أول محنة من محن الوراقة
ببغداد حصلت
إبان الحرب
بين الأخوين الأمين والمأمون
رشيد الخيُّون
## حذفت الصورة ##
##
المشرف ##
شارع المتنبي قبل الحادث و
بعده
دعونا نتذكر ثقافة الوراقة ببغداد، وهو أعمق نعياً
ورثاء لشارعها، ومعلوم أن في اللجوء إلى التاريخ، مع سلبية النوح على الأطلال، قد
ينفع في مجابهة الانكسار، لعل التجارب تتكرر، والتفاؤل بالماضي، إزاء واقع الحال،
أهون من اللاتفاؤل. يذكر النديم (ت 388 وقيل 438هـ والأول أرجح) سوق الوراقين في
جانب الرصافة من بغداد. قال في ترجمة صاحب «كتاب بغداد» أحمد بن أبي طاهر المعروف
بابن طيفور (ت 280هـ) «جلس في سوق الوراقين في الجانب الشرقي» (الفهرست).
وجاء في «دليل خارطة بغداد» لأحمد سوسه، ومصطفى جواد
«كانت فيها (بغداد) أكثر من مائة حانوت للوراقين». ولعلها السوق المشتبكة مع أسواق
البضاعة الأخرى، والممتدة اليوم في سوق الشورجة حتى سوق السراي وشارع المتنبي.
ويذكر النديم أيضاً أول محنة من محن الوراقة ببغداد إبان الحرب بين الأخوين الأمين
والمأمون، عندما نُهبت الدواوين: «كانت تمحى ويُكتب فيها» (الفهرست). وبعدها أُحرقت
على مرأى من الناس، أكثر من مرة، كُتب شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي
(ت 460)، وذلك حال دخول السلاجقة بغداد، فاضطر إلى الإقامة بالنجف، وكان ذلك سبباً
لتأسيس الحوزة الشيعية عام 448هـ. وحسب ابن الأثير أنه في سنة 510هـ أُحرقت مكتبة
المدرسة النظامية ببغداد، لكن الكُتب نجت بأعجوبة. قال: «احترقت خزانة كتب
النظامية، وسلمت الكتب. لأن الفقهاء لما أحسوا بنار نقلوها» (المكتبات في الإسلام
عن الكامل في التاريخ).
وبعدها كانت كارثة الكُتب إبان الغزو المغولي
(656هـ). إلا أن المؤرخين اختلفوا في تقديراتهم، بين مغالٍ قال جرت دجلة بلونين:
أحمر من كثرة الدماء وأسود من كثرة المداد. ومن دون ذكر أي رأي آخر ظل المعاصرون
يرددون تلك المقولة، مع أنها ليست ثابتة ولا مؤكدة في التاريخ. وجاء في رواية ابن
تغرى بردى (ت 873هـ)، وهو من المؤرخين المتأخرين بأكثر من قرنين على الغزو المغولي:
«خُربت بغداد الخراب العظيم، وأُحرقت كتب العلم، التي كان بها من سائر العلوم
والفنون، التي ما كانت في الدنيا. قيل: إنهم بنوا منها جسراً من الطين والماء عوضاً
عن الآجر» (النجوم الزاهرة).
وقد سبقه ابن خلدون (ت 808هـ)، وهو من المتأخرين
أيضاً، إلى القول: «ألقيت كُتب العلم، التي كانت بخزائنهم في دجلة، وكانت شيئاً لا
يعبر عنه». ويصعب قبول رواية تغير لون ماء دجلة، ولا رواية صناعة جسر من الكُتب.
وخلاف ذلك يذكر الفقيه والمؤرخ الحنبلي ابن الفوطي (ت 723هـ) في معجمه «تلخيص مجمع
الآداب في معجم الألقاب»، أن عالم الفلك الخواجة نصير الدين الطوسي (ت 673هـ)، الذي
كان أحد المرافقين لهولاكو مع فقهاء وعلماء آخرين، تكلف بحماية العلماء وحماية
المكتبات، فكلف بدوره شارح نهج البلاغة الشافعي ابن أبي الحديد (ت 656هـ) وآخرين
بإعادة الكُتب المنهوبة من الخزائن، والتي اشتراها أهل الحلة والكوفة أيام حصار
بغداد، قبيل الغزو.
وورد في «الحوادث الجامعة» لمؤلف معاصر للحدث: «كان
أهل الحلة والكوفة والمسيب يجلبون إلى بغداد الأطعمة فانتفع الناس بذلك، وكانوا
يبتاعون بأثمانها الكتب النفيسة وصفر المطعم». أما كُتب المدرسة المستنصرية فلم
يصبها أذى، وظلت المدرسة عاملة حتى القرن العاشر الهجري. إضافة إلى مكتبة
المستنصرية (افتتحت العام 631هـ) كان قبيل الغزو المغولي للخواص مكتباتهم، وفي
مقدمتها تأتي دار كتب الخليفة المستعصم بالله (قُتل 656هـ). قال أحد الشعراء في يوم
افتتاحها: «أنشأ الخليفة للعلوم خزانة.. سارت بسيرة فضله أخبارها». وقيل «شيد
(المستعصم) دارين للكتب وراءَها (سوق الرياحين)، وضع فيهما كتبه، ولم يصبها ضرر في
الحصار المغولي» (دليل خارطة بغداد).
ومن طريف ما يذكر خازن ونساخ مكتبة المستعصم بالله
من الأخير دخل يوماً إلى المكتبة على عادته، فشاهد فتى من الخدم نائماً، وسط هدوء
الكتب، متلففاً بالملحفة الخاصة بمقعد الخليفة، فلما شاهده أخذ يتحرك بهدوء حتى لا
يوقظه ويفزعه. قال الخازن: «نظرت فإذا هو الخليفة، وهو يستدعيني بالإشارة، ويخفف
وطأه فقمت إليه منزعجاً وقبلت الأرض. فقال لي: هذا الخويدم، الذي قد نام حتى تلفف
في هذه الملحفة، وصارت رجلاه على المسند متى هجمتُ عليه حتى يستيقظ ويعلم أني
شاهدته على هذه الحال تنفطر مرارته من الخوف، فأيقظه أنت برفق فإني سأخرج إلى
البستان ثم أعود» (ابن الطقطقي، الفخري في الآداب السلطانية). ويبدو أن المستعصم
بالله كان يقضي جل وقته في خزانة الكُتب، ذلك من الأخبار التي ينقلها المؤرخون حول
تواجده فيها، وتسيير الأمور السومية منها.
وإثر مكتبة الخليفة أنشأ وزيره مؤيد الدين بن
العلقمي (ت 656هـ) خزانة كتب عظيمة. قال فيها شقيق ابن أبي الحديد: «رأيت الخزانة
قد زُينت.. بكتب لها المنظر الهائل» (الحوادث الجامعة). عموماً، ما أُتلف من كتب
أثناء الغزو المغولي جاء في حوادث الحرب، وسقوط الدولة، وانعدام الحراسة، مثلما هو
الحال يوم التاسع من أبريل/ نيسان/ 2003، إلا أنه أُسترجع ما أُسترجع، ونُقل العديد
منها إلى منطقة مراغة، حيث الرصد الفلكي هناك. ولم يحدث لخزائن الكُتب من احراق
وتلف متعمد مثلما حدث في سوق المتنبي مؤخراً.
وربما يفاجأ مثقفو العالم، وهم يشاهدون النار تأكل
الكتب والتراث الثقافي والعلمي والأدبي العراقي، إذا علموا أن بين أروقة المدرسة
المستنصرية ومكتبها اخترعت قراءة وكتابة مكفوفي البصر، أي سبقت باريس وعالمها
(بريل) بسبعمائة عاماً، والمخترع هو مدرس المدرسة والمقيم فيها الكفيف زَين الدين
علي بن أحمد الآمدي (ت 714هـ). كان ذلك في زمن السلطان المغولي غازان خان (ت).
وطريقته نقلها المحقق ميخائيل عواد في كتابه «صور مشرقة من حضارة بغداد»، وصاحب
«الأعلام» خير الدين الزركلي من كتاب «نَكت الِهميان في نُكت العميان»: كان إذا
اشترى كتاباً أخذ قطعة ورق خفيفة، وفتل منها فتيلة صغيرة، وجعلها حرفاً على حساب
الحروف، ثم يقرأها باللمس.
إلا أن سوق الوراقة، التي ذكرها النديم، والمكتبات
التي ظلت قائمة بعد الغزو المغولي، لم يبق منها شيء في العهد العثماني. إذ لم يجد
الرحالة نيبور، الذي زار بغداد في القرن السادس عشر الميلادي، «سوقاً للكُتب»،
ويقصد بيع المخطوطات. ولا ريب أن العديد من المخطوطات، مثلما الآثار الإسلامية،
أخذت طريقها إلى استانبول، حيث عُمرت على حساب مدن أقاليم الإمبراطورية العثمانية
الأخرى. ولم ينشأ سوق الوراقين مجدداً إلا بداية القرن العشرين.
ووجود الكتاب المطبوع ليس بالجديد ببغداد، رغم
محدوديته، فقد نشر أيام الوالي المملوكي داود باشا (1830) كتاب «دوحة الوزراء»، من
مطبعة «دار السلام»، لرسول الكركوكلي. كذلك بدأت مطبعة الموصل الحجرية تطبع الكتب
منذ 1856، وذلك بجهود الآباء الدوميكان. ولا ندري، إن كان سوق السراي هو وريث سوق
الوراقين المذكور سلفاً، إذ تأسست فيه أوائل العشرينات مكتبات قليلة، مثل المكتبة
«العصرية»، ومكتبة «النعمان»، والمكتبة «الحيدرية»، والمكتبة «العربية»، ومكتبة عبد
الحميد زاهد وغيرها (عباس البغدادي، بغداد في العشرينات).
ثم تأسست في الثلاثينات مكتبة «المثنى»، التي يعد
صاحبها الوراق قاسم محمد الرجب (ت 1974) كأحد أهم تجار وصُناع الكتاب ببغداد، وله
مجلس أدبي في باحة المكتبة، ظل مفتوحاً حتى وفاته وقد أسس مكتبته بدكان صغير في سوق
السراي، وظل يتنقل بها من دكان إلى آخر حتى «اشترى بيت الدكتور صائب شوكت فحوله إلى
مكتبة المثنى في شارع المتنبي» (المطبعي، موسوعة أعلام العراق).
وكان للمثنى، التي تعرضت إلى حريق مدمر في نهاية
التسعينات من القرن المنصرم، فرع بساحة التحرير، من الباب الشرقي، وقد فهرسها
صاحبها بستة مجلدات، وصدر مجلة «المكتبة» الخاصة بعالم الكتب.
ليس لديَّ ما يفيد متى تحولت محلة الأكمكخانة، وتعني
محل صناعة الخبز أو المخبز العام، إلى شارع المتنبي حيث صناعة الكتاب وبيعه. وكانت
المحلة تعرف بالدنكجية (المميز، بغداد كما عرفتها) أي أصحاب مطاحن الحبوب، وهناك
كان المخبز المركزي، حتى أواخر العهد العثماني. وما شارع المتنبي إلا فرع من شارع
الرشيد، تحول إلى دكاكين لبيع الكتب، على الرصيف. وبطبيعة الحال، لا يألف هذا
المكان غير الكاتب والمؤلف والوراق والقارئ، بمعنى أن مكان الثقافة العراقية
الأخير، بعد أن حوصرت بهذا الحصار الخانق.
كان الضحايا من باعة الكتب أكثر من أربعين، ومن
الكتب لا يُعد ولا يُحصى. ويبدو من طبيعة الانفجار والحريق، ومن الآثار المدمرة أن
النية مبيتة لإزالة هذا المكان من الوجود، بعد أن أخذ يوفر الكتب ليس على هوى
الجماعات المتسيدة بالسري وبالعلن. فبعد سقوط النظام، وإلغاء القوانين والتعليمات
المقيدة للكتب توافر في شارع المتنبي الأضداد من العناوين، تعرض جنباً إلى جنب.
كانت الندوة الشعرية، ومذاكرة الشعراء والأدباء،
لمكانهم العاري من الحماية، تشبه كثيراً فواجع البراكين، وما تخلفه من حطام. لذا
كانت منصة المراثي، التي ألقاها الشعراء إثر الكارثة، مزيجاً من الرماد والدم، نعوا
فيها الوراقين، ونادل مقهى الشابندر وجلاسها، ذلك المقهى الذي نشأ في ركن الشارع،
وكان محلاً لمراجعي دوائر سراي الحكومة، ثم تحول إلى مكان لراحة المتجولين في شارع
الثقافة، وبين بسطات الكتب، الأصلية منها والمستنسخة. لم يبق من المكان غير ذكرى،
ورماد لا بد أن يخرج منه طائر الفينيق، مكان تدرج من صناعة الخبز إلى صناعة
الثقافة.
ان (شارع المتنبي) او ما يطلق عليه بسوق الكتب يعد
من أقدم شوارع مدينة بغداد وأحد أبرز معالمها، ويتصل به سوق السراي التراثي المتخصص
أيضا ببيع الكتب والقرطاسية، وعلى مقربة منه تقع منطقة (القشلة) التي كانت مقرا
للحكومة العراقية في العهدين العثماني والملكي، وشهدت تتويج الملك فيصل الأول سنة
1921، وتحتفظ المنطقة التي يقع فيها الشارع بمعمارها القديم، وهي تمثل شاهدا ومعلما
تاريخيا لمدينة بغداد القديمة، فيما يمثل شارع المتنبي فيها رئة تنفس الثقافة
العراقية، وتعد مقاهيه وأشهرها (مقهى الشاهبندر) ملتقى الأدباء والمثقفين والكتاب
والفنانين.
ويمتد تاريخ شارع المتنبي الى العصر العباسي اذ كان
يسمى بدرب زاخا وهي مفردة آرامية، وكان مشهورا بالمؤسسات الثقافية والدينية ومنها
مدرسة الامير سعادة الرسائلي، ورباط ارجوان (أي تكية ارجوان)، وفي العهد العثماني
سمي بشارع (الاكمك خانة) أي المخبز العسكري.
ومن ابرز الذين عملوا في شارع المتنبي عبد الرحمن
افندي الذي كان يبيع الكتب بالمزاد عام 1890، وفي عام 1900 كان الملا خضير يمارس
عملية بيع الكتب والمجلات في الشارع، وبعد وفاته جاء ابنه عبد الكريم، الذي اسس
مكتبة المشرق، فيما أسس نعمان الاعظمي عام 1905 المكتبة العربية، وكذلك مطبعة
كبيرة.
ومع بدايات الحرب العالمية الاولى اسس محمود حلمي
عام 1914 المكتبة العصرية، فيما اسس عام 1920 شمس الدين الحيدري المكتبة الأهلية،
وبدأت في حينها بنشر كتب مؤسسة فرانكلين. وفي عام 1932 اسس حسين الفلفلي مكتبة
الزوراء، التي استمر احفاده في مزاولة مهنتهم فيها، كما اسس قاسم محمد الرجب مكتبة
المثنى، وسميت بالمثنى تيمنا بنادي المثنى القومي، وفي ذلك الوقت اتفق مع دور النشر
المصرية لتوريد نتاجاتها من الكتب المختلفة، ومن اعمالها ايضا اعادة طباعة قصة الف
ليلة وليلة.
وتجدر الاشارة الى ان هنالك العشرات من الذين أسهموا
في نشر الثقافة في شارع المتنبي منهم محمد جواد حيدر، صاحب مكتبة المعارف، وعلي
الخاقاني، صاحب مكتبة النجاح، وعبد الرحمن حسن حياوي، صاحب مكتبة النهضة، فيما كان
عبد الحميد الزاهد احد رجالات ثورة العشرين، من الذين يبيعون الكتب بالمزاد في شارع
المتنبي خلال تلك الفترة.
المصدر:
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=119776