بتسام تريسي: جبل السماق - بقلم نبيل سليمانمجلة الرواية
منذ نصف قرن والرواية في سورية تدأب على الحفر في النصف الأول من القرن العشرين، فتعود إلى نهاية عهد الاستعمار العثماني (التركي) وإلى عهد الاستعمار الفرنسي. هكذا تواترت روايات صدقي اسماعيل (العصاة) وحيدر حيدر (الفهد) وفارس زرزور (لن تسقط المدينة ـ حسن جبل) وخيري الذهبي (ملكوت البسطاء) ونسيب الاختيار (سقوط الفرنك)... وكل ذلك قبل أن تأتي رواية هاني الراهب (الوباء) لترسم لحظة حاسمة في هذا الحفر، ستؤكدها في تسعينيات القرن الماضي ثلاثية خيري الذهبي (التحولات) وثنائية فواز حداد (دمشق موزاييك 39 ـ تياترو 49) ورباعية (مدارات الشرق) لكاتب هذه السطور. أما ثنائية نهاد سيريس ورباعية نادية خوست فقد مالت بهما (الرواية التاريخية) عن (الحفر في التاريخ). وبين هذين الشاطئين توالي الرواية في سورية اشتغالها حتى اليوم، حيث يتعلق الأمر باستثمار الوثيقة وحرية التخييل مقابل غلبة التأرخة والوقائعية، لا فرق في ذلك بين كاتب مخضرم مثل ممدوح عدوان في رواية (أعدائي) أو فيصل خرتش في رواية (حمّام النسوان) وبين كاتبة من الجيل الجديد في روايتها الأولى مثل روزا ياسين حسن في (أبنوس) وابتسام تريسي في (جبل السماق سوق الحدادين). ومن اللافت أن هذا الاشتغال الروائي على النصف الأول من القرن العشرين قد تواكب مع اشتغال الفورة الدرامية التليفزيونية السورية على الفترة نفسها، كما بدا في المسلسلات الشهيرة (خان الحرير ـ الثريا ـ حمام القيشاني...)
جاءت رواية ابتسام تريسي في 425 صفحة. وكانت الكاتبة قد حصلت على جائزة سعاد الصباح عن مجموعتها القصصية (جذور ميتة) التي تميزت بالعناية بالتفاصيل، مما سيتضاعف في رواية (جبل السماق سوق الحدادين) التي تركّزَ فضاؤها في بلدة أريحا وقرية حناتو من الشمال السوري، مع الامتداد في جبل الزاوية والمعرة وحلب. وقد تصّدرت الرواية بتنويه الكاتبة بأن معظم أبطال الرواية عاشوا في بلدتها الصغيرة (أريحا) وبأنه ثمة «شخصيات اقتضتها الضرورة الروائية»، فكأن الكاتبة تعلن غلبة الميل إلى سبيل الوثائقي والوقائعي، وهذا ما سيبدأ في الفصل الثاني، حيث يمضي الاسترجاع إلى عهد السفر برلك والحرب العالمية الأولى ونهاية العهد العثماني، كما سيمضي إلى زمن ثورة ابراهيم هنانو ضد الاستعمار الفرنسي والهزيمة التي انتهت الثورة إليها، ومحاكمة قائدها، وما كان من القادة الفرنسيين (الجنرال غويو والجنرال ده لاموت والعقيد فوان) ومن قادة الثورة (نجيب عويد ونجيب السخيطة).
بخلاف ذلك بدأت الرواية في فصلها الأول من لحظة تالية في ثلاثينيات القرن الماضي، ومن بوسطة (أبو النوري) وركابها، ومن الأسرة التي ستتمحور حولها الرواية على الرغم من أنها ستعج بمئات الشخصيات. بل إن الرواية ستخصّ ببطولتها الفتى إبراهيم من تلك الأسرة، إذ تعود إليه كلما طوّحت في التأرخة أو في متابعة حيوات الآخرين. وبينما يستأثر ضمير الغائب بسرد تلك المتابعة، يستأثر ضمير المخاطب بسرد ما يتعلق بإبراهيم الذي يساعد أباه في دكان الحدادة، ويكابد حرمانه من التعليم مقابل أخيه من زوجة أبيه الثانية والذي خصّه الوالد بالتعليم. وسوف تنظم تلك المكابدة بناء الرواية سنة فسنة إلى أن يتحقق جلاء الاستعمار الفرنسي عن سورية، ويبلغ إبراهيم شهادة (السرتفيكا)، بعون من زوجة أبيه الثانية (فاطمة)، وهي الشخصية الروائية التي تضاهي بحضورها شخصية ابراهيم أو والده أو أي من الشخصيات المتخيلة وغير المتخيلة. ولعله يلاحظ هنا أن امتياز حضور الشخصية بعامة في الرواية قد كان للمرأة. فبعد فاطمة في القرية تأتي من المدينة شخصية العاهرة فضة، وبدرجة أدنى تأتي الكثيرات من الريف ومن المدينة، حيث لا تفتأ كاميرا الرواية تنتقل بين هذين الفضائين كأنها كاميرا مسلسل تيلفزيوني. وفي هذا الانتقال تتدافر الأحداث من المعاهدة السورية الفرنسية عام 1936 إلى الاستقلال ورئاستي الشيخ تاج الدين الحسيني وشكري القوتلي إلى الجلاء عام .1946 وقد خففت من وطأة هذه التأرخة سرود شتى، منها ما هو من الحكايات الشعبية (حكاية حسان البرج وعنقة بنت الريم مثلاً) ومنها ما هو مشاهد الإيمان الشعبي (مشهد دوس فرس الشيخ على المرضى لإبرائهم).. وعبر ذلك خفف الحوار من سطوة لغة الوثيقة أو التأرخة، وكان لتوشية الحوار بالعامية دور ملحوظ في ذلك التخفيف، كما كان للتفاصيل البيئية وللمتناصات من الأهازيج والمواويل والأناشيد والأمثال دورها.
لقد ثمّن الروائي الكويتي المعروف اسماعيل فهد اسماعيل رواية ابتسام تريسي عالياً، إذ لاحظ ـ فيما حمل غلاف الرواية من قوله ـ أن الكاتبة تعمّق في الرواية (ميزة) العمل على تفاصيل الحياة اليومية «لتواجه عصراً محتدماً بالأحداث والصراعات عبر ما يمكن أن ندعوه سجادة مترامية المساحة، مشغولة كما الفسيفساء الدقيقة، حيث ينهض الجزء الصغير المتناهي بدوره الحيوي في الحركة الكلية المنتظمة لسياق النص». ويختم اسماعيل فهد اسماعيل احتفاءه بهذه الرواية بقوله: «نصّ جريء يرقى إلى مستوى التوثيق أو التسجيل بمحاولة لإعادة كتابة التاريخ روائياً». وسواء بدا هذا الاحتفاء أكبر من الرواية ـ كما أرجّح ـ أم لا ففي شطره الأخير ما ينصفها لو أنه خلا من كلمة (يرقى). فمستوى التوثيق أو التسجيل ليس بالضرورة المستوى الأرقى، مثله مثل المحاولة الجادة لإعادة كتابة التاريخ روائياً، فالأَوْلى بالأرقى هو الحفر الروائي في التاريخ، ومنه استثمار الوثيقة، ما دمنا بصدد الفن الروائي، ولسنا بصدد السردية التاريخية.
http://www.alrewaia.com/show.php?p=post&id=1222