تجديد أصول الفقه بين أيدي المعاصرين : «حسن حنفي» نموذجاً..بقلم : الدكتور بوبكر جيلالي
April 18, 2013
الدكتور بوبكر جيلالي..
عرفت أصول الفقه في عصرنا قراءات عديدة، غرضها تناول فلسفة التشريع من منظور معاصر، انصبت على إعادة بناء مقاصد الشريعة وفق حاجات العالم الإسلامي المعاصر، بعضها اجتمع فيه المنهج العلمي بالمنهج الفلسفي بالمناهج التراثية، وأهم قراءة معاصرة كانت لحسن حنفي في كتابه «من النص إلى الواقع»، غرضها تحويل علم أصول الفقه إلى علم سلوكي يعطي الأولوية للواقع على النص، لكن تبنّي قراءة منطق الفقه للمناهج المعاصرة جعلها تتعرض للكثير من الانتقادات.
لقد ثبت في البحث الذي قام به «حسن حنفي» حول إعادة بناء علم أصول الفقه في مصنفه الأصولي الجديد «من النص إلى الواقع» أن أصول الفقه عند الشيعة بدأ متأخراً ومزدهراً، في حين أن علم أصول الفقه لدى السنة بدأ مبكراً وازدهر ثم انتهى وتوقف وأُغلق بابه، وفي أيامنا تمّ اختيار علم أصول الفقه للتجديد من قبل العديد من العلماء والمفكرين شيعة وسنة. و«هو اختيار لأهم مواطن الإبداع في العلوم الإسلامية. فعلم الأصول هو العلم الإسلامي الإبداعي بالأصالة. تأسس بشقيه قبل عصر الترجمة. ومن ثم فهو سابق على الفلسفة… وهو العلم الذي يعبّر عن روح الحضارة الإسلامية، التوجه نحو الواقع من أجل السيطرة عليه عن طريق تنظيم الأفعال فيه، ووضع قواعد السلوك البشري. ليست غايته الآخرة بل الدنيا، وليس الدين بل عمارة الأرض، وليس الله بل العالم. فالله هو الشارع، واضع الشريعة. ولما كانت الشريعة وضعية لها بنيتها في الواقع الاجتماعي وفي الموقف الإنساني لم تكن هناك حاجة إلى تشخيص الشريعة في شخص الشارع وليس الإشراقيات والاتصال بالعقل الفعال بل العقل الاستنباطي والاستقراء التجريبي مع مباحث اللغة وتحليل الألفاظ».
فمن رواد تجديد أصول الفقه عند الشيعة محمد باقر الصدر الذي اهتم بالفقه وأصوله وخصص لعلم أصول الفقه أعمالاً كثيرة. كتب في مباحث الدليل اللفظي وفي مباحث الحجج والأصول العلمية، وفي المعالم الجديدة للأصول وفي الأسس المنطقية للاستقراء وهو عمل تنظيري جمع بين الاستنباط والاستقراء، «بين استنباط الأصل واستقراء الفرع بعد نقد المنطق الصوري الخالص، ونقد المنطق التجريبي الخالص من أجل تأسيس منطق ذاتي للمعرفة». وتميزت محاولة الإمام الصدر بالجدّة في اللفظ والمصطلح، وفي نقد المدرسة الإخبارية، وفي فهم الأدلة والاستدلال، فتجاوز «أصول الفقه الشيعي عند القدماء وأصبح من الأئمة المجتهدين المعاصرين كان لديه إحساس الجدّة وبضرورة التطوير على ما يبدو من بعض عناوين مؤلفاته في علم الأصول مثل «المعالم الجديدة للأصول». فالعلم نشأ وتطور وانتهى في دورته الأولى طبقاً لتطور الحضارة الإسلامية. ويمكن أن يعاد بناؤه من جديد في النهضة الإسلامية الثانية التي بدأت منذ القرن الماضي. وتلك مسؤولية العلماء المجتهدين. والزمان يتغير، والعصر يتبدل، والمصالح لا تثبت على حال. ولما كان علم الأصول هو علم المصالح المتجددة وجبت إعادة بنائه طبقاً لروح العصر… علم الأصول هو منطق الفقه. هو نظر العمل وأساس الفعل، علم القواعد العامة للسلوك البشري. هو الفعل النظري العملي الذي يجمع بين النظرية والتطبيق، يتفاعل الفكر الأصولي مع الفكر الفقهي. الكل مع الجزء، القاعدة مع المثل. لذلك خرجت قواعد جواز تكليف بما لا يطاق، ولرفع الحرج، ولا ضرر ولا ضرار. ليست الغاية من علم الأصول وضع مجرد مناهج الاستنباط من أجل الاتساق المنطقي وإحكام أشكال القياس. بل الغاية هو العمل. لذلك سمي المنطق الأصولي منطق الاستعمال».
تتفق محاولة باقر الصدر مع محاولة «حسن حنفي» في الكثير من النقاط وتتقاطع، وتثبت محاولة «حسن حنفي» الكثير من أفكار محمد باقر الصدر في تجديد علم الأصول بشقيه أصول الدين وأصول الفقه. وانطلاق حسن حنفي من أعمال محمد باقر الصدر في محاولته إعادة بناء أصول الفقه في مباحث الألفاظ والأدلة والمقاصد والأحكام جعله يصل إلى العديد من الدلالات والتحليلات التي تميزت بالجدة منها في قوله: «وما يدعو للتجديد أيضاً هو أولويات الأدلة الشرعية الأربعة. كانت عند القدماء ترتيباً تنازليًّا… أما الآن فيمكن إعادة ترتيب الأدلة ترتيباً تصاعديًّا من القياس إلى الإجماع إلى السنة إلى الكتاب. إذ تستلزم تحديات العصر الرئيسية، مواجهة الاستعمار والصهيونية والتخلف والتبعية والتشرذم، البداية بتحليل الواقع مباشرة ومعرفة علله، أي الاجتهاد، فإن صعب يمكن التوجه إلى أهل الاختصاص لمعرفة الحلول الجماعية. فإن صعب يمكن بعد ذلك قراءة السابقين في مدوناتهم ابتداء من الخبرات المتميزة حتى حكمة الشعوب على مرّ السنين».
إن تجديد علم الأصول عمل متواصل واتجاه مستمر في التاريخ ابتداء من «الرسالة» للشافعي إلى «العدة» للطوسي إلى «الموافقات» للشاطبي إلى «المعالم الجديدة للأصول» للإمام محمد باقر الصدر إلى «مقاصد الشريعة» لمحمد الطاهر بن عاشور إلى «مقاصد الشريعة ومكارمها» لعلال الفاسي إلى «نحو مقاصد الشريعة» لجمال الدين عطية إلى «تجديد أصول الفقه الإسلامي» لحسن الترابي إلى «من النص إلى الواقع» لحسن حنفي. هذا المصنف الأخير الذي بان فيه تأثره بكل الأعمال التي عاصرته، أخذ منها وحاول تجاوزها، مثلما تجاوز محمد باقر الصدر القدماء، ومثله موسى الصدر في تفسير القرآن على أساس أن النص تجربة حيّة في الزمان، والزمان هو الحركة، «وهو تفسير إنساني يجعل الإنسان مركز الكون». ويتم تفسير الظواهر الدينية بالعلوم الإنسانية والاجتماعية مثل علم النفس الديني والأنثروبولوجيا، وعلم تاريخ الأديان وعلم تاريخ الحضارات والثقافات. هذا المنهج في التفسير يقوم على مبدأ أولوية الواقع على النص، ومنه جاء شعار محاولة إعادة بناء أصول الفقه عند «حسن حنفي»، وهو «من النص إلى الواقع». وهو توجه مستمد من الدراسات المعاصرة للفقه وأصوله الشيعية والسنية، الشيعية بالنسبة لتجديد علم أصول الفقه ككل، خاصة في رده إلى الواقع وإلى مصالح الناس، والسنية بالنسبة لبناء المقاصد وتطورها كجزء من الفقه وأصوله ورد الفقه وأصوله إلى التاريخ.
وعلوم التراث ككل، بما في ذلك العلوم النصية كعلوم التفسير أو علوم الحديث وحتى علم التوحيد، «يقوّي روح الواقعية في الإنسان ويدفعه إلى حرية الاختيار، وتحمّل المسؤولية. وهذه دلالة «أسباب النزول»، أولوية الواقع على الفكر، والسؤال على الجواب، والإشكال على الحل، والواقع هو الواقع الاجتماعي الفردي والعائلي والجماعي من أجل تغيير الواقع مثل وأد البنات. فرسالة السماء موجهة إلى الأرض، والوحي قصد من الله إلى الإنسان فالأولوية للدنيا على الآخرة. وشرط الاتجاه في الآخرة الفرح في الدنيا. كل شيء في الوحي يتفق مع مصالح الإنسان، الفرد والجماعة». ويتكرر المشهد عند «حسن حنفي» مع محاولة إعادة بناء مشكلات الحضارة عند المفكر الجزائري «مالك بن نبي» الذي يدور فكره حول التراث القديم والتراث الغربي وتلخيص تحديات العصر كلها في «مشكلات الحضارة»، «بما في ذلك النهضة والتحرر من الاستعمار والقضاء على التخلف ومظاهره من فقر وقهر وتجزئة، وذلك عن طريق التنظير المباشر للواقع وتحويل أحداث عصره إلى التمركزات الفكرية». ومحاور الفكر والبحث عند «مالك بن نبي» هي الجبهات الثلاث التي يشتغل بها مشروع «التراث والتجديد» و«من النص إلى الواقع»، مبدأ قام عليه منهج التفسير عند موسى الصدر هو شعار محاولة إعادة بناء أصول الفقه عند «حسن حنفي»، والدلالات التجديدية الأصولية في «المعالم الجديدة للأصول» لمحمد باقر الصدر قامت عليها محاولة «حسن حنفي» إلا فيما يتميز به الشيعة عن السنة عقيديًّا ودينيًّا، وتلتقي محاولة «حسن حنفي» لإعادة قراءة وصياغة علم أصول الفقه ودعوته إلى تجديده مع دعوة حسن الترابي في كتابه «تجديد الفكر الإسلامي» وفي رسالته «تجديد أصول الفقه الإسلامي». كما كتب «حسن حنفي» عن هذه المحاولات والدعوات المعاصرة ونوّه بها بل شرحها وأيّدها وهذا يعني أن محاولته انبثقت من هاته المحاولات المعاصرة وتأثرت بها، خاصة محاولة محمد باقر الصدر، حتى أنه يمكن اعتبار محاولة «حسن حنفي» امتداداً لمحاولة باقر الصدر وتطويراً لها.
يظهر حضور محاولات التجديد الأصولي المعاصر في محاولة «حسن حنفي» إعجاباً وتأثراً، منطلقاً ومنهجاً ومبتغى. والنص الأصولي الجديد «من النص إلى الواقع» يمكن مراجعته من قبل المعاصرين ومقارنته بالمتون الكلاسيكية لمعرفة درجة التواصل ودرجة الاستقلال ومن قبل علماء اللسان وعلماء النص والتأويل لإدراك درجة إسهامه في هذه العلوم. ويراجع من قبل المجددين في علم أصول الفقه «الذين ساروا على هذا المنهج منذ حركة الإصلاح الحديثة، خاصة في النص الثاني من القرن العشرين عند علال الفاسي، ومحمد باقر الصدر، وجمال الدين عطية، ومجلة «علم المعاصر» إنها خطوة على طريق تجديد علم الأصول، سبقتها خطوات حثيثة وربما تتلوها خطوات أكثر جرأة».
أما من جهة المصالح والمقاصد كأساس للتشريع فقد درج الأصوليون القدماء على تناول المقاصد ضمن علم أصول الفقه في مباحث القياس والاستصحاب والاستصلاح وغيرها. وتناول البعض موضوع المقاصد في حكم التشريع وأسراره مثلما فعل أبو حامد الغزالي في «إحياء علوم الدين»، والحديث عن فقه المقاصد وأصوله هو حديث عن «فقه الأولويات»، والمسألة تتعلق «بتجديد المنهج الفقهي الذي يُدخل الفقه في مستوى القاعدة، ويفتح المجال للموضوعات الجديدة في عالم التشريع الثانوي مما استحدثه الناس من موضوعات. وإهمال الموضوعات الميتة التي كانت تمثل حاجات الماضي ولم تعد تمثل حاجات المستقبل. ما يفرض على الحوزات العلمية أن تكتب الفقه الجديد في تفريعاته وموضوعاته حتى تكون الرسائل العلمية والمتون الفقهية مواكبة للواقع المعاش بحيث يشعر المكلف بعيش عصره في الفقه الجديد، وأن الفقه يعالج له مشاكله على مستوى المنهج الإسلامي في الدائرة الإسلامية أو في خارج هذه الدائرة، أي في المجتمعات الخاضعة لنظام غير إسلامي في المفاهيم والتشريعات».
ويدعو محمد الطاهر بن عاشور في كتابه «مقاصد الشريعة الإسلامية» إلى أنه قصد من مصنفه «إملاء مباحث جليلة من مقاصد الشريعة الإسلامية، والتمثيل لها والاحتجاج لإثباتها، لتكون مرجعاً عند اختلاف الأنظار، وتوسلاً إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار، وإغاثة المسلمين ببلالة تشريع مصالحهم الطارئة». كما انتقد الفكر الأصولي القديم ومنهجه القياس الاجتهادي، وارتبط في بحثه مجال مقاصد الشريعة بالنظام الاجتماعي الإسلامي الذي يرى فيه بأنّ قواعده لا تفيد علم الأصول في شيء الأمر الذي يحتم إيجاد قواعد أشمل وأوسع تمثل الجهاز النظري الذي يمكِّننا من ترتيب شبكة القيم والمبادئ التي تحكم حياة المجتمع وتوجه حركته. وهكذا الأمر مع الفطرة والسماحة والحرية والحق. «وفي الحقيقة فإن نظرية ابن عاشور في بنائها التصوري مشروع طموح جدًّا بقدر ما هو مهم؛ لأنه يروم رسم مقاصد التشريع الكلية، غير مقتصر على المقاصد الخمسة المعروفة التقليدية. والركيزة الإسلامية التي يحتاجها هذا العمل هو الأسلوب والمعيار المنضبط المتمثل بالآليات التي يلزم اعتمادها في تحديد تلك المقاصد الكلية. خاصة إذا عرفنا أن ابن عاشور لم يكن ممن يكتفون بالطرح التقليدي الذي لا يرى غضاضة في التعويل على الظنون غير المنضبطة والاحتمالات، وإنما جاء بدعوى كبيرة وجديرة بكل التقدير والاهتمام، وهي علاج إشكالية القطع والظن من خلال إيجاد أصول قطعية للتفقه». هذه المحاولة الجادة لإقامة علم المقاصد تتكرر لدى المفكر والباحث المغربي علال الفاسي في كتابه «مقاصد الشريعة ومكارمها»، وهي محاولات تركت بصماتها على المحاولة في «من النص إلى الواقع».
بالإضافة إلى محاولة محمد الطاهر بن عاشور وما تميّزت به من جدّة وأصالة وإبداع توجد محاولة علال الفاسي في كتابه «مقاصد الشريعة ومكارمها»، وهي محاولات إعادة قراءة علم أصول الفقه من حيث قواعده ومن حيث مقاصد الشريعة، وتتفق على أن «مقاصد الشريعة الضروريات التي من أجلها -كما يقول الشاطبي- وضعت الشريعة ابتداء، هي: الدفاع عن النفس وعن الحياة، والنفس لها مظاهر في العقل، ولهb