذا إن لم يساعد على ذلك أيضا. هل تفهمني جوناثان؟".جوناثان يهز رأسه بشرود دلالة الإيجاب.. "نعم إني أفهمك. ما تقوله يعني أننا لن ..".شنشلي مقاطعا.. "لن نعدم وسيلة ميسرة للحصول على البلوتونيوم المُغَذَّى من المفاعل. دعوا هذا الموضوع لي ولشيريكوف, وعيشوا الحلم, ولا تعكِّروا لذَّتَه وصفوَه بالخوف مما هو غير موجود. اطمئنوا وصدقوني, ولا تشغلوا بالكم بالأمر. انشغلوا بما هو أهم".جولدي يقاطع الاثنين بعدما ظهر أن حديثهما لم يكن ممتعا بالنسبة له.. "لا تستعجلوا. كل ما تقولانه يعتمد اعتمادا كليا على ما لدى شيريكوف من معلومات وأخبار. أرجوكم اصبروا قليلا. أظنه على وصول".شنشلي يعود ليستلمَ زمام الحديث بدهاء.. "أنا كما أخبرتكم لست قلقا من هذه الناحية. الحصول على البلوتونيوم المُغَذَّى من المفاعل أمر مقدور عليه. ولا تسألوني كيف. إن ما يقلقني حقا أمر آخر". يصمت. يشرد بنظره في اتجاه النافذة. يداعب لحيته ويهز رأسه وهو غارق في التفكير.جوناثان يقطع عليه شروده وحبل أفكاره.. "ما الذي يقلقك ويشغل بالك إذن سيد شنشلي؟".شنشلي يركِّز نظرَه عن غير قصد باتجاه وجه جولدي, ويبتسم ابتسامة اختلطت بمشروع ضحكه.. "ما يشغلني حقا. وهو ما يفترض أن يشغلكم أنتم أيضا بقدر ما يشغلني, هو كيف ننقل البلوتونيوم المغذى الذي سنحصل عليه من المفاعل إلى هناك. إلى القاهرة, في هذه الظروف". يبدأ يتجول بعينيه بين الحاضرين.. "إن مصر هذه الأيام تتمتع بأعلى درجات اليقظة الأمنية بسبب ما حصل هناك في الأشهر الأخيرة".توم.. "هذا مقلق بالفعل. الأمر ليس سهلا. والأهم من ذلك من سينفذ المهمة هناك؟ لقد أمضينا أشهرا ونحن نتحدث عن تدمير القاهرة وحرقها وإبادة سكانها. وبدأنا نعد لهذه العملية هنا. لكننا لم نبحث في التنفيذ هناك". ينظر إلى شنشلي الذي كان يتابعه بابتسامة خبيثة.. "أم أن لديك تصورات وخططا لم نطلع عليها بعد سيد شنشلي؟".شنشلي بلهجة مطمئنة ومستسلمة.. "هناك. لا تقلقوا. لا تقلقوا نهائيا. هناك لا توجد مشكلات. رجالنا موجودون ومجهزون ومستعدون منذ وقت طويل. هم ينتظرون التعليمات. إذا وصل البلوتونيوم إلى القاهرة وعرفنا الطرق الجديدة للتفجير. فالتنفيذ سهل. التأخير هو فقط بسبب مشكلة النقل أولا وليس بسبب عدم اتضاح وسيلة التفجير التي نستخدمها هناك بعد. فالليلة سيطلعنا شيريكوف على تفاصيل مسألة التفجير. إذن بقيت مسألة واحدة, هي مسألة نقل البلوتونيوم إلى القاهرة في أمان. يجب أن نبحث سويا عن طريقة لإيصاله إلى هناك وسط هذه الإجراءات الأمنية. هذه هي الحلقة الوحيدة التي تنقصنا في الخطة بعدما نطلع الليلة على طريقة التفجير".يُظْهِرُ البومُ معالم ابتسامة شوهت خريطة وجهه. بسترخي إلى الوراء. يشبِّك يديه خلف رأسه. يبدأ بهز الكرسي هزات خفيفة رتيبة.. "على أيِّ حال ابحثوا أنتم عن حل. فإذا عجزتم وأعياكم البحث, أخبروني. سأفاجئكم به".شنشلي باندهاش واستياء.. "ولماذا لا تفاجئنا به الآن؟".ناظرا إليه باستهتار وسخرية وازدراء, وهو على حاله من الاسترخاء وهز الكرسي وتشبيك الأيدي.. "كي تُقَدِّروا وتَتَفَّهَموا الثمن الذي سأطلبه لإرشادكم إلى الحلِّ السحري الذي بين يدي".شنشلي وجوناثان وتوم يتبادلون النظرات باندهاش واستغراب. لم يتوقعوا أن يكون من بينهم بصفتهم قيادات لمنظمة الـ "m.d.w.u.o" من سيطلب ثمنا لتقديم فكرة حل. جولدي ينتبه لاندهاشهم ويدرك السبب, فيبادرهم وهو على حاله لم يغير في هيئة جلوسه.. "لا تستغربوا فأنا أقول ذلك لأن الحل الذي بين يدي حلٌّ غريب. لن يستطيعَ أيُّ شخص في العالم تنفيذه إلا أنا. يعني أنا في واقع الأمر سأقدم حلا يتضمن الفكرة وتنفيذها. وعملية التنفيذ كما سوف ترون فيها مخاطرة شديدة تمسني أنا شخصيا. معنى ذلك أن الثمن الذي سأطلبه هو في الحقيقة ثمن التنفيذ".يصمت لحظة. يلاحظ أنهم شُدوا لكلامه. يلمس إصغاءهم ورغبتهم في الاستزادة فيواصل بثقة.. "أما إذا وجدتم أحدا غيري يستطيع القيام بما سأقوم به بدون مقابل, فليبارك لكم الرب. لكنني متأكد من أنكم لن تجدوا".ثلاثتهم يتبادلون النظرات المستريبة دون كلام. توم يحاول تغيير إيقاع الجلسة. ينظر إلى ساعته ويتذمر.. "أوف. لقد بالغ شيركوف في تأخره". لم تؤثر محاولته في تغيير إيقاع الرتابة والملل, لأن أحدا لم يستجب لملاحظته. الصمت يسود الحجرة. يظهر كل منهم وقد انشغل بالتفكير وانطوى على نفسه. ما عدا جولدي الذي استمر يراقبهم وهو على هيئته لم يغير في جلسته ولا في هزة كرسيه, بل أضاف إلى كل ذلك ضحكة شنيعة جعلت فمه يظهر كمغارة مليئة بالروث. بدوا في صمتهم وترقبهم وضجرهم الصامت كمن ينتظر بالفعل شخصا اقترب وقت وصوله. ويحلمون. عيونهم تجحظ واشية بقذارة ما في رؤوسهم. وجوه قطَّبَت تبحث في مزابل الذاكرة عن جسور لنقل الموت إلى القاهرة.... يتبع في الحلقة السابعة
النص الكامل لرواية
الحليب والدمنشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرةالحلقة السابعةالفصل الثالثالعاشرة والنصف ليلا. أضواء المدينة والمارة, تزاحمُ أشباحا تبحث عن ومضه نور صادقة. نفوس هائمة تحلم حتى في اليقظة, والأحلام بلون الدم ومذاق اللحم المحترق. رائحة البيض الفاسد تزكم الأنوف, وبخار البول في الجو رذاذ. محلات العطور والذهب والحسناوات لوثة ليل دائم, يزحف بعتمته إلى أوكار الخفافيش, لرسم لوحات الكراهية على إيقاع النقيق والنعيق, وعواء الذئب في الوكر نغمٌ مشروخٌ بعشقِ الدم. عطرُ البحر يَفِرُّ والأمواج تحتجُّ هادرة, وهمس القتلة فحيحُ أفاعي.سيارة ليموزين تعبر أحد الشوارع. تتوقف على مقربة من عمارة كثيرة الطوابق. تهبط منها بزَّة داكنة ومعطف وقبعة تلفَّعَت بها جثة تتحرك تفوح برائحة القبور. أنف طويل مدَبَّب. ملامح حادة. بشرة بيضاء تتخلَّلُها حمرةٌ مقيتة. وحقيبة سامسونايت مثقلةٌ بالفناء. يَغلِق باب السيارة ويقفز كالضفدع إلى رصيف المشاة ويتجه نحو العمارة. يقف عند أحد بائعي الصحف والمجلات. يتفحص بعض العناوين. يترك المكان. يسير في خطوات واسعة سريعة تلاحق الحقد وتفر من الحب. يصطدم من حين لآخر بالمارة ويكثرُ النظر إلى الساعة."شيريكوف" يعبر البوابة الزجاجية المتحركة للعمارة. يتجه نحو المصعد وينتظر. يرفع رأسه إلى الأعلى قلقا متوترا بسبب التأخر. تلفت انتباهَه فتاةٌ شقراء رقيقة كانت تقف إلى جانبه. أحسَّ بأنها في المكان الخطأ. لون الشمس ورقة الروح هناك وهنا السواد. عجوز شمطاء كانت ترمقُه بنظرات اشمئزاز. يحس بالحرج ويشيح بوجهه عنها وينظر إلى الأرض.ما يزال الصمت يخيِّم على جمع الشيطان. يتبادلون النظرات المستريبة. يسمعون صوت بابٍ يفتح. يلتفتون. "شيريكوف" يقترب منهم. ينزع قبعته ويبدأ حديثه ناظرا إلى "توم" و"جوناثان" ثم إلى "الشنشلي" مختتما جولة عينيه بـ "جولدي", ويبتسم.. "مساء الخير جميعا. أرجو أن تعذروني على التأخير. أظن أن الدكتور جولدي يعرف السبب".جولدي ضاحكا.. "بالتأكيد. توقعت أن تكون حاملا. أقصد حاملا بأخبار ثقيلة تجرها وراء ظهرك".شيريكوف باندهاش ساخر.. "هذا صحيح، ولكن كيف عرفت؟!".ينزع معطفه. يتناول حقيبة السامسونايت التي كان قد وضعها فوق الكرسي, ويضعها أمامه فوق الطاولة. يجلس. يضع يديه فوقها متشابكتين. يواصل حديثه بفخار.. "بالفعل إن ما بداخل هذه الحقيبة ثقيل, بل ثقيل جدا على رأي الدكتور جولدي. إن لدي أخبار ستسعدكم وتسركم كثيرا".شنشلي باستعجال قلق.. "هيا إذن بسرعة يا شيريكوف. أسمعنا أخبارك الحلوة".شيريكوف يفتح حقيبة السامسونايت, ويبدأ بإخراج محتوياتها من الأوراق والمستندات, وهو يراقب جلساءَه بابتسامة خبيثة. كانت أعينهم جميعا قد تسمرت باتجاه الحقيبة. أخذ يتباطأ إمعانا في إغاظتهم بعد أن قرأ العجلة والقلق في عيونهم. أراد أن يشعرَهم بأهميته الخاصة في هذه اللحظات, وبأنه يمثل الرقم الصعب في العملية كلها. رأى معالم تأفُّف وتذمُّر في وجهي توم وجونوثان جراء تباطئه. تلذَّذ بتعذيبهما فتباطأ أكثر. وكي يكون تباطؤه مقنعا, توقف عن إخراج ما بداخل الحقيبة واصطنع حديثا فاح برائحة التكلُّف, مبادرا به جوناثان وهو ينظر إليه باستهزاء.. "ما بك جوناثان؟ هل أنت متعب يا صديقي؟ إني أرى وجهك شاحبا".توم نافذ الصبر.. "لا يا سيدي ليس متعبا ولا شاحبا وأعصابه مثل الحديد. كل ما في الأمر أنه متضايق مثلنا جميعا, لأنك لا تبالي بأننا انتظرناك طويلا. وها أنت تستمتع بمواصلة لعبة إضاعة الوقت للإمعان في حرق أعصابنا".شيريكوف ببرود يغيظ.. "لا تقلق توم. أمامنا ليلة طويلة. لا تستعجل. والأهم من ذلك لا تعترض على أسلوب شيريكوف في التصرف".شنشلي يتدخل بمكر ودهاء ونظرات خبيثة, مداعبا طرف لحيته المدبَّبة. يتوجه إلى توم محاولا إعطاء شيريكوف أهمية خاصة كي يشبع لديه غرورا لاحظ أنه يستغرقُه في هذه اللحظات مع أن قسمات وجهه لم تكن تخلو من تذمُّرٍ كان ينتظر لحظة مناسبة للتعبير عن نفسه.. "عزيزي توم". يلتفت إليه توم ثم الباقون بصورة أوحت بإحساسهم بأهمية ما سيقوله، حتى شيريكوف. يواصل بلهجته الماكرة ونظراته الشريرة.. "هل تعلم لماذا خلق الله الرجل قبل المرأة؟".توم يندهش ويتبادل النظرات مع الباقين الذين لم يقدروا على إخفاء استغرابهم أيضا, من هذه المداخلة العجيبة التي ما كانت لتُقْبَلَ في مثل هذا الظرف المحتقن إلا من رجل دين مبجَّل مثل شنشلي. يهز توم رأسه نافيا, ويمط شفتيه, ويحدق بعينين مذهولتين في الوجه الأصفر واللحية المدببة, منتظرا منه إجابة ذات مغزى تعبر عن الموقف الذي دفعه إلى طرح السؤال. اللحية المدببة تهتز تحت وطأة ضحكة ساخرة كريهة فاح بها وجه شنشلي, فبدأ كلوح الصبار يكمِّمُه الشوك الأسود. ويجيب على السؤال الذي طرحه محركا يديه حركات معبرة.. "لأنه لم يرد أن يسمع اعتراضات من أحد على كيفية خلق الرجل".توم وجوناثان يتبادلان النظرات وقد وصلتهما الرسالة. شيريكوف يشعر بالنشوة وقد وضعه شنشلي في موضع الرب الذي لا يناقش, مشبعا غروره الأرعن, وإن يكن إلى حين. جولدي يضحك. شنشلي يراقب الجميع وقد تحدث وجهه الشائك برغبة عارمة في الإسراع بالخروج من هذا الموقف معتقدا بينه وبين نفسه أن شيريكوف قد حصل منه على قدرٍ من التمجيد والتبجيل يكفي لأن يتوقف عن تلذُّذه باستعراض أهميته التي كان شنشلي يؤمن بها بكل تأكيد.شيريكوف يهز رأسه إعجابا بنفسه. ينظر إلى توم ثم يقول إلى الباقين.. "يا توم لا تستعجل . دعني أشرح. أرجو أن لا يقاطعني أحد وأنا أتكلم, إلا إذا كانت هناك أمور غامضة وغير مفهومة.. أوكي؟".جوناثان يتنهد . يبتسم باستهزاء وقد نفذ صبره.. "طبعا يا عم شيريكوف. يحق لك أن تفعل بنا ذلك. بعد الذي قاله عنك السيد شنشلي كبر رأسك. لقد أصبحت في غاية الأهمية. وكيف لا؟ ألسنا في حضرة الرب؟ اشترط علينا كما تشاء يا مولانا".شيريكوف بضجر وبنظرة ساخرة إلى جوناثان.. "عندما تصبح أهميتك مثل أهميتي. إفعل أكثر مني".شنشلي يبتسم ابتسامة زاجرة, وينظر إلى شيريكوف نظرة أشعرته بضرورة الكفِّ عن إضاعته الوقت في المهاترات الصبيانية.. "كفاكم تضييعا للوقت في الكلام الفارغ. هيا يا شيريكوف تكلم. نريد أن نسمعك".يتأمل الجميع بنظرات النصر والفوز. يسترخي على الكرسي. يضع الورقة التي كانت في يده على الطاولة, ويبدأ بالحديث.. "توصل علماء المفاعل إلى طريقة عجيبة في تغذية البلوتونيوم. لا يهمنا كيف توصلوا إلى ذلك. هذا شأنهم هناك. الذي يهمنا النتيجة. النتيجة كانت مذهلة. مذهلة جدا". يصمت قليلا مستعرضا وجوههم بعينيه الصغيرتين. يبتسم, سعيدا باستدراجهم إلى هذا القدر من التركيز فيما يقوله. ظهرت على وجوههم دلائل عدم الرغبة في توقفه عن الحديث. قرأ ذلك في عيونهم, فواصل حديثه.. "لقد تمكنوا من تطوير شرائح صغيرة جدا من البلوتونيوم المُغَذَّى, يمكنها أن تنفجر بوسائل تقليدية, محدثةً الدمار النووي المطلوب. وقد طوروا أيضا وسائل تفجير سهلة الاستخدام والتصنيع ويمكن توفرها في أيِّ مكان. أي أنها وسائل لا تحتاج إلى نقل من بلد إلى بلد. يمكن تصنيعها أو الحصول عليها في نفس البلد المراد إحداث التفجير فيه. لقد تأكدوا لغاية الآن من نجاح التطور الذي أحدثوه في تغذية البلوتونيوم".شنشلي مقاطعا.. "وهل تأكدوا من نجاح وسائل التفجير الجديدة؟".شيريكوف.. "نظريا فقط. أما عمليا فهم بحاجة إلى تجارب, وقد قرروا إجراء التجربة الأولى خلال الأشهر القادمة في مكان لم يحدَّد بعد. لكن النجاح مؤكد. إنه تحصيل حاصل".شنشلي.. "والمعلومات التي لديك هل تفيد بأنهم طوروا عددا كافيا من الشرائح المُغَذاَّة هذه بحيث نستطيع الحصول على ما يكفينا منها لعمليتنا أم لا؟ هذا أمر مهم عزيزي شيريكوف".يبتسم مطمئنا شنشلي.. "لا تقلق يا سيد شنشلي. لقد تم تطوير عشرين شريحة لغاية الآن. وهم على ما يبدو سيتوقفون عند هذا الحد, إلى أن تظهر النتائج العملية لتجارب التفجير. أما عمليتنا فهي لا تحتاج إلى أكثر من شريحتين, هذا يكفي وزيادة. ولو كان الهدف مدينة أخرى غير القاهرة, لكفتنا شريحة واحدة. لكن القاهرة كبيرة جدا. واسعة جدا. إنها من أكبر مدن العالم إذا لم تكن أكبرها على الإطلاق".شنشلي متعجبا.. "هل أنت متأكد من أن شريحتين تكفيان لإحداث التفجير المطلوب يا شيريكوف؟ إن ما نعرفه عن هذا السلاح يختلف كثيرا عما نسمعه منك"."تعم. إنها تكفي. تكفي وزيادة. الشرائح المطورة ذات فعالية عالية جدا. لهذا السبب سيوقفون إنتاج هذه الشرائح المطورة مؤقتا. لقد أنتجوا ما يكفي لتدمير عواصمهم. رغم أن وزن الشريحة الواحدة عُشْرُ جرامٍ فقط, إلا أن قوتها التفجيرية هي واحد ميغاطن. هل تعرفون ما معنى ذلك؟ هذا معناه قوة تدميرية تعادل قوة انفجار مليون طن من مادة "التي. أن. تي". يتجول بنظره بينهم من جديد, سعيدا بمتابعتهم واهتمامهم, ويضيف.. "وكي تعرفوا ضخامة وفظاعة هذه القوة. يكفي أن تعرفوا أن القنبلة التي ألقيت على هيروشيما باليابان كانت قوتها عشرين كيلو طن فقط, يعني أن الشريحة الواحدة من شرائح البلوتونيوم المطورة هذه, ستحدث دمارا يعادل خمسين ضعفا لما حدث هناك في آخر الحرب الثانية". بعد صمت لحظة يواصل مبتسما.. "أظن أن هذه القوة كافية. لا نريد أن نفعل بهم أكثر من ذلك".