عندما وقعت احداث الحادي عشر من سبتمبر، وما تبعها من زلزال اصاب العالم، وتخبط في الافكار والرؤى، انتظرتُ بفارغ الصبر صدور العدد اللاحق لمجلة "وجهات نظر"، وتحديدا مقال الصحافي والمحلل السياسي، محمد حسنين هيكل، الذي توقع فيه ان الفاعلين هم من الصرب، نافيا ان يكون العرب خلف تلك العمليات الاربع. وقد وضع لاستنتاجه مبررات من ضمنها قوله: "ومما يزكي ان الفاعل طرف آخر ان الخيال الذي اُستعمل غير مطروق (مسبوق) في حين ان الخيال القديم حتى مع تجدده فإنه يبقى معتمدا على التجربة. ولكن الخيال في هذه العملية لديه جسارة قوية، حتى انه لا يستند الى التجارب".
الانسان المعاصر أقل قدرة على الخيال من اسلافه، ومرد ذلك تعقيدات الحياة المدنية، والاستسلام للصور (وليس الرسوم) المتحركة طيلة ساعات طويلة، سواء أكانت عبر المحطات التلفزيونية، او السينما، او غيرها من الادوات التي اخترعها الانسان لعرض هذه الصور، والتي تلازم الفرد تأثيراتها لفترات تقل او تطول. ولذلك ليس غريبا أن تكون صناعة المشاهد المتحركة من اكبر الصناعات المدرة للربح على اصحابها في العصر الحالي.
وقد أدت سيطرة الصورة إلى تراجع الكلمة المقروءة في العالم العربي، كما في العالم الغربي أيضا. ونجد أن جزءا من حماس اليوم لعمل مقروء إنما سببه انتشار هذا العمل اعلاميا بعد تحويله الى فيلم. ولذلك، فاذا كنا نحفظ اسماء بعض الروائيين، إلا أننا نحفظ بالكاد اسماء بعض لشعراء العالميين.
ويعود هذا برأيي الى ان الخيال الموجود بالشعر الحديث هو خيال مريض والى كسل العقل العربي في البحث عن الخيال حين يكون موجودا فقد استعاض الانسان بالآلات في امور كثيره من ضمنها الخيال الذي هو اهم ما يميز الانسان عن جيرانه.
واذا كان مفهوم الخيال متعدد الاوجه فإنه على الاقل ليس ما يريده سارتر من ان الخيال هو تكوين صورة عن شيء او شخص ليس حاضرا بالفعل. هذه المقولة هي جزء من الخيال بشكل عام، وليست هي من الخيال الابداعي الا في حيثيات بسيطة، وكثيرا ما نلاحظ في اعمال بعض الروائيين الذين حاولوا استشراف افاق اوسع للخيال انهم يقعون في مطب معاندة الواقع ظانين انهم بهذا يفتتحون مجالات غير مطروقة. وهذا يذكرني بكتاب مدرسي قرأته مرة يتحدث عن الابداع حيث ضرب المؤلف امثلة كثيرة عن الابداع في مجالات متعددة، ومن هذه الامثلة قوله مثلا: ان الناس اعتادوا الذهاب الى المطاعم للأكل، والابداع في هذا المضمار هو من جاء وجعل المطاعم هي التي تذهب الى الناس، وامثلة اخرى من هذا النوع. وبهذا المفهوم وجدنا شعراء حداثيين كان الخيال لديهم هو ان يصفوا الدموع وهي ترتفع الى العين بدل ان تهبط منها، والى الجنين الذي اصبح يولد من الفم، كان هناك تعريف قوي بان الابداع هو عدم النظير بمعنى عدم المشابه. ولكن السؤال هو عدم المشابه في ماذا؟
الخيال هو الابتعاد عن الذات لمستويات هائلة دون قطع العلاقة الاصلية مع الذات وهو اشبه بالتحليق على ارتفاع منخفض، وهو منخفض حتى لا تُفقد الصلة بالواقع الذي هو مرتفع بالقياس اليه او هو مُتخيل من اجله، وأكثر ما اجده موضحا لهذه الفكرة هو ما قاله كانط في بداية كتابه نقد العقل المحض: لا تتقدم اي معرفة لدينا زمنيا على التجربة، بل معها تبدأ. وكل معرفتنا تبدأ من التجربة، ولكن هناك سؤال يواجه هذه المسلمة؛ كأن يقال ان رجلا قوض اساس بيته، وهذا الرجل كان في وسعه ان يعلم مسبقا ان البيت سوف يسقط وهو يعلم هذا دون ان يكون قد شاهد بالتجربة سقوط بيت قوض اساسه؟ وهنا يجيب كانط: ومع ذلك كان بإمكانه ان يعلمه مسبقا على نحو كلي تماما ذلك انه كان يجب ان تكون التجربة قد قادته الى ان الاجسام ثقيلة وانها تقع ما ان ترتفع دعائمها.
لو حاولنا ان نتخيل كائنا غير موجود على الارض فإننا لا نستطيع ذلك الا اذا كان هذا الكائن مكون من عناصر نعرفها ونقوم فقط بخربطتها، وهذا يذكرني بالجواب الذي كنت اواجه به دائما عند هذه النقطة، وهي القول ان هناك من تخيل صور رجال من المريخ وهم غير موجودين، بل ان اشكالهم مخيفة، وهناك من كان يذكرني بالكائن الاسطوري العنقاء او التنين الذي يخرج النار من فمه. ولكن كل هذه الاشياء والصور مكونة من اقدام وارجل وعيون وريش.. الخ، وكل ما فعلناه هو تكبير العيون او نقلها او تصغير الاقدام ونحو هذا. حتى لو استطعنا اكتشاف طرق اخرى للحياة غير معهودة لدينا ولا تعتمد على ما هو متعارف من مكونات المادة فإننا حتى لو فعلنا هذا فلم نفعل شيئا لأننا لا نعرف عن العدم سوى انه نقيض الوجود ونحن بالاساس لا نستطيع تخيل انفسنا دون زمان ومكان.
الخيال الابداعي هو الانطلاق نحو امكانيات غير مجربة، بالمعنى الذي ذكره هيكل سابقا، ولهذا الاعتماد على التجربة القديمة يُبقي المرء اسير محاكاتها، واعتقد ان هذا كان فيما سبق سبب ضمور الخيال الابداعي عند الشعراء الاسلاميين الذين بقوا في محاكاة الشعر الجاهلي. واعتقد ان هناك سببا اخر هو حب الشعراء الأوائل لدينهم الجديد الذي ملأ حياتهم والذي جعل لبيد مثلا يقول كيف اقول الشعر بعد ان علمني ربي سورة البقرة وال عمران. مع ان الامانة تجعلنا نعترف ان الاسلام لم يكن يريد منهم هذا بل ان الدين الاسلامي كان ممتلئا بالخيال الابداعي الذي جعل البدو في ذلك الزمان يوقنون انهم سيملكون ملك كسرى وقيصر. وكلمة خيال هنا ليست انتقاصا من قيمة الوحي، بل هو الايمان القوي بالوحي، الذي جعلهم يؤمنون بقيمته الفكرية.
بالعودة للشعر العربي نجد ان النمطية التي اختزلت الشعر العربي القديم في محاكاة الجاهلي استمرت حتى مجيء ابو تمام رائد المذهب الجديد في الشعر، كما كان يقول الصولي، ولهذا كان ابو سعيد الضرير قد قال لأبي تمام حينما لقيه: لماذا لا تقول من الشعر ما يفهم، فكان ابو تمام يجيبه: لماذا لا تفهم من الشعر ما يقال!
ولكن محاكاة ابي تمام هي التي جعلت الشعراء الذين جاءوا بعده وبعد المتنبي يحاكونهم، بل ان الشعراء الاسلاميين الى اليوم لا يتقدمون على شكل القصيدة الحديثة لاعتقادهم انهم يتشبهون بغير المسلمين.
ان الشعر العربي الحديث باستثناء اسماء قليلة؛ هو اما مكرر واما غير مفهوم. بل حتى ان النقد الادبي بعد الثمانينات اصبح طلاسم ومصطلحات كثيرة من النادر ان نجد من يفهم هذه المقالات النقديه.
سمير سعيد عمل استبانة سأل فيها المختصين بالادب والشعراء والروائيين عن نسبة فهمهم للنظريات النقدية التي يكتب عنها نقادنا العرب الحديثون؛ فقد كانت الاجابة انهم لم يفهموا شيئا من هذه النظريات وهناك من فهم جزءا بسيطا منها فقط.
الخيال الذي يبتعد عن الواقع الى درجة يصبح فيها الواقع مُغيبا هو خيال مريض، ولا اعتقد ان مفهوم الحياة عند المؤلف يمكن ان يغيب عن عمله بل اصبح علماء النفس وفلاسفة القرن العشرين يذكرون في كتبهم ابطال الروايات وكأنهم يتحدثون عن اناس من لحم ودم. وهذا واضح ان المؤلف لا يمكن ان يتخلى عن روحه في نصه، واذا كان النقاد يذكرون شكسبير كاستثناء لهذه القاعدة حيث كانوا يقولون انه من المستحيل معرفة شيء عن حياة شكسبير من خلال اعماله فإن هذا ليس على اطلاقه فكم من علماء "شكسبيريين" كانوا يعتقدون ان مسرحية العاصفة هي سيرة ذاتية لشكسبير.
وها هو فرويد وضع كتابا كاملا عن هاملت وعقدة اوديب، ولكن هذا لا يعني ان يكتب الكاتب عن نفسه حين يكتب نصوصه الابداعية؛ فليس من يكتب عن الخيانة يكون قد خان زوجته مثلا، او تمنى ذلك، بل هو يكتب من دافع نظرته الى الحياة.
وهذا يذكرني بسخف النقاد الذين يبحثون في نصوص شاعر ما عن كلمه قالها شاعر قبله فيصبح هو متأثرا به.
الخيال الخافت هو سمة القرن العشرين وهو لا يتمحور في الادب، بل يلقي بظلاله حتى على الفلسفة التي اصبحت تأويلية وغاب عنها الافق الرحب والتنظير الى المستقبل وكأن تنبؤات ماركس الفاشلة عن حتمية قيام المجتمع الاشتراكي بقيت أمام الفلاسفة فخشوا ان يتكلموا عن المستقبل كما تكلم هو بثقة وخشوا ان تلقى افكارهم السخرية بالمقابل.
العقل البشري، اليوم، استعاض بالآلة عن وظائف كثيرة له، واستعاض بالصورة المتحركة عن الخيال، واصبح يبحث فقط عما يبقيه حيا اكثر من بحثه عما يبقيه
نشر في جريدة الغد الاردنية في 31-7-2007