بانتظار الصياد
المكان: حديقة الأم في حيفا, قدومي إلى هناك دون نقود ودون ثمن رغيف فلافل كان غريبا، حتى قدومي وحدي لذلك المكان دون صديقات يثرثرن كان أغرب, فهذا المكان لم أعتد زيارته وحدي, ربما لأنه مكان عام جدا لا يخلو أبدا من وقع أقدام الناس ومن صياح الأطفال اللذين يأتوه يوميا لزيارة حديقة الحيوانات الموجودة هناك. تلك الحديقة التي تاهت بها صديقتي هالة عندما كنا في الصف الثاني الابتدائي, أذكره جيدا, أذكر ألمي ودموعي التي ذرفتها على هالة الجميلة, فقد ظننت أن النمر ابتلعها أو أنها سقطت سهوا في قفص الدببة.
بكيت بصمت وانتظرت الصياد بصمت, بحثت عنه بفكري وخيالي وعيوني, في كل مكان, في غابات الجليل وشواطئ حيفا, حتى حاكورة جدي كان لها نصيب بالبحث, لكن الصياد وقتها لم يأت للحديقة ولم ينقذ هالة.
هذا الصياد رافقني طيلة حياتي منذ كنت طفلة صغيرة. أحببته كثيرا وانتظرته كثيرا, وتأملت مجيئه كل لحظه, عند ذهابي للروضة والمدرسة, وعند دخولي الحمام ليلا, وعند اللعب مساء في أزقة الحارة, والذهاب خريفا للحوا كير النائية لقطف بخور مريم. كنت أدرك أني لو وقعت في خطر فسوف يأتي هذا الصياد وينقذني.
هل سيأتي الصياد؟
كنت أتساءل إذا كانت ستمر هالة من هنا ثانية فحتى هذه اللحظة لم أعرف من كنت انتظر. هل انتظرت الأطفال أم انتظرت الصياد, أو إني انتظرت هالة وريما وعزمي ويوسف وبقية أقراني.
آه..... يوسف
يوسف, صديق طفولتي ذو العيون العسلية والشعر الكستنائي الفاتح, ملك الصف وحبيب الإناث. لكن يوسف غرق وفارق الحياة عندما كنا في الصف الرابع الابتدائي, حدث هذا في احد كوانين تلك السنة, بعد عودتنا من المدرسة وتجمعنا للعب في احد الأماكن النائية نسبيا عن القرية, حيث تواجدت هناك حفرة فيها ماء ووحل. أذكر صراخنا جيدا, هو يرن في أذني الداخلية في هذه اللحظات. أذكر دموعنا, وأذكر صراع يوسف مع وحل الشتاء, وأذكر انتظاري لصياد العصافير في ذلك الشتاء, كي يأتي وينقذ لنا يوسف الجميل.
هل سيأتي الصياد؟
صارع يوسف الماء كثيرا, تخبط بداخله, رأينا موته البطيء وصراع روحه مع جسده العالق في الوحل. عبء التجربة كان ثقيلا علينا وظالما, فهي محاولة لاستيعاب ماهية الموت والقبور والفراق. مات يوسف وخفت صراخنا والصياد لم يأت. لم يسمع, لم ينصت, فالغابة الكبيرة كانت بعيدة جدا عنا.
ذكرى يوسف كانت ألم طفولة سحبته معي سنين طويلة. وها انا ما زلت أجره في داخلي إلى الآن. فعندما يهب ذلك الزمهرير الحزين تصيبني حالة تشنج فكري. إني أراه الآن أرى عيونه المقلوبة ولعابه الخارج من فمه. أرى تابوته الصغير الذي انطبع في فكري وخيالي منذ تلك الفترة.
هل سيصل نصي إلى يوسف؟
هل سيصل نصي إلى هالة؟
لو أن هالة تعرف إني أراها هنا قبالتي بعد مرور كل تلك السنين, أو إني أتذكر ضياعها وألمها لعادت وبحثت عن نصي وعن جميع نصوصي لتبحث بها عن ذاتها وعن قدسيتها.
لو أدرك يوسف ذو الجثة الهامدة على سفح الجليل انه مر من هنا ثانية, لأرسل لي جميع الزنابق التي وضعناها على قبره يوم رحيله, لكن كيف سيدرك يوسف هذا؟ فتابوته أصغر من أن يستوعب سيل دموعي ودموع الأطفال, أصغر من يستوعب ألم الذكرى وعبء الموت.
فكري كان سارحا من سفح الجليل حتى حيفا. من صياد إلى صياد. من ذكرى إلى ذكرى ومن ألم إلى ألم. إحساسي بالوقت كان معدوما، لم اشعر بالضجيج الخارجي وصيحات المارة وصوت السيارات. لم أكن أرى سوى الماضي الكامن في داخلي, فالأصوات اختلطت في داخلي الحزين والمتخبط, صوت يوسف الجميل وصوت هالة الشقراء وصرخاتنا التي تداخلت بصوت نغمات عود كنت اسمعه في صغري صباحا ومساء. إحدى هوايات والدي في شبابه.
أخذني النسيم إليك والدي.
أخذني الصياد إليك يوسف.
أخذتني حيفا إليك هالة.
أخذني الانتظار إليك أيها الصياد.
هل حقا سيأتي الصياد؟
لن يأتي الصياد أبدا. انتظرته طفلة لئلا يخرج من بيت جدة ليلى, ذات القبعة الحمراء, ويأتي ليقتل الحيوان المتوحش الذي ظننته انه بلع هالة صديقتي. انتظرته طفلة لئلا يترك الغابة ويأتي لينتشل يوسف قبل أن يفارق الحياة, انتظرته كثيرا ولم يمر, فهل سيأتي الآن في هذا المساء لينتزعني من الكائن الأول الموجود في داخلي؟ لينتزعني من يوسف وهالة والانتظار على شرفة الجليل؟
خفت ضوء النهار. خفت ضجيج الناس. خفت صوت العود. خفت صوت والدي. خفت صراخنا. سحبت حقيبتي ومضيت إلى الفراغ ابحث عن الصياد
قراءة في نص الكاتبة نبال شمس ـ بانتظار الصياد ـ
د. نجم السراجي
تقف الكاتبة نبال شمس فوق قمة جبل وتمسك غيمه تخط فيها وفي الفضاء المفتوح عنوان القصة ـ بانتظار الصياد ـ ، تجعلنا نتابع بأنظارنا مصير هذه الغيمة في السماء.
ترسم بعدها وفي ذاكرتها وخيالها الخصب شخصيات هذه المشاهد الدرامية وتعطي رمزا لكل شخصية لأنها تتحدث عن قضية خاصة ليست كباقي القضايا ؟ تتحدث عن وجدان وبوجدان وذات تتألم حزنا على ما فقد ـ الأرض ـ القضية ـ الأمل ـ
هنا نحن أمام مشاهد متتالية تروي مأساة الضياع مأساة الشرف المهدر ، مأساة تسويف قضية فلسطين من قبل العرب فأصبحت ذلك الحلم الضائع الذي نبحث عنه منذ الطفولة ، نتمناه ، نود رؤيته ، نحلم به ،
تبدأ الكاتبة بمقدمة تقدم فيها بشكل انسيابي رقيق ومتسلسل المكان والزمان والشخوص والحدث واستحضار الحاضر والغائب والمستقبل وتصّفهم وتضع كل في محله :
ـ المكان : حديقة الأم في حيفا ـ فلسطين ـ التي عبرت أو رمزت لها بــ ـ هالة ـ الضائعة بين مخالب الوحوش ، هالة الجميلة ...
ـ الزمان : عند الصغر ، حين كانت في الابتدائي وهو زمن النكبة والمصيبة الكبرى ، هو زمن ضياع الأرض والقضية ...
ـ يوسف : المقتول ... الغارق في الوحل هو ـ القضية الفلسطينية الغارقة في الوحل العربي والمؤتمرات والمقررات والتوصيات والاجتماعات والقمم والطبخات السياسية والوعود الكاذبة وخرائط الطرق والكروش والصفقات و و و ....
ـ الصياد : هو صياد العصافير فارس أحلام الكاتبة التي تحلم فيه حتى في حمامها وفي منامها
ــــ (( هذا الصياد رافقني طيلة حياتي منذ كنت طفلة صغيرة. أحببته كثيرا وانتظرته كثيرا, وتأملت مجيئه كل لحظه, عند ذهابي للروضة والمدرسة, وعند دخولي الحمام ليلا ـــ((
هو الأمل الذي يطارد صاحبة القلم ـ وهي ـ الشعب الفلسطيني ـ الذي تتحدث بدمعه وآلامه وليس باسمه وهي ترقب الطريق ودالية الكرمل وشواطئ الجليل تنتظر الصياد ـ الأمل ـ يأخذها يطير بها ، لكنه لم يأت ... خمسون عاما من الانتظار يبدو أنها لا تكفي لتروي عطش كبرياء الحكام والأحزاب ووعاظ السلاطين ....
)) لن يأتي الصياد أبدا. انتظرته طفلة لئلا يخرج من بيت جدة ليلى, ذات القبعة الحمراء, ويأتي ليقتل الحيوان المتوحش الذي ظننته انه بلع هالة صديقتي ((
تعود الكاتبة الرائعة في سردها المشوق إلى حجم المأساة وهي تتحكم بالأحداث والشخوص والأماكن والأزمنة بشكل فني تقني وتسيطر عليها وتتقن الحركات والتنقل بشكل متميز فتجد نفسك معها في المدرسة ، في الحي ، في ذكريات الطفولة ، مع يوسف ، مع الصياد ، مع هالة ، وتجد نفسك في اكثر من مكان في أن واحد وتسمع اكثر من صوت ونداء وانين وصدى وتسمع معها عود أبيها وعزفه الذي أحبته والذي يمثل اللحن الفلسطيني والتراث الفلسطيني والحضارة والأهازيج الشعبية والدبكات والرقصات الجماعية والعلاقات الاجتماعية ، هي بمجملها ـ صورة الحياة في الوطن ـ فلسطين ـ قبل النكبة والاحتلال ... وترى معها قبرـ يوسف ـ (القضية ) الصغير وتابوته الصغير !
)) فتابوته أصغر من أن يستوعب سيل دموعي ودموع الأطفال, أصغر من يستوعب ألم الذكرى وعبء الموت ))
هنا تدخل الكاتبة في حالة ـ المقارنة ـ وهي حالة تناسبية ـ عكسية ـ بين حجم التابوت والقبر وعظم المأساة التي عبرت عنها بألم الذكرى وعبء الموت وهذا الترابط الموفق الموغل بالرمزية والبلاغة اللغوية والتعبيرية يعبر عن دلالات واقعية تعكس من خلالها حالة المواطن الفلسطيني النفسية في الداخل والخارج وهي حالة الصراع مع الموت :
(( صارع يوسف الماء كثيرا, تخبط بداخله, رأينا موته البطيء وصراع روحه مع جسده العالق في الوحل.))
صارع يوسف الموت ( الماء ، وحْـل الاحتلال ) وقاوم وهي إشارات إلى المقاومة الفعلية ودماء الشهداء والتضحيات وحجارة الأطفال بعيدا عن الأسماء والمسميات والعناوين ، وتمسك بالأرض ، شجرة الزيتون القدسية ، واحات الكرم وشواطئ الجليل ونخلة غزة الشامخة ، أنين القدس اليومي ، و ... و ... و كل المأساة ،
في نهاية المشوار وبعد تفاصيل الأحداث في هذا النص المفتح الأبواب القابل للتأويل والتحليل والموسم بمساحات التأمل التي تركتها الكاتبة على سطح النص تختم الكاتبة نبال شمس كل هذه المشاهد بنوبة وعاصفة من اليأس والانكسار النفسي بعد سلسلة من التساؤلات :
ـ (( هل سيأتي الصياد ؟ ))
ـ (( هل سيصل نصي إلى يوسف؟ هل سيصل نصي إلى هالة ؟ ((
تقودها هذه الحالة النفسية السلبية إلى الإحساس باليأس المطبق وعدم الرؤيا بوضوح لضبابية الموقف وكثرة الهزائم والوعود الكاذبة والمماطلة والتسويف والخيانة والتقصير والتخاذل والنكبات والنكسات والمعارك الاستهلاكية الاستعراضية المسرحية الخاسرة والشعارات الرنانة والمزايدات الثورية لتنتهي بقتال الاخوة وتجزئة الجزء !!!
وهي أي الكاتبة ترى أمامها ، بأم عينيها هذا الأمل ـ صياد العصافير الذي تبحث عنه في كل الأماكن في وجدانها وفي ذاتها المنهزمة هو الآخر مهزوما مخبئا تحت جلده يقرض أجزاءه قطعة تلو أخرى حتى مات في ذاته وفي نفسها
(( انتظرته كثيرا ولم يمر, فهل سيأتي الآن في هذا المساء لينتزعني من الكائن الأول الموجود في داخلي؟ لينتزعني من يوسف وهالة والانتظار على شرفة الجليل ؟ ))
لكنه لم يمت في وجدانها ولأنها تعلم تماما انه موجود ومن مات لم يكن الصياد الذي تنتظره ـ فارس أحلامها ـ أملها ـ أمل شعب بأكمله ـ لكنها لا تعلم أين تجده وكيف تجده وقد أعياها البحث والانتظار الممل فسحبت حقيبتها ومضت إلى الفراغ تبحث عن الصياد ـ الأمل ـ
(( سحبت حقيبتي ومضيت إلى الفراغ ابحث عن الصياد .. ))
والفراغ هو الخواء ، اللاشئ ، لكنه ليس العدم !
شكري وتقديري لك أيتها المبدعة على هذا النص الموغل في العمق ، البعيد عن الكلاسيكية والتقليدية في كتابة النصوص ، مزيج من الدراما والمؤثرات الخارجية التي تعكس صورها على الذات في الداخل ، هو العمق الذي نبحث عنه ليحرك أحاسيسنا بصدق وهو الأدب المتميز الذي يجب أن يشار إليه ونتعلمه .
تحياتي واحتراميالدكتور نجم السراجي
النمسا 2007-09-14